الأردن... حصار الاحتجاجات الناعمة وشكوى الاقتصاد المريض

2019 عام متأرجح لم يحقق وعد إخراج البلاد من «عنق الزجاجة»

الملك عبد الله الثاني وولي العهد الأمير الحسين في الباقورة بعد استعادتها في نوفمبر الماضي (رويترز)
الملك عبد الله الثاني وولي العهد الأمير الحسين في الباقورة بعد استعادتها في نوفمبر الماضي (رويترز)
TT

الأردن... حصار الاحتجاجات الناعمة وشكوى الاقتصاد المريض

الملك عبد الله الثاني وولي العهد الأمير الحسين في الباقورة بعد استعادتها في نوفمبر الماضي (رويترز)
الملك عبد الله الثاني وولي العهد الأمير الحسين في الباقورة بعد استعادتها في نوفمبر الماضي (رويترز)

يقفل العام أبوابه أردنياً على مشهد اقتصادي وسياسي متأرجح، رغم ما حمله من محاولات رسمية وحكومية لدفع مسيرة الإصلاح في البلاد إلى الأمام، وسط استمرار لضغوطات إقليمية سعت إلى تحجيم الدور التاريخي الهاشمي في حماية القضية الفلسطينية والدفاع عنها، ولم تستطع حكومة رئيس الوزراء عمر الرزاز أن تخرج من عنق الزجاجة كما تعهدت في بداية توليها مهامها الدستورية منتصف عام 2018.
وبانقضاء هذا العام، تبدأ حكومة الرزاز في حساب العد التنازلي لانتهاء الدورة البرلمانية للمجلس الثامن عشر، تحضيراً لانتخاب المجلس المقبل، مما يحتم رحيلها بعد إجراء الانتخابات إن صدرت أوامر ملكية بإنفاذ المواعيد الدستورية لعقد الانتخابات.
وبين مرحلة سبقت قدوم حكومة الرزاز ومرحلة جني ثمار حصيلة نحو عامين من محاولات حثيثة للإصلاح، لم تهدأ الأوساط السياسية والنقابية والحقوقية والقطاعات المختلفة، في التصدي للسياسات الحكومية التي رفعتها «حكومة النهضة» كما ارتأى الرزاز أن يسميها، وهو الذي أجرى 4 تعديلات وزارية على تشكيلة حكومته لم يلق أي منها ترحيباً شعبياً، بل تعديلات أرهقت أداءها.
وانقلبت حظوة الرئيس الرزاز الذي جاء على وقع احتجاجات شعبية تطالب بتغيير حكومة هاني الملقي، من دعم شعبي إلى سخط أذكته حالة الارتباك المستمرة للأداء الحكومي وخطابها المتضارب، ولم تكن الحزم الاقتصادية التي أعلنت عنها الحكومة في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2019، سوى استجابة لتوجيهات ملكية مباشرة قادها العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، شخصياً، عبر مجلس أسسه عرف بـ«مجلس بسمان» خصص للالتقاء مع القطاعات المختلفة في بلاده والاستماع لهموم المواطنين بنفسه.
ومما زاد من الرصيد السلبي للحكومة، تمسك حراكات شعبية؛ وإن كانت محدودة، بوقفات أسبوعية رمزية بالقرب من مقر الحكومة، ورفع شعارات بسقوف مرتفعة طالت شخصيات عامة وبارزة بلغ بعضها أسوار القصر الملكي. وعلى محدودية هذا الحراك؛ كانت تسجل في المقابل عشرات التوقيفات والاعتقالات التي أقرت بها مؤسسات حقوقية وطنية معتمدة، مثل «المركز الوطني لحقوق الإنسان»، بينما تجاهلتها الحكومة جملة وتفصيلاً.
ورغم تراجع نطاق الحراك الشعبي كمّاً، فإن مسوغاته، بحسب مشاركين فيه، استندت إلى واقع معيشي متراجع في وقت وصلت فيه نسبة البطالة إلى أكثر من 19 في المائة، ونسبة فقر بلغت نحو 15.5 في المائة، إضافة إلى رصد إحصائي موثق تحدث لأول مرة في تاريخ البلاد عن 8 آلاف حالة من حالات الفقر المدقع، ولم تعلن الحكومة حتى اللحظة عن خط الفقر الحقيقي أو تكشف عن منهجية تحديد نسب الفقر الجديدة.
وإيلاء الحكومة الإصلاح الاقتصادي أولوية قصوى في أجندتها 2019 لم يتكلل بتحقيق اختراقات بنيوية، بل رسخ حالة من الشكوى العامة من عجز رسمي مستمر، ظهر في مشروع قانون موازنة الدولة لسنة 2020 بسبب إيجاد حلول طارئة لأزمات متراكمة مزمنة، وهو ما يمثل عقدة ارتفاع العجز في الموازنة من 800 مليون دينار أردني في نهاية عام 2019 إلى 1.3 مليار دينار في عام 2020، وهو رقم تقديري قد يتجاوز ذلك مع نهاية العام.
وخلال عام 2019 تأثرت البلاد بموجة احتجاجات موسمية اختطف العنوان الاقتصادي مضامينها، وكانت عمّان العاصمة على موعد مع اعتصامات واحتجاجات متدرجة نقابية، ساهمت إلى حد كبير في تفجير أزمة نقابة المعلمين الأردنيين حديثة التأسيس في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، التي كادت تطيح بحكومة الرزاز بعد إضراب عام نفذه المعلمون استمر شهراً كاملاً وأدى إلى حدوث شلل في الحياة العامة، ولم ينته إلا باعتراف الحكومة الكامل بعلاوات مجزية، مما أحيا آمال النقابات المهنية الأخرى في الفوز بحصتهم المسكوت عنها في نظام الوظيفة العامة في البلاد.
