مصر: دستور وحكومة مُعدّلان... «إرهاب» مُحجّم... واقتصاد ينتظر «الثمار»

مصر: دستور وحكومة مُعدّلان... «إرهاب» مُحجّم... واقتصاد ينتظر «الثمار»
TT

مصر: دستور وحكومة مُعدّلان... «إرهاب» مُحجّم... واقتصاد ينتظر «الثمار»

مصر: دستور وحكومة مُعدّلان... «إرهاب» مُحجّم... واقتصاد ينتظر «الثمار»

بينما تطوي مصر حسابات العام 2019 بنجاحاته وإخفاقاته، تبرز ثلاثة ملفات كبرى موزعة بين السياسة والأمن والاقتصاد، تستمد أهميتها من امتداد تأثيراتها فيما هو آتٍ في العام الجديد.
انكب المصريون في شهور سَنَتهم المتداعية، على متابعة تعديلات دستورية تسمح بإمكانية بقاء الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي في سدة الحكم حتى عام 2030، وكذلك فإنهم رصدوا «تحجيماً لوتيرة العمليات الإرهابية المؤثرة»، خصوصاً في شمال سيناء. أما بالنسبة إلى الاقتصاد، فإن استمرار صعود قيمة الجنيه وتعافيه أمام الدولار الأميركي بدا محفزاً لمن ينتظرون «الثمار» بعد «عملية إصلاح قاسية».
لتكن البداية من السياسة إذن، وبحسب ما قالت «الهيئة الوطنية للانتخابات» فإن نتائج الاستفتاء الذي أجري في أبريل (نيسان) الماضي، على تعديلات لدستور البلاد، أسفرت عن موافقة 23 مليون ناخب على التعديلات الدستورية، بنسبة 88.83 في المائة، فيما بلغ إجمالي الرافضين مليونين و945 ألفاً و680 ناخباً بنسبة 11.17 في المائة.
وباتت مصر، وفق تلك النتائج، على موعد مع مشهد جديد يتجاوز عام الاستفتاء. وفضلاً عن تعديل المادة المتعلقة بفترة حكم الرئيس والتي رأى مؤيدوه أنها «تضمن تحقيق الاستقرار، واستمرار إنجاز المشروعات التنموية»، فإن القوات المسلحة بات من بين مهامها الدستورية «صون الدستور والديمقراطية، والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها، ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد»، وكذلك أصبح في البلاد «مجلس أعلى للجهات والهيئات القضائية»، برئاسة رئيس الجمهورية.
كذلك فإنه يُصعب أن يتجاهل مراقب لعام 2019 في مصر، تلك المظاهرات النادرة والمحدودة التي شهدتها البلاد في سبتمبر (أيلول) الماضي، والتي بدأت بدعوة أطلقها ممثل ومقاول مقيم في إسبانيا يدعى محمد علي، عبر بث مقاطع مصورة تضمنت اتهامات اعتبرت «مسيئة» للجيش، وعلّق الرئيس المصري على بعض ما جاء فيها، حينها، وقال إنها «كذب وافتراء». وقوبلت دعوة التظاهر بتفاعل المئات، لكنها جوبهت بعمليات ضبط وتوقيف طالت ألف شخص تقريباً (تم الإفراج تباعاً عن بعضهم على ذمة القضية)، بحسب إفادة رسمية للنيابة العامة، لكن دعوة تالية للرجل نفسه أخفقت في حشد المتظاهرين، فيما لجأ مؤيدون للحكم إلى تنظيم وقفة ضخمة وحاشدة.
- حديث «الإصلاح»
وفي المقابل، فإن برلمانيين وإعلاميين مقربين من السلطة، أعقبوا تلك المظاهرات بالحديث عن «إصلاحات»، وتحدث رئيس البرلمان علي عبد العال في مستهل دور الانعقاد الخامس للمجلس، مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، عن «إصلاحات سياسية وحزبية وإعلامية»، خلال المرحلة المقبلة التي وصفها بـ«مرحلة جني الثمار»، بعد فترة انتقالية «استلزمت إجراءات قاسية»، على حد قوله. وزاد: «ستكون هناك وقفة شديدة مع الحكومة، ولن نترك الشعب ومصالحه بعيداً عن هذه القاعة، ولن نسمح لكل المسؤولين التنفيذيين بأن يُصدّروا المشاكل لرئيس الجمهورية، وعليها (الحكومة) أن تحنو على الشعب».
