موريتانيا 2019... عام من التناوب والصدام

كان 2019 عاماً ترقبه الموريتانيون بفارغ الصبر لأنه حمل الإجابة عن سؤال ديمقراطي أرَّقَهم كثيراً، يتعلق بمدى التزام الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز بنص الدستور، وهو الذي وصل إلى الحكم في آخر انقلاب عسكري تشهده موريتانيا (2008)، لكنه سرعان ما نظَّم انتخابات فاز بها عام 2009. ومع نهاية ولايتين رئاسيتين يمنحهما له الدستور (مدة كل منهما خمس سنوات)، كان جميع الموريتانيين يتساءلون إن كان الرجل سيلتزم بالدستور ويخرج من الباب الكبير، وهو ما حدث بالفعل شهر يونيو (حزيران) الماضي، حين سلم السلطة لصديقه ورفيق السلاح محمد ولد الغزواني. لكن عملية التناوب السلمي على السلطة، التي احتفى بها الموريتانيون، سبقتها مطبات بالجملة، وأعقبها صراع داخل دهاليز الحكم، وحدثت في أوج «حالة طوارئ غير معلنة».
بدأت القصة منتصف شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، عندما كان موعد الانتخابات الرئاسية على الأبواب (بعد 6 أشهر فقط)، حيث قدَّم مجموعة من نواب حزب «الاتحاد من أجل الجمهورية» الحاكم عريضة تطالب بإعادة كتابة دستور البلاد عبر البرلمان، وقَّع عليها أكثر من مائة نائب (مجموع عدد نواب البرلمان 151 نائباً). وقال أحد الموقعين إن الهدف منها هو «كسر الموانع الدستورية لتقدم الرئيس (ولد عبد العزيز) لولاية ثالثة»، كما نظمت في الأيام ذاتها مهرجانات وندوات، تصدرها سياسيون ونافذون قبليون ورجال أعمال يطالبون ولد عبد العزيز بتعديل الدستور للبقاء في الحكم.
كان الوضع آنذاك يوحي بما يشبه الإجماع السياسي على ضرورة بقاء الرئيس في الحكم، مع استثناءات قليلة تمثلها أحزاب المعارضة التقليدية، التي تظاهرت رفضاً لتعديل الدستور. لكنها كانت أضعف من أن تمنع الأغلبية الرئاسية الحاكمة من تنفيذ رغبتها. كما سُمعت أصوات قليلة داخل الأغلبية الرئاسية ترفض تعديل الدستور، ولو أنها كانت محدودة العدد وضعيفة التأثير. لكن الموريتانيين الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي عبروا عن رفض غير مسبوق لخطوة تعديل الدستور، ونظموا حملات قوية ضد النواب والسياسيين المطالبين به، كما أن تقارير «سرية»، أعدتها جهات أمنية موريتانية، أكدت أن الشارع يعارض «الولاية الثالثة».
ولد عبد العزيز، الذي سبق أن أعلن عدة مرات عدم رغبته في الترشح لولاية رئاسية ثالثة، التزم الصمت هذه المرة وكان وقتها خارج البلاد في جولة عربية، بينما كان بعض أفراد عائلته المقربين يلتقون بنواب البرلمان، ويحرضونهم على مواصلة التحرك نحو تعديل الدستور، وهو ما بدا أن الطريق نحوه سالكة، ذلك أن البرلمان الذي جرى انتخابه نهاية العام الماضي (2018)، نال فيه ولد عبد العزيز أغلبية ساحقة، هو من اختارها شخصياً، ودقق في أسمائها قبل ترشيحها للانتخابات، كما أسند رئاسة البرلمان إلى عقيد متقاعد تربطه به صداقة شخصية.
وفيما كانت الأمور توحي بأن ولد عبد العزيز في طريقه نحو البقاء في السلطة لولاية رئاسية ثالثة، صدر بيان مفاجئ عن رئاسة الجمهورية في 15 من يناير (كانون الثاني)، يطالب النواب والسياسيين بـ«التوقف الفوري» عن الدعوة إلى تعديل الدستور، وهو البيان الذي تمت تلاوته عبر التلفزيون الحكومي، وكان يتحدث باسم الرئيس الذي لا يزال موجوداً آنذاك خارج البلاد، ويؤكد على لسانه أنه سيحترم الدستور، ولن يترشح لولاية رئاسية ثالثة، وقد أثار هذا البيان، وظروف إصداره وملابساته، شكوك الموريتانيين، لدرجة أنهم وصفوه بأنه «انقلاب هادئ»، قام به قادة المؤسسة العسكرية لقطع الطريق على بقاء ولد عبد العزيز في السلطة، لأنهم يرون في ذلك تهديداً لأمن البلد.