وفي الوقت الذي ساهم فيه هذا المنجز في تقديم زيادات مجزية على رواتب موظفي القطاع العام مع مطلع العام الجديد، أنتج ذلك الأمر عجزاً مبالغاً فيه بموازنة العام الجديد، مع استمرار الوعود الحكومية بتخفيض الضرائب على السلع والخدمات الأساسية. وهو ما جاء في مقدمة مشروع قانون الموازنة العامة الذي فتح باب التساؤلات عن مصادر تمويل الزيادات وسط عجز مستمر في موازنة البلاد.
هنا؛ تبدو الحكومة الأردنية كالمستجير من الرمضاء بالنار، فهي تبحث عن ترميم شعبيتها، بتركة اقتصادية ستدفع الدين العام للبلاد نحو الارتفاع، فيما سيكون حساب عجز الموازنة عسيراً أمام إملاءات صندوق النقد الدولي، الذي ما زال شاهراً سيف سياساته الاقتصادية على رقاب الأردنيين، بعد مَسّ تلك السياسات بقدسية تحرير السلع والخدمات الأساسية من الدعم الحكومي، وإقرار قانون ضريبة الدخل الذي أصاب الطبقة الوسطى بمزيد من تداعيات تراجع الأوضاع المعيشية.
سياسياً، فإن مقدمة عام 2020 ستشهد عراكاً قاسياً بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ففيما تسعى الحكومة لمرور موازنتها المالية متسلحة بالزيادات على رواتب الموظفين في القطاع العام كرافعة شعبية، فإن مجلس النواب سيكون على بُعد كافٍ يسمح له بمناكفة الحكومة عبر مطالبته بزيادات مجزية، وهو بذلك يريد أن يغلق مدته الدستورية على إنجازات تسجل له وحده عند قواعده الانتخابية.
أما دستورياً فيُنهي مجلس النواب مدته في 10 مايو (أيار) المقبل، ويعني ذلك ضرورة تنسيب الحكومة بحل المجلس القائم، وتقديم استقالتها، حتى تتسنى لحكومة جديدة إدارة مرحلة انتقالية لا تتجاوز مدتها الأربعة أشهر، وهو ما سيلهب مطلع صيف العام الجديد، بالتحضير للانتخابات المتوقع أن يكون موعد إجرائها في سبتمبر المقبل.
المواقيت الدستورية أعلاه تتطلب تغييراً متوقعاً لرئيس الحكومة عمر الرزاز، في موعد قد لا يتجاوز شهر يونيو (حزيران)، بانتظار أن يكلف العاهل الأردني رئيساً جديداً قد ينجح بعد إدارته المرحلة الانتقالية، في البقاء إذا ما حصل على ثقة المجلس الجديد.
وفي هذا السياق، فإنه وإن منحت الخيارات الدستورية الحق للملك الأردني في التمديد للمجلس الحالي، فإن مصادر مطلعة ذكرت أن إجراء الانتخابات في موعدها وبصيغة قانون الانتخاب الحالي هو الخيار الأوحد على طاولة صانع القرار.
ووسط انشغال المملكة ببرنامجها المحلي اقتصادياً وسياسياً، والحديث عن تغيير جذري في شكل النخب التقليدية من بوابة الانتخابات المقبلة، يظل الأردن محاصراً بظروف جواره، فحتى اللحظة لم تأتِ سياسة فتح الحدود مع سوريا والعراق، بعد الحد من نفوذ تنظيم «داعش»، بالحسابات الاقتصادية المتوقعة، فيما يظل التهديد الإسرائيلي قائماً بعد إعلان نتنياهو نيته ضم غور الأردن وشمال البحر الميت.
السلام البارد مع إسرائيل قد يصبح مهدداً في حال نفذت تل أبيب سياسات التطرف اليميني التي انتهجتها حكومة بنيامين نتنياهو بدعم أميركي من خلال الرئيس دونالد ترمب، ضاربة تل أبيب بالمصالح الأردنية عرض الحائط، وهو ما حذر منه العاهل الأردني عبد الله الثاني في خلواته مع نخب وطنية. الأمر الذي فسره مراقبون بأن التزام الأردن بتعهداته بملفي الباقورة والغمر وفرض السيادة عليهما، بإنهاء عقود الإيجار للإسرائيليين على مدى الـ25 عاماً الماضية، هو رسالة باتجاه رد الفعل الأردني على الممارسات الإسرائيلية الأحادية. وأضافت عمّان على رسائل الغضب تجاه تل أبيب من خلال محاكمة علنية لمتسلل مدني إسرائيلي استثمرت قصته لضرب سياسات اليمين المتطرف وممارساته.
ولم يكن الملف الحقوقي للمملكة في 2019 أكثر إيجابية، فقد أظهر تقرير «المركز الوطني لحقوق الإنسان» الجهة الوطنية المعتمدة دولياً، أرقاماً صادمة في تراجع مستوى الحريات العامة في البلاد والتوسع في الاعتقالات، وتكييف جرائم لنشطاء على خلفية قضايا «تعبير» على أنها قضايا تندرج ضمن قوانين منع الإرهاب وتقويض نظام الحكم، كما أن التقرير الذي قدم حالة تقييم لحقوق الإنسان في البلاد عن 2018، خلص إلى أن السلطات التنفيذية قد تغوّلت على حق التجمهر السلمي في البلاد، وسجلت أيضاً عدد قضايا غير مسبوق في التوقيف على النشر الإلكتروني.


مقالات ذات صلة

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.