«حراك 22 فبراير»... ثورة سلمية اقتلعت {عرش الفساد} في الجزائر

تعهد الرئيس الجزائري الجديد عبد المجيد تبون في اليوم الأول لانتخابه 12 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، بإدخال تغيير كبير على الدستور كأول خطوة في بدايته حكمه، وبـ«الإنصات لمطالب الحراك الشعبي المبارك»، الذي أعلن في اليوم الموالي للانتخاب عدم اعترافه بالرئيس، بحجة أنه «يمثل نظام بوتفليقة»، الرئيس الذي حكم البلاد لمدة 20 سنة، وأجبرته ثورة شعبية سلمية على التنحي.
وفي وقت كان فيه كل شيء يوحي في الجزائر بأن الولاية الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، قدر محتوم، انفجر الشارع في 22 فبراير (شباط) الماضي، رافضا التمديد لرئيس لم يحدّث شعبه، ولم يؤد أي نشاط رسمي منذ 6 سنوات كاملة، بسبب مرض أقعده على كرسي متحرك وأفقده التحكم في حواسه.
لكن هذا العجز الصحي استغله شقيقه وكبير مستشاريه، السعيد بوتفليقة (في السجن حاليا)، للاستيلاء على صلاحيات الرئيس وتسيير الدولة، وكان على وشك عزل قائد أركان الجيش، الفريق أحمد قايد صالح الذي أضحى الحاكم الفعلي للبلاد.
لكن بعد 10 أيام من المظاهرات المليونية، خاطب بوتفليقة الجزائريين عبر رسالة، قرأها مدير حملته الانتخابية عبد الغني زعلان (حصل على البراءة بعد فترة سجن دامت 4 أشهر)، تعهد فيها بأنه سيقوم في حال إجراء الانتخابات الرئاسية، التي كانت مقررة في 18 أبريل (نيسان) الماضي، بتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة على أن تحدد تاريخها «ندوة وطنية»، اقترحها كورقة طريق للخروج من الأزمة السياسية، التي تعقدت أكثر منذ إصابته بجلطة دماغية في 27 من أبريل 2013، كما دعا الطبقة السياسية والمجتمع المدني إلى المشاركة في صياغة إصلاحات سياسية، ستكون من أهم مخرجات «الندوة».
وكان الرئيس يروم بهذه الخطة أن يبحث لنفسه ولعائلته عن «مخرج مشرف» من حكم سيطر عليه لمدة 20 سنة، وطوعه لفائدة شقيقه وشبكة من الموالين له، أبرزهم رجال أعمال تمكنوا من تكوين ثروة ضخمة بفضل مشروعات حكومية، أهداها لهم السعيد بوتفليقة، ورؤساء وزراء ووزراء ورجال أعمال، كثير منهم أدانهم القضاء بالسجن لسنوات طويلة. لكن سقطت الأحكام بحقهم عشية الاستحقاق الرئاسي، الذي جرى في 12 من ديسمبر الجاري، وكانت بمثابة صدمة لهم ولعائلاتهم، ومفاجأة كبيرة ممن كانوا يعتقدون بأن محاسبة رؤوس الفساد بمثابة «معجزة».
وبرغم تعهدات الرئيس بتدارك أخطاء 20 سنة من الحكم، لم يهدأ الشارع، واستمر هديره، فتيقنت «جماعة بوتفليقة» بأن الجزائريين يتعاملون مع أي مقترح منهم على أنه «حيلة»، الهدف منها الالتفاف على المطلب الأساسي، الذي دفعهم إلى الثورة عليها، وهو انسحاب الرئيس فورا من الحكم، ووقف النهب المنظم للمال العام، ومحاسبة المتورطين في فساد كان سببا في تفويت فرص كثيرة على الجزائر لتحقيق إقلاع اقتصادي، حيث توفرت في الـ20 سنة من حكم الرئيس ألف مليار دولار، بفضل مداخيل بيع النفط والغاز. وهذا المبلغ بحسب خبراء في الاقتصاد تم إهداره في مشروعات غير رابحة، بينما كان يمكن أن يحقق قيمة مضافة للاقتصاد، وذلك بتنويعه للتخلص من ريع المحروقات. فيما أكد مراقبون أن أكبر فشل يتحمله بوتفليقة «هو عجزه عن بناء اقتصاد حقيقي».
في خضم هذه التطورات، أعلن الجيش بشكل صريح أنه متخندق في صف المتظاهرين، وتعهد رئيس أركانه قايد صالح بـ«مرافقة» القضاء خلال إجراء تحقيقاته، ثم محاسبة الضالعين في الفساد.
وكان أول إجراء قام به، بعد الضغط على بوتفليقة لإجباره على الاستقالة، هو اعتقال شقيق الرئيس ومديري المخابرات السابقين الفريق محمد مدين، الشهير بـ«الجنرال توفيق»، واللواء عثمان طرطاق المدعو «البشير»، كما اعتقل معهما المرأة السياسية المقربة من عائلة بوتفليقة، البرلمانية لويزة حنون، واتهم القضاء العسكري الأربعة بـ«التآمر على سلطة الدولة» و«التآمر على الجيش».
