التغير المناخي... احتجاجات 2019 وتحديات 2020

حريق في 10 سبتمبر الماضي وهو ضمن أكثر من 74150 حريقاً تعرضت لها غابات الأمازون في البرازيل عام 2019 (أ.ف.ب)
حريق في 10 سبتمبر الماضي وهو ضمن أكثر من 74150 حريقاً تعرضت لها غابات الأمازون في البرازيل عام 2019 (أ.ف.ب)
TT

التغير المناخي... احتجاجات 2019 وتحديات 2020

حريق في 10 سبتمبر الماضي وهو ضمن أكثر من 74150 حريقاً تعرضت لها غابات الأمازون في البرازيل عام 2019 (أ.ف.ب)
حريق في 10 سبتمبر الماضي وهو ضمن أكثر من 74150 حريقاً تعرضت لها غابات الأمازون في البرازيل عام 2019 (أ.ف.ب)

الإضراب الفردي الذي بدأته الشابة السويدية غريتا تونبرغ للمطالبة بعمل سريع يتصدّى لتغيُّر المناخ، تحوَّل إلى حركة احتجاج عالمية طبعت عام 2019. وقد تكون هذه الحركة أبرز تطوُّر شهده المزاج الجماهيري على مستوى البيئة خلال العقد الحالي. فقد نزل عشرات الملايين إلى الشوارع في جميع مناطق العالم، بهدف حث الحكومات على تنفيذ خطوات فورية لخفض الانبعاثات الغازية المسببة لتغيُّر المناخ. لم تكن هذه المرة الأولى التي ينزل فيها الناس إلى الشارع تحت شعار التغير المناخي، لكنها كانت بلا شك أقوى حملة احتجاجات تشمل العالم كله، وتوصل صوتها إلى السياسيين والهيئات الدولية، على أعلى المستويات. ودخلت الحملة قاموس «كولينز» للغة الإنجليزية، الذي اعتبر مصطلح «إضراب من أجل المناخ» كلمة العام 2019. الرسالة واضحة؛ المناخ يتغيّر بوتيرة سريعة بسبب النشاط البشري، والنتائج كارثية، ليس على نوعية الحياة فقط، بل على الوجود البشري برمته. ولا يحق للجيل الحاضر أن يسرق الحق في الحياة من أجيال المستقبل.
ومع تعاظم الاحتجاجات التي أطلقتها تونبرغ، تتالت خلال السنة التقارير العلمية التي تؤكّد حراجة الموقف. فقد أصدر 11 ألفاً من أبرز العلماء تحذيراً بأن المناخ يتغيّر على وتيرة أسرع مما كان متوقعاً، ما يضع كوكب الأرض في حال طوارئ. الكارثة بدأت تحط رحالها، والنتائج ستكون أكثر حدة وأوسع انتشاراً من أي تقديرات سابقة، وأبرزها ارتفاع البحار أمتاراً وليس سنتمترات فقط، إلى جانب موجات الجفاف والفيضانات والأعاصير المتطرّفة والمتكررة. وطالب العلماء بالعمل سريعاً على توسيع مساحات الغابات، وتخفيف الانبعاثات من استخدام الطاقة، وصولاً إلى التقليل من أكل اللحوم. فتربية الأبقار من أكثر نشاطات الإنتاج الغذائي المسببة لانبعاث غازات الاحتباس الحراري.
تبيّن عام 2019 بما لا يقبل الشك، وجود تقصير فادح في الالتزام بالتعهدات التي قطعتها الدول لمواجهة تغيّر المناخ. فوفق المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، استمرت وتيرة ارتفاع كميات الغازات المسببة للاحتباس الحراري بالتصاعد، بدلاً من أن تنخفض، أو تقف عند حدود معينة على الأقل. ويعود هذا أساساً إلى الأنماط الاستهلاكية المنفلتة، في البلدان الغنية على وجه الخصوص. بعد يوم واحد على تقرير منظمة الأرصاد، صدر تقرير عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة يؤكّد أن الاستمرار على مستوى الانبعاثات الحالي سيؤدي إلى ارتفاع في درجات الحرارة يصل إلى 3.5 درجة مئوية مع نهاية القرن، ما يهدّد بكارثة انقراض. أما الالتزام بحدود ارتفاع في معدلات الحرارة لا يتجاوز 1.5 درجة مئوية، فيتطلب تخفيض الانبعاثات بنسبة 7.6 في المائة سنوياً من الآن حتى 2030. وهذا يستدعي مجموعة من التدابير الصارمة تفوق الجهود الحالية بأضعاف.