ويعتقد أستاذ العلوم السياسية مصطفى كامل السيد أن «هناك تصوراً لدى بعض المسؤولين بضرورة توسيع مجال حرية الرأي ولكن في حدود مأمونة، ولذلك فقد تصدى لهذا الأمر نواب من حزب الأغلبية مستقبل وطن». ومع ذلك فإن السيد يقول لـ«الشرق الأوسط» إنه لا يتوقع «أن تمتد تلك الحالة من قبول الآراء المعارضة لتشمل إفساح المجال لأحزاب قوية، ومعروفة بمواقفها المغايرة للسلطات».
وقبل أن يطوي العام 2019 آخر صفحاته، أقر البرلمان تعديلاً وزارياً «لم يعكس تغييراً جذرياً» في صيغة السياسات والنخبة الحكومية، وإن كان أظهر الاهتمام بتصعيد الشباب لتولي مناصب نواب الوزراء، كما أثار جدلاً إثر إعادة تكليف وزير الإعلام، وهو المنصب الذي ظل شاغرا منذ إقرار التعديلات الدستورية في عام 2014.
وتضمنت التعديلات دمج وزارتي السياحة والآثار، فضلاً عن إلغاء منصب وزير الاستثمار وإسناد مسؤولياته إلى جانب الإصلاح الإداري إلى رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي.
«التعديل الوزاري الأحدث ربما يكون محاولة لتسريع وتعميق الاتجاه السائد، لكنه لا يعبر عن تغيير جذري أو عميق في صيغة السياسات العامة والتوجهات»، وفق ما يرى الدكتور جمال عبد الجواد مستشار «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية».
وقال عبد الجواد إن «ملفي الاستثمار والإصلاح الإداري يمثلان أهمية قصوى للحكومة، بل يمكن القول إنه يتم تقييم رئيس الحكومة وفق النجاح فيهما، وبالتالي فإن وضعهما تحت إشرافه المباشر قد يسهم في إحراز خطوات أفضل».
ولا يعول عبد الجواد كثيراً على تسمية وزير للإعلام في حل المعضلات القائمة في المشهد الإعلامي المصري، ويقول إن «اللاعبين زادوا واحداً، وبات هناك أكثر من طرف له اختصاصات، بداية من المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والهيئة الوطنية للإعلام، ووصولاً لنظيرتها للصحافة». ورأى أن «الأمر سيشهد تنافساً وتنازعاً وحلولاً سياسية وليست بالضرورة تتسم بالكفاءة اللازمة للموقف الراهن».
- «تحجيم الإرهاب»
منذ أطلقت قوات الجيش والشرطة في فبراير (شباط) 2018 عملية واسعة النطاق لملاحقة مجموعات مسلحة في شمال سيناء تَدين في معظمها بالولاء لـ«تنظيم داعش»، فإن قدرة «الإرهابيين» على التعبير عن قوتهم باتت أقل، إذا ما قورنت بسنوات سابقة، وذلك وفق ما يرصد الخبير في مكافحة الإرهاب الدولي العقيد حاتم صابر الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إن «انطلاق جهود ملاحقة العناصر الإرهابية تعود إلى عام 2013 والذي شهد 308 عمليات إرهابية، بينما تم تحجيم قدرة التنظيمات على التحرك وتلقي الدعم والتسليح، حتى وصلنا إلى 8 عمليات فقط في عام 2018».
وشرح صابر مستنداً إلى إحصاءات أجراها أن «العام 2019 يكاد يكون بلا عمليات تذكر»، موضحاً أن المقصود بالعمليات التي يتم رصدها: «هي تلك الهجمات الكبرى المؤثرة التي توقع عدداً كبيراً من الضحايا، وتؤثر في الأمن القومي للبلاد ككل».