لكن الحقيقة، بحسب عدد من المراقبين، هو أن قايد صالح (79 سنة) اعتقلهم وسجنهم لأنهم عقدوا اجتماعات في بداية الثورة السلمية، بحثت عزله. وبذلك، فقد سارع الجنرال صالح إلى إنقاذ نفسه قبل أن يستعمل السعيد، بطريقة غير شرعية تعوّد عليها، صلاحيات شقيقه الرئيس، بخصوص تعيين وإقالة كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين. وكان صالح قائدا للقوات البرية عندما تسلم بوتفليقة الحكم عام 1999، ويعود له الفضل في تعيينه رئيسا لأركان الجيش عام 2004، ثم نائبا لوزير الدفاع عام 2015، وكرد للجميل وفّر له الحماية في فترة مرضه، وكان يردّ بحدة على دعوات المعارضة بتطبيق الدستور فيما يخص عزل رئيس الجمهورية في حالة وجود مانع صحي مزمن. غير أن تزامن الاحتجاجات الشعبية مع محاولات عزله دفعه إلى التخلي عنه.
وفي الرابع من يوليو (تموز) الماضي، دعا الرئيس الانتقالي عبد القادر بن صالح إلى انتخابات جديدة، وألح قايد صالح على إجرائها تحاشيا لـ«فترة انتقالية»، كانت المعارضة وقطاع من الحراك يطالبان بها. غير أن عزوف «الأوزان الثقيلة» عن الترشح، أفشل المسعى، فاضطرت السلطة إلى إلغائها، وكان على بن صالح أن يمدد حكمه الانتقالي المحدد في الدستور بثلاثة أشهر فقط، وكانت مدته قد انتهت بحلول موعد الاستحقاق.
في غضون ذلك، بقي ملايين المتظاهرين محافظين على وهج الحراك، رغم متاعب الصوم في رمضان، واستمرت المظاهرات رغم حرارة الصيف الشديدة، ومعها بدأ صبر قائد الجيش ينفد، وسرعان ما «انقلب» على «الحراكيين» بشن حملة اعتقالات واسعة، طالت في البداية «حاملي الراية الأمازيغية»، وبعدها عدة ناشطين بارزين. وأظهر حساسية بالغة من أي شخص ينتقده في وسائل الإعلام وفي شبكة التواصل الاجتماعي. وفرض مضايقات شديدة على الصحف والتلفزيونات الخاصة والتلفزيون الحكومي، وأجبرهم على وقف تغطية المظاهرات، كما منعهم من استضافة المعارضين لانتخابات جرى تنظيمها من طرف السلطة، التي استخلفت بوتفليقة.
واستدعى بن صالح الهيئة الانتخابية من جديد، بعد أن اقترح قايد صالح في خطاب تاريخ إجرائها في 12 من ديسمبر، وأمر وسائل الإعلام كلها بتكييف برامجها مع الأجندة الجديدة. فيما أعلنت كل أحزاب المعارضة مقاطعة الاستحقاق، غير أن شخصيات حزبية، وأخرى مستقلة مقربة من السلطة، وجدت في هذه الأجندة «شروطا معقولة تضمن إجراء انتخابات شفافة»، فترشح أكثر من 23 شخصا لها، تمكن خمسة فقط من جميع التوقيعات اللازمة للترشح (55 ألفا)، وهم رئيسا الوزراء سابقا علي بن فليس وعبد المجيد تبون، ووزير الثقافة سابقا عز الدين ميهوبي، أمين عام بالنيابة لحزب «التجمع الوطني الديمقراطي»، ووزير السياحة سابقا عبد القادر بن قرينة، الذي يرأس الحزب الإسلامي «حركة البناء الوطني»، وعبد العزيز بلعيد رئيس حزب «جبهة المستقبل». وفي سياق ذلك، تم إطلاق «سلطة مستقلة للانتخابات» كـ«ضمانة على نزاهة على العملية الانتخابية»، إذ عوضت وزارة الداخلية في تنظيم ومراقبة الانتخابات وإعلان نتائجها، وذلك لأول مرة منذ الاستقلال. لكن باقتراب موعد الانتخابات ظهر انقسام حاد في الشارع، بين مؤيد يرى في اختيار رئيس جديد بداية مخرج من الأزمة، وبأن وجود رئيس «ناقص للشرعية أفضل من عدمه»، وبين رافض للانتخاب بحجة أن «النظام يبحث عن ولاية خامسة من دون بوتفليقة»، وذلك بترشيح أشخاص محسوبين عليه. ثم عاد الجدل من جديد حول «مرشح الجيش» في الانتخابات، بينما نفى صالح ذلك بشدة، كما نفى «أي طموح له في السياسة».
يقول زين الدين غبولي، الكاتب الجزائري في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، في قراءته للأحداث التي عاشتها الجزائر في 2019: «أعتقد أن غضب الجزائريين كان مبرّرا ومتوقعا، بل جاء متأخراً. فالكثير من الملاحظين للساحة السياسية الجزائرية توقعوا غضبا شعبيا غير مسبوق، حينما ترشح بوتفليقة لعهدة رابعة في حالته الصحية الحرجة (عام 2014)، إلا أنني أعتقد أنه كانت هناك عوامل ساهمت في إخماد الغضب الشعبي في 2014، تمثلت في الخوف المتجذر من أحداث العشرية السوداء، وتمكن الدولة من شراء السلم الاجتماعي، وهذه العوامل اختفت تماما اليوم. إضافة لهذا، أعتقد أن الجزائريات والجزائريين شعروا بكم رهيب من الإهانة المعنوية، حينما ترشح بوتفليقة مجددا في ظروفه.