هذه الأجواء طبعت قمة المناخ الخامسة والعشرين التي عُقدت في مدريد؛ حيث أجمعت الدول المشاركة على حراجة الموقف. لكن دول الاتحاد الأوروبي وحدها التزمت صراحة بالعمل على تخفيض إضافي للانبعاثات خلال السنوات العشر المقبلة. وظهر واضحاً أن الجميع ينتظر نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية بعد سنة، التي تسبق قمة المناخ السادسة والعشرين. وحتى ذلك الوقت، تبقى القرارات الحاسمة، بما فيها من التزامات مالية، مجمّدة. وسيكون علينا الانتظار سنة أخرى حتى انعقاد قمة المناخ السادسة والعشرين في مدينة غلاسكو الاسكوتلندية، ليتبين ما إذا كانت الإشارات التي صدرت عن قمة مدريد ستتحول إلى التزامات.
وفي حين ركّز العلماء على أهمية التشجير وزيادة مساحات الغابات، القادرة على امتصاص كمية كبيرة من غازات الاحتباس الحراري، تميّز عام 2019 بتراجع غير مسبوق في مساحة الأراضي الحرجية في العالم. وقد يكون الحدث الأفظع الحرائق الهائلة التي أصابت غابات الأمازون، والقطع الجائر بداعي شق الطرقات والمشروعات الكبرى، ما تسبب، في أقل من سنة، بخسارة مساحات شاسعة من الأشجار تتجاوز حجم لبنان. واللافت أن الرئيس البرازيلي بولسونارو اعتبر أن ما يحصل في الأمازون نتيجة لبرامج التنمية العشوائية قراراً سيادياً، لا يحقّ لأي كان التدخّل فيه. وما يفسّر هذا الموقف المستغرب أن بولسونارو ينتمي إلى مجموعة قليلة من الزعماء ينكرون التغيّر المناخي، في طليعتهم حليفه الرئيس الأميركي دونالد ترمب. ومع وصول السنة إلى نهايتها، أصدرت مجموعة من كبار العلماء البرازيليين تحذيراً من أن أثر سياسات بولسونارو، التي ترعى أنماط التنمية المتوحشة في الأمازون، لا يقتصر على تغيّر المناخ، بل يهدّد بالقضاء على الإرث الطبيعي والحضاري للمنطقة بأكملها.
صحيح أن حصة الطاقات المتجددة بلغت نحو ربع الإنتاج العالمي من الكهرباء، لكن الاستخدام الأنظف للطاقة في قطاعات النقل والتدفئة ما يزال محدوداً جداً، ما ساهم في الارتفاع الكبير للانبعاثات. ولم تحصل تطوّرات ملموسة في استنباط تطبيقات عملية رخيصة الكلفة لتكنولوجيا التقاط الكربون واحتجازه، وهي ضرورية لاستخدام الوقود الأحفوري بكفاءة. وقد أوقفت بعض البلدان، ومنها بريطانيا، جزءاً كبيراً من الدعم الذي كانت قد خصصته للأبحاث في هذا المجال.
أما الفحم الحجري فقد بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة كمصدر للطاقة، منحدراً إلى أسفل قائمة الاستخدامات، إذ يتم استبداله بالغاز الطبيعي والطاقة المتجددة لإنتاج الكهرباء. وتم إغلاق نحو 40 في المائة من المحطات التي تعمل بالفحم خلال السنوات العشر الأخيرة، ما أدى إلى هبوط استهلاكه بنسبة 44 في المائة. ولا شك أن الاستمرار في هذا الاتجاه سيؤدي إلى تخفيض الانبعاثات على نحو ملموس.
رغم التحسُّن الذي طال وضع البيئة في مجالات محدودة، وعلى الأخص في نطاق الحلول التكنولوجية، فما برحت الحالة العامة تتدهور بسرعة. وفي طليعة ما يعرقل التقدُّم الاستمرار في أنماط الإنتاج والاستهلاك غير المستدام. ومن أبرز التحديات البيئية العاجلة المياه العذبة، التي تتناقص بسبب الجفاف والاستخدام المفرط، والتلوث بالمواد الكيميائية والبلاستيك. ويصل التنوّع البيولوجي؛ حيث تختفي الأنواع الحيّة على نحو غير مسبوق، إلى 10 آلاف نوع في السنة، ما يهدد توازن الحياة على الأرض. ناهيك عن فقدان الغابات والغطاء النباتي، الذي يضرب مناطق شاسعة حول العالم، بسبب الاستثمار الجائر والتنمية المتوحّشة. وكانت الأحوال البيئية السيئة سبباً في ربع الوفيات حول العالم عام 2019. ويعود هذا، في معظمه، إلى تلوث الهواء الناجم عن الانبعاثات من توليد الطاقة ووسائل النقل والمصانع، خاصة في المدن. ولتلوّث المياه العذبة والبحار والتربة الزراعية دور كبير أيضاً في انتشار الأمراض التي يمكن تجنّبها عن طريق تحسين الأوضاع البيئية.