في تلك الفترات كان الجنرال محمد ولد الغزواني، الذي تقاعد في أكتوبر (تشرين الأول) 2018، يشغل منصب وزير الدفاع في حكومة ولد عبد العزيز، ويقدم من طرف المراقبين على أنه الرئيس المحتمل لموريتانيا بعد ولد عبد العزيز، نظراً إلى العلاقة القوية التي تربطهما، الممتدة لأكثر من 40 عاماً، أفشلا خلالها محاولتين انقلابيتين، ونفذا انقلابين عسكريين ناجحين، وخاضا معاً حرباً شرسة ضد الإرهاب، وكان ولد الغزواني خلال السنوات العشر الماضية الذراع العسكرية والأمنية لصديقه المنشغل بالعمل الحكومي والشأن السياسي.
ومع نهاية فبراير (شباط) الماضي، اجتمع ولد عبد العزيز بعدد من المقربين منه، وأعلن أمامهم أن ولد الغزواني هو مرشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة، وأن على الجميع أن يقف معه، لأن فوزه بالانتخابات «استمرار» لحكمه ونهجه في التسيير، بينما ظل ولد الغزواني يلتزم الصمت، وهو العسكري الهادئ الذي اشتهر بأنه يستمع أكثر مما يتحدث، وكان أول خطاب يوجهه للموريتانيين في فاتح مارس (آذار) الماضي، حين أعلن ترشحه للرئاسيات، مؤكداً أنه يترشح من أجل «رفع التحديات الماثلة ومواجهة المخاطر المحدقة».
وفي حين كان ولد عبد العزيز وولد الغزواني يمهدان الطريق للتناوب على سدة الحكم، كانت المعارضة عاجزة عن توحيد كلمتها، وخوض الانتخابات بمرشح موحد، يكون أكثر قدرة على مواجهة المرشح المدعوم من السلطة، فكان عدد المرشحين للانتخابات ستة مترشحين؛ أربعة منهم من المعارضة، يتقدمهم الوزير الأول الأسبق سيدي محمد ولد ببكر، والناشط الحقوقي بيرام ولد الداه اعبيد، والمعارض التاريخي محمد ولد مولود، بالإضافة إلى النائب البرلماني السابق كان حاميدو بابا.
هكذا، وفي الدور الأول من الانتخابات فاز ولد الغزواني بنسبة زادت قليلاً على 52 في المائة. لكن هذه الانتخابات، التي وُصِفت من طرف المراقبين بأنها «الأقرب للشفافية» في تاريخ البلاد، أظهرت عمق الأزمة الاجتماعية والعرقية في موريتانيا، وكشفت مستوى صعود النزعة الشرائحية بشكل غير مسبوق، إذ أشارت تقارير «سرية» إلى أن التصويت في مناطق واسعة من موريتانيا كان «تصويتاً مبنياً على العرق»؛ حيث صوتت الأعراق (العرب، الزنوج، العبيد السابقون) للمرشحين الذين ينحدرون من العرق ذاته، دون النظر في البرامج الانتخابية أو الانتماء السياسي، وهو ما أدخل البلد في أزمة خانقة خلال الأيام التي أعقبت الاقتراع.
بعد الانتخابات اندلعت عدة احتجاجات، وحدثت أعمال شغب في أحياء من العاصمة نواكشوط، تقطنها أغلبية من الزنوج، كان المحتجون يرفعون فيها شعارات منددة بـ«التزوير»، لكنهم سرعان ما اصطدموا بالأمن، وانتشرت شائعات على مواقع التواصل الاجتماعي بسقوط قتلى وجرحى، وهو ما نفته السلطات التي قطعت خدمة الإنترنت عن الهواتف الجوالة، خشية انتشار الشائعات، لا سيما أن ذلك تزامن مع تصاعد أعمال الشغب والاحتجاجات، التي أرغمت السلطات على نشر وحدات من الجيش في بعض أحياء العاصمة نواكشوط، وبعض المدن على الحدود مع السنغال، وقطع خدمة الإنترنت بشكل كامل لأكثر من أسبوع، عاشته البلاد في وضعية «طوارئ غير معلنة».
حينها، لم يجد الموريتانيون الوقت للاحتفال بـ«العرس الديمقراطي»، الذي عاشته بلادهم. أما السلطات فقد أعلنت أنها سيطرت على الوضع وأحبطت «مؤامرة»، تقف وراءها «أيادٍ خارجية»، كانت تسعى إلى زعزعة الأمن في البلاد، معلنةً اعتقال أكثر من مائة أجنبي، وترحيلهم إلى بلدانهم (السنغال، غامبيا، مالي). كما اعتقل عشرات الناشطين السياسيين، أغلبهم من أنصار المرشح، كان حاميدو بابا، الذي حل في المرتبة الرابعة، ويعتقد أنصاره أن أصواتهم سرقت، وكانوا هم من أشعل فتيل الاحتجاجات في نواكشوط.
في ظل هذه الأجواء، وجد ولد الغزواني أمامه أجواء أمنية متوترة، ووضع سياسي متأزم. فالمعارضة ترفض الاعتراف بفوزه وتتهمه بالتزوير، والأوضاع الاقتصادية صعبة جداً، في ظل الحديث عن مديونية خارجية وصلت إلى 100 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وأزمة اجتماعية وعرقية معقدة، وصفها مراقبون بأنها «قنبلة موقوتة».