وعندما سُئل عما إذا كانت العمليات الخاطفة التي نفذتها التنظيمات المتطرفة في سيناء ضد قوات الأمن في 2019 وأوقعت ضحايا تمثل تناقضاً مع فكرة «تحجيم الإرهاب»، رأى صابر أنه «لا توجد دولة تستطيع أن تمنع تماماً وقوع العمليات الإرهابية... هذا ضرب من الخيال». واستكمل: «المهم ألا تستطيع تلك العمليات أن تهز صورة الدولة أو معدلات الثقة في الأمن بصورة كبيرة، ووفق هذا المعيار فإن مصر حققت نجاحات في مواجهة الإرهاب».
وغير بعيد عن ذلك، فإن الرئيس السيسي افتتح في مايو (أيار) الماضي، أنفاقاً تحمل اسم «تحيا مصر» تربط بين دلتا البلاد وشبه جزيرة سيناء، وتعول عليها البلاد في تحقيق مشروعات تنموية بالمنطقة وتقدر الحكومة تكلفتها بـ275 مليار جنيه (الدولار يعادل 16 جنيهاً تقريباً).
- انتظار الثمار
في أغسطس (آب) الماضي، تسلمت مصر ملياري دولار كشريحة أخيرة من قرض حصلت عليه من «صندوق النقد الدولي» بقيمة إجمالية 12 مليار دولار. وبدأت الحكومة «خطة إصلاحية» لاقتصاد البلاد وفق هذا الاتفاق قبل 3 سنوات، بلغت ذروتها بتحرير سعر صرف العملة المحلية، ما قفز بمعدلات التضخم إلى مستويات قياسية.
لكن «الكارثة الاقتصادية» التي واجهتها البلاد عام 2016، بحسب تعبير الرئيس المصري في ديسمبر (كانون الأول) 2019 تشير البيانات الرسمية إلى أنه تم تجاوزها، فمن جهة أظهرت أرقام سعر صرف الجنيه تقدماً مطرداً أمام الدولار، وكذلك فقد سجلت أرقام الاحتياطي من العملة الأجنبية في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، 45.354 مليار دولار، في مقابل 42.551 مليار دولار في العام 2018.
ورغم أن الرئيس المصري أقدم في مايو الماضي على إعلان زيادة الحد الأدنى لأجور ومعاشات العاملين في قطاعات مختلفة في الدولة، فإنه قال حينها إن «ذلك لا يعتبر من ثمار الإصلاح». واستدرك أن «الإجراءات التي اتخذناها كانت قاسية بمعنى الكلمة، ولا يزال الوقت مبكراً».
وفي مقابل نمو الاحتياطيات وزيادة الأجور، فضلاً عن تراجع نسبي بأسعار بعض السلع ومنها اللحوم والخضراوات بنهاية العام، فإن أرقاماً أخرى تشير إلى صورة لا يمكن إغفالها، وتتعلق بإعلان «الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء» ارتفاع نسبة الفقر في مصر خلال عام 2018 إلى 32.5 في المائة، مقارنة بنسبة سابقة بلغت 27.8 في المائة في 2015.
ووفق تقدير محمد أبو باشا، رئيس «وحدة تحليل الاقتصاد الكلي» في المجموعة المالية «هيرمس»، فإن توقعاتهم «تشير في العام الجديد إلى صعود معدل النمو ليصل 5.8 في المائة في مقابل تقديرات حكومية تصل إلى 6.1». وأرجع ذلك إلى «استمرار فرص تعافي قطاع السياحة الذي تمكن من تحقيق 12.5 مليار دولار كإيرادات، والفرص المنتظرة في قطاع الطاقة الواعد، وكذلك استمرار سياسة خفض معدلات الفائدة، ما يعتبر محفزاً لنشاط الاستثمار».
وقال أبو باشا لـ«الشرق الأوسط» إنه بالنسبة إلى المواطنين فإنه «على رغم الزيادة النسبية للدخل والأجور في بعض القطاعات، فإنها كانت تتآكل بفعل ضغوط زيادة الأسعار»، ومضيفاً أنه «من المرجح أن تتحسن القدرة الشرائية بفعل استيعاب الأسواق للزيادات الناجمة عن تحرير سعر صرف العملة، وتحرير أسعار المحروقات».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.