وعلى الرغم من التقدُّم الذي تم إحرازه في بلدان قليلة، على بعض الجبهات، بقي الوضع البيئي في المنطقة العربية قاتماً. فهي تعاني اليوم أكبر عجز غذائي في العالم، وهي الوحيدة التي تشهد زيادة في الجوع والفقر، ليس فقط بسبب الحروب والنزاعات، بل أساساً بسبب سوء الإدارة. وفي تناقض صارخ، فإن بعض أفقر البلدان العربية في موارد المياه المتجددة ما تزال الأقل كفاءة في استهلاك المياه، للاستخدامات المنزلية والبلدية، كما للري؛ حيث يذهب نحو نصف الكمية هدراً. وبينما سجّلت البلدان العربية بعض أدنى معدلات الكفاءة في استخدام الطاقة على الصعيد العالمي، إذ بلغت الخسائر في الكهرباء ضعفي المعدّل، فقد باشرت معظم البلدان تنفيذ برامج لتعزيز الكفاءة، وأعلنت عن أهداف محددة للتوسع في الطاقة المتجددة.
وفي حين يتابع المغرب تنفيذ خطته الطموحة في التحوّل إلى الطاقة المتجددة، أعلنت السعودية عام 2019 خطتها لإنتاج نصف احتياجاتها الكهربائية من الشمس والرياح بحلول سنة 2030. كما تستمر الإمارات في توسيع إنتاج الكهرباء من مصادر متجددة، خاصة الألواح الشمسية. وتوقعت الوكالة الدولية للطاقة المتجددة في تقرير صدر في نهاية 2019 أن تخلق مشروعات الطاقة الشمسية وحدها نحو 200 ألف فرصة عمل في دول الخليج العربية بحلول 2030. وكانت مصر أدخلت الشمس والرياح بقوة في مزيج الطاقة، مع الاستغناء التدريجي عن الفحم الحجري. ويحاول الأردن استعادة مركزه المتقدم في إنتاج الطاقة المتجددة، الذي أصيب، قبل سنة، بنكسة نتجت عن تبديل مفاجئ في السياسات.
ما هو المطلوب بيئياً سنة 2020؟ الأولوية يجب أن تعطى لتسريع سياسات التحوّل نحو أنماط استهلاكية أكثر استدامة، تضمن إدارة متوازنة للموارد الطبيعية. وسيكون من الصعب على السياسيين تجاهل تحذيرات الإجماع العلمي عن المضاعفات الكارثية القريبة لتغيّر المناخ، التي تهدد الوجود البشري برمّته. وسيستمر ضغط الشباب في الشارع من أجل خفض أسرع للانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري.
لكن تغيّر المناخ ليس التحدي الوحيد، مع أنه الأكبر والأكثر إلحاحاً اليوم. فهناك تحديات بيئية أخرى، معظمها مرتبط بتغير المناخ على نحوٍ أو آخر. من هنا كان المطلوب أيضاً تسريع العمل للحد من تدهور الأراضي الزراعية وتعرية الغابات، ومعالجة تلوث الهواء والماء والتربة، وإدارة المياه والطاقة بكفاءة، والإدارة المتكاملة للنفايات التي تتضمن تخفيف إنتاجها، إلى جانب خفض الانبعاثات الكربونية.
الواقع الذي لا يمكن تجاهله أن المواقف العدائية تجاه التغيّر المناخي والبيئة عامة، التي اعتمدها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ساهمت في تخفيف زخم العمل الدولي لرعاية البيئة في السنة الثالثة لولايته. ومع أن اللاعبين الكبار الآخرين تعهدوا متابعة التزاماتهم، فإنه لا يمكن تجاهل أثر الولايات المتحدة، صاحبة الاقتصاد الأكبر عالمياً. فعدا الانسحاب من اتفاقية باريس للتغيّر المناخي، تراجعت إدارة ترمب عن كثير من القيود البيئية داخل الولايات المتحدة نفسها؛ خصوصاً في مجال السماح بأعمال الحفر والتنقيب ومدّ الأنابيب في موائل طبيعية كانت محظورة سابقاً. وهذا شجّع قلة من زعماء دول أخرى على اتخاذ مواقف مشابهة، مثل الرئيس البرازيلي بولسونارو، الذي فتح الباب لمشروعات كبرى في مناطق كانت محظورة في الأمازون.
الشركات الأميركية تابعت الاستثمار في الطاقات المتجددة وكفاءة الطاقة، رغم القيود التي وضعها ترمب على التمويل وحجبه لمعظم موازنات البحث والتطوير، لأنها اعتبرت وجوده في الرئاسة حدثاً عابراً. لهذا، فمن المنتظر أن تكون الفترة المتبقية من عهد ترمب مرحلة انتظار، لمعرفة من يكون الرئيس الجديد. فإذا لم تتم إعادة انتخابه لولاية ثانية، فسيحصل تبدّل جذري في سياسات المناخ والبيئة مع أي رئيس آخر، وفق المواقف المعلنة. أما إعادة انتخاب ترمب لـ4 سنوات أخرى، حتى 2024، فستشكل ضربة موجعة للعمل البيئي على مستوى العالم، تؤدي إلى مزيد من التباطؤ. لكن في أي حال، العالم لن ينتحر، وستبقى الاهتمامات البيئية على جدول الأعمال الدولي، مع ترمب أو من دونه.