بعد تنصيبه رئيساً للبلاد، فاتح أغسطس (آب)، بدأ ولد الغزواني بعقد لقاءات مع قادة المعارضة، وفتح باب التشاور معهم، ما مكنه من تهدئة الأوضاع السياسية، والعمل على ما سماه «تطبيع» العلاقة بين المعارضة والسلطة، منهياً قطيعة هيمنت على العلاقة بين الطرفين خلال السنوات العشر، التي حكم فيها صديقه موريتانيا، وكان ذلك هو أول اختلاف أبانه الرجل في تسيير مقاليد الحكم، على الرغم من أنه كان يظهر منذ البداية اختلافاً في الخطاب والمبادئ والتوجهات، لكنه ظل بطبعه الهادئ يميل إلى إحداث التغيير، بقدر معين من السلاسة والحذر، على حد تعبير أحد المقربين منه.
غير أن أقدار السياسة في موريتانيا، بلد الانقلابات العسكرية والتحولات غير المتوقعة، كانت تخبئ للرجلين ما لم يكن في الحسبان. ففي حين كانت المعارضة تدلي بتصريحات «إيجابية» تجاه ولد الغزواني، وحصيلة مائة يوم أولى من حكمه، عاد ولد عبد العزيز إلى أرض الوطن بعد ثلاثة أشهر من الغياب، وبدأ منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي لقاءات مع قادة حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم، إيذاناً بعودته للساحة السياسية، وهو أمرٌ يبدو أنه لم يكن محل ارتياح لدى الرئيس الحالي، لأن الساحة لا تتسع للرجلين، ومقعد الحكم لا يقبل القسمة على اثنين.
هكذا إذا اندلعت أزمة حادة بين الرجلين، رفض الموريتانيون في البداية تصديقها. لكنها تأكدت حين غاب ولد عبد العزيز عن احتفالات عيد الاستقلال الوطني (28 نوفمبر الماضي)، رغم الدعوة الرسمية التي تلقاها كرئيس سابق. غير أن مقعده ظل شاغراً خلال الحفل، الذي حضره رئيسان سابقان وقيادات في المعارضة، لكن الشيء الذي قطع الشك باليقين هو القرار المفاجئ، الذي اتخذه ولد الغزواني عشية الاستقلال، وذلك بإقالة قائد كتيبة الأمن الرئاسي، وهو الذي يوصف بأنه أحد المقربين من الرئيس السابق، وحينها تأكد الموريتانيون من أن الأزمة بين «الصديقين» وصلت إلى طريق مسدود.
لقد نجح ولد الغزواني في تقليم مخالب صديقه، وأكد سيطرته على مراكز القوة في البلد. فقد انتزع منه أولاً أغلبيته البرلمانية، التي وقعت على عريضة تصفه بأنه «المرجعية الحصرية» للحزب الحاكم، وثانياً قطع الصلة بينه وبين أعوانه داخل المؤسسة العسكرية، عندما أقال بعض المحسوبين عليه في الاستخبارات، وقلّص قوة كتيبة الأمن الرئاسي التي اشتهرت بأنها تدين بالولاء للرئيس السابق، كما جرّده من الحزب، الذي أسسه قبل عشر سنوات (منذ عام 2009)، وأنفق كثيراً من الجهد خلال السنوات الأخيرة في رعايته وتقويته، حيث أعلنت لجنة تسيير الحزب في مؤتمر صحافي أن ولد الغزواني هو صاحب القرار في الحزب.
لقد تعود الموريتانيون على الانقلابات العسكرية، التي تحمل رئيساً جديداً وتطيح برئيس قديم، إلا أنهم يعتقدون أن ما حدث بين ولد عبد العزيز وولد الغزواني، هو انقلاب من نمط آخر. ذلك أنه للمرة الأولى يقوم «رئيس حالي» بانقلاب محكم للإطاحة بـ«رئيس سابق»، وذلك لتجريده من أوراق قوة كان يمكن أن يستخدمها ضده في أي وقت.
إلا أن ولد الغزواني، وبعد أن ينقشع غبار المعارك السياسية، سيجد نفسه أمام تحديات كبيرة، أولها الأزمة الاقتصادية الخانقة لبلد غارق في الديون، ومشكل اجتماعي خطير في ظل تصاعد وتيرة الشحن العرقي والشرائحي في البلد. إضافة إلى الوضع الإقليمي المتردي، خصوصاً في منطقة الساحل الأفريقي، حيث تتمدد جماعات إرهابية خطيرة. إنها ملفات تجعل مهمة الرجل ليست بالسهلة خلال السنوات الخمس المقبلة، وإن كانت نقطة ضوء صغيرة تلوح في آخر النفق بفضل اكتشافات الغاز قبالة السواحل الموريتانية، حيث تحدثت التقديرات عن احتياطي يصل إلى 60 تريليون قدم مكعب من الغاز، سيبدأ إنتاجه وتسويقه عام 2022.