التغير المناخي... احتجاجات 2019 وتحديات 2020

حريق في 10 سبتمبر الماضي وهو ضمن أكثر من 74150 حريقاً تعرضت لها غابات الأمازون في البرازيل عام 2019 (أ.ف.ب)
حريق في 10 سبتمبر الماضي وهو ضمن أكثر من 74150 حريقاً تعرضت لها غابات الأمازون في البرازيل عام 2019 (أ.ف.ب)
TT

التغير المناخي... احتجاجات 2019 وتحديات 2020

حريق في 10 سبتمبر الماضي وهو ضمن أكثر من 74150 حريقاً تعرضت لها غابات الأمازون في البرازيل عام 2019 (أ.ف.ب)
حريق في 10 سبتمبر الماضي وهو ضمن أكثر من 74150 حريقاً تعرضت لها غابات الأمازون في البرازيل عام 2019 (أ.ف.ب)

الإضراب الفردي الذي بدأته الشابة السويدية غريتا تونبرغ للمطالبة بعمل سريع يتصدّى لتغيُّر المناخ، تحوَّل إلى حركة احتجاج عالمية طبعت عام 2019. وقد تكون هذه الحركة أبرز تطوُّر شهده المزاج الجماهيري على مستوى البيئة خلال العقد الحالي. فقد نزل عشرات الملايين إلى الشوارع في جميع مناطق العالم، بهدف حث الحكومات على تنفيذ خطوات فورية لخفض الانبعاثات الغازية المسببة لتغيُّر المناخ. لم تكن هذه المرة الأولى التي ينزل فيها الناس إلى الشارع تحت شعار التغير المناخي، لكنها كانت بلا شك أقوى حملة احتجاجات تشمل العالم كله، وتوصل صوتها إلى السياسيين والهيئات الدولية، على أعلى المستويات. ودخلت الحملة قاموس «كولينز» للغة الإنجليزية، الذي اعتبر مصطلح «إضراب من أجل المناخ» كلمة العام 2019. الرسالة واضحة؛ المناخ يتغيّر بوتيرة سريعة بسبب النشاط البشري، والنتائج كارثية، ليس على نوعية الحياة فقط، بل على الوجود البشري برمته. ولا يحق للجيل الحاضر أن يسرق الحق في الحياة من أجيال المستقبل.
ومع تعاظم الاحتجاجات التي أطلقتها تونبرغ، تتالت خلال السنة التقارير العلمية التي تؤكّد حراجة الموقف. فقد أصدر 11 ألفاً من أبرز العلماء تحذيراً بأن المناخ يتغيّر على وتيرة أسرع مما كان متوقعاً، ما يضع كوكب الأرض في حال طوارئ. الكارثة بدأت تحط رحالها، والنتائج ستكون أكثر حدة وأوسع انتشاراً من أي تقديرات سابقة، وأبرزها ارتفاع البحار أمتاراً وليس سنتمترات فقط، إلى جانب موجات الجفاف والفيضانات والأعاصير المتطرّفة والمتكررة. وطالب العلماء بالعمل سريعاً على توسيع مساحات الغابات، وتخفيف الانبعاثات من استخدام الطاقة، وصولاً إلى التقليل من أكل اللحوم. فتربية الأبقار من أكثر نشاطات الإنتاج الغذائي المسببة لانبعاث غازات الاحتباس الحراري.
تبيّن عام 2019 بما لا يقبل الشك، وجود تقصير فادح في الالتزام بالتعهدات التي قطعتها الدول لمواجهة تغيّر المناخ. فوفق المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، استمرت وتيرة ارتفاع كميات الغازات المسببة للاحتباس الحراري بالتصاعد، بدلاً من أن تنخفض، أو تقف عند حدود معينة على الأقل. ويعود هذا أساساً إلى الأنماط الاستهلاكية المنفلتة، في البلدان الغنية على وجه الخصوص. بعد يوم واحد على تقرير منظمة الأرصاد، صدر تقرير عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة يؤكّد أن الاستمرار على مستوى الانبعاثات الحالي سيؤدي إلى ارتفاع في درجات الحرارة يصل إلى 3.5 درجة مئوية مع نهاية القرن، ما يهدّد بكارثة انقراض. أما الالتزام بحدود ارتفاع في معدلات الحرارة لا يتجاوز 1.5 درجة مئوية، فيتطلب تخفيض الانبعاثات بنسبة 7.6 في المائة سنوياً من الآن حتى 2030. وهذا يستدعي مجموعة من التدابير الصارمة تفوق الجهود الحالية بأضعاف.