مقالات ذات صلة

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

حصاد الأسبوع تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

بعد عِقد من الزمن، توافد الناخبون بإقليم جامو وكشمير، ذي الغالبية المسلمة والخاضع للإدارة الهندية، بأعداد قياسية للتصويت للحكومة المحلية في إطار انتخابات...

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع طابور اقتراع في كشمير (رويترز)

القضايا الرئيسية في انتخابات 2024 الكشميرية

برز إلغاء المادة 370 وتأسيس دولة مستقلة في جامو وكشمير قضيتَين رئيسيتين في هذه الانتخابات، بينما تشكّل البطالة مصدر قلق مزمن كبير. الصحافي زاهور مالك قال: «ثمة…

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

يُجمِع خبراء المناظرات الرئاسية الأميركية على أن الانتصارات فيها لا تُترجم بالضرورة فوزاً في الانتخابات، والمرشحون الذين يتألقون في المناظرات لا يفوزون دائماً

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

بعد 25 سنة أمضاها ميشال بارنييه في بروكسل (1999 – 2021) مفوضاً أوروبياً متنقلاً في مناصب عديدة، منها مسؤول عن السوق الأوروبية الداخلية ونائب لرئيس المفوضية،

ميشال أبونجم (باريس)
حصاد الأسبوع الرئيس الموريتاني ولد الغزواني يستقبل رئيس الوزراء الإسباني سانتشيز ورئيسة المفوضية الأوروبية فون در لاين في نواكشوط 
(آ فب)

إسبانيا تحاول التحكّم بهاجس التعامل مع المهاجرين

عندما فازت إسبانيا بكأس الأمم الأوروبية لكرة القدم، أواسط يوليو (تموز) الفائت، كان النجم الأبرز في الفريق الوطني الأمين جمال، وهو لاعب من أب مغربي وصل قبل 19

شوقي الريّس (مدريد)

انتخابات تونس: ماراثون سياسي... وتصعيد بين السلطات ومعارضيها

زهير المغزاوي (مواقع التواصل الاجتماعي)
زهير المغزاوي (مواقع التواصل الاجتماعي)
TT

انتخابات تونس: ماراثون سياسي... وتصعيد بين السلطات ومعارضيها

زهير المغزاوي (مواقع التواصل الاجتماعي)
زهير المغزاوي (مواقع التواصل الاجتماعي)

خلافاً للانتخابات الرئاسية التونسية السابقة، التي تنافس في دورتها الأولى قبل خمس سنوات 26 شخصية وأسفرت في دورتها الثانية عن فوز قيس سعيّد، لا تتضمن قائمة المرشحين الرسميين هذه المرة إلا ثلاثة أسماء، هم: الرئيس الحالي سعيّد والبرلمانيان السابقان زهير المغزاوي (الأمين العام لحزب الشعب) «العروبي الناصري» (59 سنة) ورجل الأعمال المهندس الليبرالي العياشي زمال (47 سنة). وعلى غرار ما سجل في انتخابات 2019، التي شارك رجل الأعمال نبيل القروي في دورها الأول وهو في السجن، يستمر إيقاف العياشي زمال المرشح «المعتمد رسمياً» الذي أصدرت محاكم عديدة ضده أحكاماً بالسجن بتهمة «تزييف تزكيات الناخبين».

في هذه الأثناء، أكّد القاضي فاروق بوعسكر، رئيس «الهيئة العليا للانتخابات» ومحمد التليلي المنصري الناطق الرسمي باسمها، أن اسم زمال سيظل مُدرجاً في قوائم المرشحين وسيعرض على الـ9 ملايين و700 ألف ناخب المرسّمين في القوائم الرسمية. وما يجدر ذكره هنا أن «الهيئة» كانت قد أسقطت رسمياً 3 مرشحين بارزين أعادتهم «الجلسة العامة للمحكمة الإدارية» للسباق، هم على التوالي: المنذر الزنادي، وزير التجارة والسياحة والنقل والصحة في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وعبد اللطيف المكي، وزير الصحة لفترتين في العشرية الماضية، وعماد الدايمي، الوزير والبرلماني السابق ما بين 2011 و2019.

معارك قانونية وسياسية

بعد اختلاط الأمور و«الأجندات»، تباينت التقييمات داخل النخب والأوساط الدبلوماسية والسياسية في تونس للعملية الانتخابية الحالية، التي أعلن رسمياً أنها انطلقت يوم 14 يوليو (تموز) الماضي.

فقد انتقد قياديون في «الاتحاد العام التونسي للشغل» بينهم أمينه العام نور الدين الطبوبي، وفي «منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان» بينهم رئيسها المحامي سامي الطريفي، «المناخ السياسي والإعلامي والحقوقي في البلاد»، واعتبروا أنه «غير ملائم لتنظيم انتخابات تعدّدية نزيهة وفق المقاييس الدولية»، خلافاً لمناخ انتخابات 2014 و2019. ولفت سامي الطاهري، الناطق الرسمي باسم «الاتحاد العام التونسي للشغل» - الذي يعدّ أكبر قوة نقابية وسياسية في تونس - خصوصاً إلى «الأجواء التي تجري فيها العملية الانتخابية»، وذلك إثر استبعاد عشرات من زعماء المعارضة والنشطاء المستقلين بسبب إيقافهم وفتح قضايا أمنية عدلية ضدهم بتهم خطيرة، بينها «التآمر على أمن الدولة» و«الفساد».

كذلك، لوّحت بلاغات رسمية باسم اتحاد النقابات بـ«سيناريو» تنظيم إضراب عام في البلاد للضغط على السلطات.

قضايا التآمر على أمن الدولة

في سياق متصل، كشف المحامي والأكاديمي اليساري والوزير السابق عبد الوهاب معطر في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، عن أن نحو 15 قضية «تآمر على أمن الدولة» فُتحت ضد شخصيات سياسية محسوبة على المعارضة، بعضها كان معنياً بالترشح للانتخابات.

في الوقت نفسه، قال المحامي عبد الرؤوف العيادي، زعيم حزب «وفاء»، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن الإيقافات والتحقيقات شملت خلال الأشهر الماضية عشرات من أبرز السياسيين وحرمتهم من فرصة الترشح، وعدّد بين هؤلاء: القيادي في «جبهة الخلاص» المعارضة جوهر بن مبارك، والأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي، والأمين العام السابق لحزب التيار الديمقراطي الوزير غازي الشواشي، والمدير التنفيذي لحزب «أمل» ومدير مكتب رئاسة الجمهورية سابقاً الوزير رضا بالحاج، إلى جانب عدد من القياديين في أحزاب «حركة النهضة» (إسلامي محافظ) و«قلب تونس» (ليبرالي) وائتلاف «الكرامة» (محافظ) وحزب «حراك تونس – الإرادة» (الذي يتزعمه الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي) وحزب المؤتمر (الذي يتزعمه المحامي والوزير السابق سمير بن عمر).