هذه الأجواء طبعت قمة المناخ الخامسة والعشرين التي عُقدت في مدريد؛ حيث أجمعت الدول المشاركة على حراجة الموقف. لكن دول الاتحاد الأوروبي وحدها التزمت صراحة بالعمل على تخفيض إضافي للانبعاثات خلال السنوات العشر المقبلة. وظهر واضحاً أن الجميع ينتظر نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية بعد سنة، التي تسبق قمة المناخ السادسة والعشرين. وحتى ذلك الوقت، تبقى القرارات الحاسمة، بما فيها من التزامات مالية، مجمّدة. وسيكون علينا الانتظار سنة أخرى حتى انعقاد قمة المناخ السادسة والعشرين في مدينة غلاسكو الاسكوتلندية، ليتبين ما إذا كانت الإشارات التي صدرت عن قمة مدريد ستتحول إلى التزامات.
وفي حين ركّز العلماء على أهمية التشجير وزيادة مساحات الغابات، القادرة على امتصاص كمية كبيرة من غازات الاحتباس الحراري، تميّز عام 2019 بتراجع غير مسبوق في مساحة الأراضي الحرجية في العالم. وقد يكون الحدث الأفظع الحرائق الهائلة التي أصابت غابات الأمازون، والقطع الجائر بداعي شق الطرقات والمشروعات الكبرى، ما تسبب، في أقل من سنة، بخسارة مساحات شاسعة من الأشجار تتجاوز حجم لبنان. واللافت أن الرئيس البرازيلي بولسونارو اعتبر أن ما يحصل في الأمازون نتيجة لبرامج التنمية العشوائية قراراً سيادياً، لا يحقّ لأي كان التدخّل فيه. وما يفسّر هذا الموقف المستغرب أن بولسونارو ينتمي إلى مجموعة قليلة من الزعماء ينكرون التغيّر المناخي، في طليعتهم حليفه الرئيس الأميركي دونالد ترمب. ومع وصول السنة إلى نهايتها، أصدرت مجموعة من كبار العلماء البرازيليين تحذيراً من أن أثر سياسات بولسونارو، التي ترعى أنماط التنمية المتوحشة في الأمازون، لا يقتصر على تغيّر المناخ، بل يهدّد بالقضاء على الإرث الطبيعي والحضاري للمنطقة بأكملها.
صحيح أن حصة الطاقات المتجددة بلغت نحو ربع الإنتاج العالمي من الكهرباء، لكن الاستخدام الأنظف للطاقة في قطاعات النقل والتدفئة ما يزال محدوداً جداً، ما ساهم في الارتفاع الكبير للانبعاثات. ولم تحصل تطوّرات ملموسة في استنباط تطبيقات عملية رخيصة الكلفة لتكنولوجيا التقاط الكربون واحتجازه، وهي ضرورية لاستخدام الوقود الأحفوري بكفاءة. وقد أوقفت بعض البلدان، ومنها بريطانيا، جزءاً كبيراً من الدعم الذي كانت قد خصصته للأبحاث في هذا المجال.
أما الفحم الحجري فقد بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة كمصدر للطاقة، منحدراً إلى أسفل قائمة الاستخدامات، إذ يتم استبداله بالغاز الطبيعي والطاقة المتجددة لإنتاج الكهرباء. وتم إغلاق نحو 40 في المائة من المحطات التي تعمل بالفحم خلال السنوات العشر الأخيرة، ما أدى إلى هبوط استهلاكه بنسبة 44 في المائة. ولا شك أن الاستمرار في هذا الاتجاه سيؤدي إلى تخفيض الانبعاثات على نحو ملموس.
رغم التحسُّن الذي طال وضع البيئة في مجالات محدودة، وعلى الأخص في نطاق الحلول التكنولوجية، فما برحت الحالة العامة تتدهور بسرعة. وفي طليعة ما يعرقل التقدُّم الاستمرار في أنماط الإنتاج والاستهلاك غير المستدام. ومن أبرز التحديات البيئية العاجلة المياه العذبة، التي تتناقص بسبب الجفاف والاستخدام المفرط، والتلوث بالمواد الكيميائية والبلاستيك. ويصل التنوّع البيولوجي؛ حيث تختفي الأنواع الحيّة على نحو غير مسبوق، إلى 10 آلاف نوع في السنة، ما يهدد توازن الحياة على الأرض. ناهيك عن فقدان الغابات والغطاء النباتي، الذي يضرب مناطق شاسعة حول العالم، بسبب الاستثمار الجائر والتنمية المتوحّشة. وكانت الأحوال البيئية السيئة سبباً في ربع الوفيات حول العالم عام 2019. ويعود هذا، في معظمه، إلى تلوث الهواء الناجم عن الانبعاثات من توليد الطاقة ووسائل النقل والمصانع، خاصة في المدن. ولتلوّث المياه العذبة والبحار والتربة الزراعية دور كبير أيضاً في انتشار الأمراض التي يمكن تجنّبها عن طريق تحسين الأوضاع البيئية.