أيضاً، انتقد حسام الحامي منسّق «ائتلاف صمود»، وهو تكتل للمعارضين اليساريين، رفض ترشّحات 14 شخصية سياسية وأكاديمية ممّن قدّموا رسمياً ملفاتهم للهيئة العليا للانتخابات، وجرى استبعادهم لأسباب «إجرائية» عدة، بينها عدم تقديم نسخة من بطاقة السوابق العدلية أو وثائق تثبت أنه وقع تزكيتهم من قبل 10 آلاف ناخب أو من قِبل 10 أعضاء في البرلمان.

وفي سياق متصل، كان بين المستبعدين لهذه الأسباب رئيس جمعية القضاة الشبان مراد المسعودي، والإعلامي والسياسي المخضرم الصافي سعيد والوزير السابق للتعليم المثير للجدل والناشط اليساري ناجي جلول.

أما المحامية عبير موسي، زعيمة الحزب الدستوري الحرّ، فقد استُبعدت بسبب تعرضها للإيقاف منذ سنة، إثر تحركات شاركت فيها رفقة عشرات من كوادر حزبها، واتهمت السلطات منظميها بـ«تهديد الأمن العام».

هذا، ولم تسفر المظاهرات التي نظمها أخيراً آلاف من أنصار هذا الحزب ومن ممثلي «الشبكة التونسية للحقوق والحرّيات» - التي تضم عشرات المنظمات والشخصية المستقلة والحزبية - عن الإفراج عن غالبية الموقوفين في قضايا ذات صبغة سياسية.

كذلك فشلت ضغوط المعارضة في تغيير شروط الترشح للانتخابات، بل العكس هو الذي حصل، على حد تعبير المحامية والناشطة السياسية اليسارية دلية مصدق بن مبارك والحقوقي شاكر الحوكي والأكاديمية والناشطة النسوية اليسارية سناء بن عاشور.

معارك قضائية وسياسية

من جهة ثانية، في سياق التسارع الكبير للأحداث، فجّر السباق نحو قصر الرئاسة هذا العام سلسلة معقّدة من المعارك القانونية والقضائية والسياسية داخل البلاد، وفي أوساط الجالية التونسية في الخارج، التي تقدر بنحو مليونين، أي خُمس المواطنين.

ومن أبرز أسباب هذه المعارك، أستاذ القانون العام والعلوم السياسية شاكر الحوكي، رفض «الهيئة العليا للانتخابات» تنفيذ قرار «نهائي وغير قابل للطعن» أصدرته الجلسة العامة للمحكمة الإدارية التي تضم 27 قاضياً من «أعلى رتبة» بينهم الرئيس الأول للمحكمة. ولقد نصّ هذا القرار على «قانونية ترشح الوزراء الثلاثة السابقين منذر الزنايدي وعبد اللطيف المكي وعماد الدايمي بعد قبول طعنهم في قرار إقصائهم» من قِبل ممثلي السلطة الانتخابية برئاسة القاضي فاروق بوعسكر.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الانخراط في هذه المعركة عبر الانحياز لموقف المحكمة الإدارية و«علوية قراراتها» شمل عشرات من أساتذة القانون والعلوم السياسية وعمداء الكليات وقادة «الاتحاد العام التونسي للشغل» وهيئات نقابات المحامين والقضاة والصحافيين ومنظمات حقوقية عديدة.

وفي الإطار عينه، رفع عدد من الحقوقيين بينهم القاضي السابق والمحامي أحمد صواب والإعلامي والناشط السياسي زياد الهاني قضايا عدلية أمام محكمة تونسية ضد «الهيئة العليا للانتخابات»، وشكّك صواب والهاني في استقلالية رئاسة «الهيئة» وحياديتها، طالباً من القضاء استصدار قرار ينص على «إلزامية تنفيذ قرار الجلسة العامة للمحكمة الإدارية وقضاتها الـ27» حيال الزنايدي والدايمي والمكي.

واعتبر صواب في تصريح لـ«لشرق الأوسط» أن «المحكمة الإدارية» أعلى سلطة في النزاعات الانتخابية في ظل غياب «المحكمة الدستورية»، وهي المكلفة البت في الخلافات بين المرشحين للانتخابات وسلطات الإشراف وبينها «الهيئة العليا للانتخابات». أما الهاني، فقال لـ«الشرق الأوسط» إن «الرئيس الأول للمحكمة الإدارية عبد السلام قريصيعة وأعضاء المحكمة الـ27 مطالبون قانوناً بضمان توسيع قائمة المرشحين، وإن لزم الأمر عبر مراجعة روزنامة الانتخابات، أي تأجيل موعد الاقتراع العام».

ناخبة تونسية داخل مركز اقتراع (آ ف ب)

اتهامات... ومحاكمات

في هذه الأثناء، شنّ برلمانيون مقرّبون من السلطات ومن فريق الحملة الانتخابية للرئيس قيس سعيّد حملة إعلامية ضد المعارضين الذين تحرّكوا في الكواليس ونظموا مظاهرات في الشوارع للمطالبة بتوسيع قائمة المرشحين في الانتخابات لتشمل «وزراء وشخصيات من المتهمين بالتآمر على أمن الدولة».

واتّهم هؤلاء، وبينهم البرلمانية سيرين مرابط والناشط السياسي اليساري السابق رياض جراد، بعض معارضي الرئيس سعيّد بالخيانة الوطنية و«محاولة توظيف أجواء العملية الانتخابية الحالية لتمرير مخطّطات وصاية أجنبية على البلاد، بالتعاون مع عدد من نشطاء الجمعيات والأحزاب التي تحصل على تمويلات أجنبية قدّرت قيمتها بمئات مليارات من المليمات».

كذلك، قدّم 34 نائباً من أعضاء مجلس النواب مشروع تعديل «استعجالي» للقانون الانتخابي الصادر عام 2014؛ بهدف إحالة مهمة البت في «النزاعات الانتخابية» إلى المحاكم العدلية العادية لا المحكمة الإدارية، التي لا تخضع إدارياً إلى سلطة وزارة العدل ورئاسة النيابة العمومية وتتمتع باستقلالية نسبية.

من جانبه، نشر الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية تصريحات عديدة للرئيس سعيّد شكّك فيها في «وطنية» عدد من المعارضين، واتهمهم «بالحصول على تمويلات أجنبية ضخمة وبالانخراط ضمن» مؤامرة «تستهدف أمن البلاد واستقرارها».

وشكك البلاغ الانتخابي لسعيّد في صدقية منظمي التحركات الاحتجاجية على المسار الانتخابي والسياسي الحالي في الشارع وفي وسائل الإعلام المحلية والأجنبية. واتهم البلاغ هؤلاء المعارضين وبعض المرشحين «الافتراضيين» للرئاسة بـ«التبعية للخارج» وأنصارهم بكونهم «تحالف الأضداد». وأورد سعيّد على هامش اجتماعات عقدها مع وزيري الداخلية خالد النوري والعدل ليلى جفّال أن السلطات سمحت للمعارضين بتنظيم مسيرات رفعوا خلالها شعاراتهم بكل حرية «حمتها قوات الأمن»، على الرغم من كونها جمعت «خصوم الأمس» و«الأفرقاء».

فوز متوقع في انتخابات الغد للرئيس قيس سعيّد (أ ف ب/غيتي)

بدء العد التنازلي؟

وإذ ترجّح موازين القوى السياسية الحالية في تونس فوز الرئيس سعيّد بعهدة ثانية تمتد إلى 2029، تشهد كواليس السياسيين صراعاً بين تيارين كبيرين:

الأول يدعو إلى المقاطعة، وهو يضم القيادي المعارض أحمد نجيب الشابي وساسة بارزين حثّوا على مقاطعة الانتخابات، والتأهب لمعارك سياسية وإعلامية جديدة توقعوا أن تكون لصالح المعارضين، وتبدأ بعد «محطة» 6 أكتوبر التي يتوقعون أن تكون نسبة المشاركة فيها ضعيفة جداً على غرار انتخابات العامين الماضيين.

أما الآخر فيدعو إلى المشاركة بكثافة، وبين شخصياته ساسة وحقوقيون قريبون من جبهة الخلاص المعارضة، كالمحامية اليسارية دليلة مصدق بن مبارك، والحقوقية شيماء عيسى والزعيم اليساري السابق الوزير محمد عبو.