وعلى الرغم من التقدُّم الذي تم إحرازه في بلدان قليلة، على بعض الجبهات، بقي الوضع البيئي في المنطقة العربية قاتماً. فهي تعاني اليوم أكبر عجز غذائي في العالم، وهي الوحيدة التي تشهد زيادة في الجوع والفقر، ليس فقط بسبب الحروب والنزاعات، بل أساساً بسبب سوء الإدارة. وفي تناقض صارخ، فإن بعض أفقر البلدان العربية في موارد المياه المتجددة ما تزال الأقل كفاءة في استهلاك المياه، للاستخدامات المنزلية والبلدية، كما للري؛ حيث يذهب نحو نصف الكمية هدراً. وبينما سجّلت البلدان العربية بعض أدنى معدلات الكفاءة في استخدام الطاقة على الصعيد العالمي، إذ بلغت الخسائر في الكهرباء ضعفي المعدّل، فقد باشرت معظم البلدان تنفيذ برامج لتعزيز الكفاءة، وأعلنت عن أهداف محددة للتوسع في الطاقة المتجددة.
وفي حين يتابع المغرب تنفيذ خطته الطموحة في التحوّل إلى الطاقة المتجددة، أعلنت السعودية عام 2019 خطتها لإنتاج نصف احتياجاتها الكهربائية من الشمس والرياح بحلول سنة 2030. كما تستمر الإمارات في توسيع إنتاج الكهرباء من مصادر متجددة، خاصة الألواح الشمسية. وتوقعت الوكالة الدولية للطاقة المتجددة في تقرير صدر في نهاية 2019 أن تخلق مشروعات الطاقة الشمسية وحدها نحو 200 ألف فرصة عمل في دول الخليج العربية بحلول 2030. وكانت مصر أدخلت الشمس والرياح بقوة في مزيج الطاقة، مع الاستغناء التدريجي عن الفحم الحجري. ويحاول الأردن استعادة مركزه المتقدم في إنتاج الطاقة المتجددة، الذي أصيب، قبل سنة، بنكسة نتجت عن تبديل مفاجئ في السياسات.
ما هو المطلوب بيئياً سنة 2020؟ الأولوية يجب أن تعطى لتسريع سياسات التحوّل نحو أنماط استهلاكية أكثر استدامة، تضمن إدارة متوازنة للموارد الطبيعية. وسيكون من الصعب على السياسيين تجاهل تحذيرات الإجماع العلمي عن المضاعفات الكارثية القريبة لتغيّر المناخ، التي تهدد الوجود البشري برمّته. وسيستمر ضغط الشباب في الشارع من أجل خفض أسرع للانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري.
لكن تغيّر المناخ ليس التحدي الوحيد، مع أنه الأكبر والأكثر إلحاحاً اليوم. فهناك تحديات بيئية أخرى، معظمها مرتبط بتغير المناخ على نحوٍ أو آخر. من هنا كان المطلوب أيضاً تسريع العمل للحد من تدهور الأراضي الزراعية وتعرية الغابات، ومعالجة تلوث الهواء والماء والتربة، وإدارة المياه والطاقة بكفاءة، والإدارة المتكاملة للنفايات التي تتضمن تخفيف إنتاجها، إلى جانب خفض الانبعاثات الكربونية.
الواقع الذي لا يمكن تجاهله أن المواقف العدائية تجاه التغيّر المناخي والبيئة عامة، التي اعتمدها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ساهمت في تخفيف زخم العمل الدولي لرعاية البيئة في السنة الثالثة لولايته. ومع أن اللاعبين الكبار الآخرين تعهدوا متابعة التزاماتهم، فإنه لا يمكن تجاهل أثر الولايات المتحدة، صاحبة الاقتصاد الأكبر عالمياً. فعدا الانسحاب من اتفاقية باريس للتغيّر المناخي، تراجعت إدارة ترمب عن كثير من القيود البيئية داخل الولايات المتحدة نفسها؛ خصوصاً في مجال السماح بأعمال الحفر والتنقيب ومدّ الأنابيب في موائل طبيعية كانت محظورة سابقاً. وهذا شجّع قلة من زعماء دول أخرى على اتخاذ مواقف مشابهة، مثل الرئيس البرازيلي بولسونارو، الذي فتح الباب لمشروعات كبرى في مناطق كانت محظورة في الأمازون.
الشركات الأميركية تابعت الاستثمار في الطاقات المتجددة وكفاءة الطاقة، رغم القيود التي وضعها ترمب على التمويل وحجبه لمعظم موازنات البحث والتطوير، لأنها اعتبرت وجوده في الرئاسة حدثاً عابراً. لهذا، فمن المنتظر أن تكون الفترة المتبقية من عهد ترمب مرحلة انتظار، لمعرفة من يكون الرئيس الجديد. فإذا لم تتم إعادة انتخابه لولاية ثانية، فسيحصل تبدّل جذري في سياسات المناخ والبيئة مع أي رئيس آخر، وفق المواقف المعلنة. أما إعادة انتخاب ترمب لـ4 سنوات أخرى، حتى 2024، فستشكل ضربة موجعة للعمل البيئي على مستوى العالم، تؤدي إلى مزيد من التباطؤ. لكن في أي حال، العالم لن ينتحر، وستبقى الاهتمامات البيئية على جدول الأعمال الدولي، مع ترمب أو من دونه.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.