عراق 2019... بدأ متفائلاً حذراً وانتهى بأزمة سياسية مفتوحة

الصراع الأميركي ـ الإيراني ألقى بظلاله الثقيلة على البلاد

متظاهرون عراقيون يرفعون الأعلام الوطنية بالقرب من مقر الحكومة وسط بغداد في صورة تعود إلى 25 أكتوبر الماضي (إ.ب.أ)
متظاهرون عراقيون يرفعون الأعلام الوطنية بالقرب من مقر الحكومة وسط بغداد في صورة تعود إلى 25 أكتوبر الماضي (إ.ب.أ)
TT

عراق 2019... بدأ متفائلاً حذراً وانتهى بأزمة سياسية مفتوحة

متظاهرون عراقيون يرفعون الأعلام الوطنية بالقرب من مقر الحكومة وسط بغداد في صورة تعود إلى 25 أكتوبر الماضي (إ.ب.أ)
متظاهرون عراقيون يرفعون الأعلام الوطنية بالقرب من مقر الحكومة وسط بغداد في صورة تعود إلى 25 أكتوبر الماضي (إ.ب.أ)

خلافاً للآمال الحذرة التي عقدت مطلع عام 2019 على صعود شخصية سياسية توصف بـ«الهدوء والاعتدال»، على قمة هرم السلطة في بغداد، هو رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، يبدو مشهد البلاد مطلع العام الجديد 2020، غاية في الغموض والضبابية، بعد الهزة الشديدة التي أحدثتها الاحتجاجات العراقية التي انطلقت مطلع شهر أكتوبر (تشرين الأول) على كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وحتى الربع الأول من عام 2019، لم تواجه حكومة عادل عبد المهدي، تحديات كبيرة تمكن المراقبين من الحكم على أدائها، وقدرتها على النجاح في إدارة البلاد الخارجة تواً من حرب امتدت لنحو ثلاث سنوات ضد تنظيم «داعش»، ومعالجة المشكلات والإخفاقات الراهنة. إلا أن حادث غرق «العبارة» في الموصل في مارس (آذار)، وتسببه بوفاة أكثر من 120 مواطناً، وطلب عبد المهدي من البرلمان إقالة محافظة نينوى نوفل العاكوب، وتحميله مسؤولية ما حدث، بعث برسالة إيجابية عن الدور الإيجابي الذي يمكن أن يضطلع به عبد المهدي في قيادة البلاد إلى بر الأمان. غير أن ملامح ذلك الأداء بدت أكثر وضوحاً بعد انتهاء الربع الثاني من العام، وتصاعدت شيئاً فشيئاً، حدة الانتقادات والآراء المشككة في أداء الحكومة ورئيسها. ومع أنها ورثت مشكلات كارثية لنحو عقد ونصف العقد، إلا أن المواطنين لم يلمسوا فرقاً أو تحسناً في أوضاعهم الاقتصادية، على الرغم من الموازنة المالية الضخمة (88.5 مليار دولار أميركي) وهي الأكبر منذ 2003. كما لم يشهد ملف الخدمات والبنى التحتية تطوراً ملحوظاً، والأهم من كل ذلك لم تحرز الحكومة، حتى ذلك التاريخ، تقدماً يذكر في ملف مكافحة الفساد الأكثر إلحاحاً على المستوى الشعبي منذ سنوات.
ومع احتدام الصراع الأميركي - الإيراني، وتصاعد العقوبات الاقتصادية على طهران، وقعت حكومة بغداد بين فكي ذلك الصراع الشرس، وبدت في أحيان كثيرة حائرة بين علاقات الشراكة الاستراتيجية طويلة الأمد مع الولايات المتحدة، وبين ما تفرضه علاقات الجوار والتحالف المعلن لبعض قوى العملية السياسية مع إيران. ومع تصاعد الهجمات التي شنتها الطائرات المسيرة (الدرون) ضد مواقع عديدة لمعسكرات «الحشد الشعبي» في بغداد وأكثر من محافظة، اتضح أن العراق وسيادته يقعان في قلب عاصفة الصراع الإيراني - الأميركي، مثلما اتضح أن الحكومة عاجزة تماماً، سواء على مستوى ردع الفصائل المسلحة المتهمة بتخزين الأسلحة الإيرانية داخل أراضي بلادها، وبالتالي عدم إعطاء الذريعة لإسرائيل أو غيرها في التطاول على السيادة الوطنية، أو على مستوى قدرة البلاد العسكرية على ردع أي اعتداء خارجي. وسيكون ذلك العجز، أحد عوامل تأجيج مشاعر الغضب الوطنية والخروج بمظاهرات حاشدة لإسقاط النظام في شهر أكتوبر اللاحق.
وحيال الأسئلة الملحة التي يطرحها الشارع العراقي عن الانتهاكات المتواصلة لسيادة البلاد، صمت رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، أسابيع عديدة، قبل أن يتهم إسرائيل علناً نهاية شهر سبتمبر (أيلول)، بالوقوف وراء تلك الهجمات، لكنه لم يكشف عن أسبابها ودافعها، في مقابل تكهنات محلية تشير إلى معركة لا تخطئها العين بين إسرائيل والولايات المتحدة، من جهة، وإيران وحلفائها من جهة أخرى على الأراضي العراقية. وعلى الرغم من إصدار عبد المهدي أمراً ديوانياً في تلك الفترة لضبط إيقاع هيئة «الحشد الشعبي»، إلا أن دلائل غير قليلة كانت تشير إلى علو كفة الفصائل المسلحة على كفة الحكومة والدولة العراقية. وصار ينظر محلياً إلى رئيس الوزراء «الهادئ والمعتدل» الذي أتى بصفقة ملتبسة بين تحالفي «سائرون»، الذي يدعمه مقتدى الصدر، وتحالف «الفتح»، الذي يضم غالبية القوى «الحشدية» الحليفة لإيران، باعتباره الشخصية الواقعة تحت تأثير «الفتح» ورجاله. وأخذ تحالف «سائرون» يعلن شيئاً فشيئاً تخليه عن دعمه.
في منتصف سبتمبر، سعى رئيس الوزراء العراقي إلى تطمين العراقيين حول مستقبلهم الاقتصادي، عبر زيارتين قام بهما إلى المملكة العربية السعودية والصين لتوقيع اتفاقيات متعددة للنهوض بواقع البلاد الاقتصادي والاستثماري. إلا أن حادثين وقعا نهاية الشهر كانا كفيلين بتراجع شعبية رئيس الوزراء إلى مستويات غير مسبوقة، ومهدا للغضب الشعبي اللاحق الذي انفجر على شكل مظاهرات واعتصامات شملت العاصمة بغداد وغالبية محافظات جنوب وشرق البلاد ذات الأغلبية الشيعية (النجف، كربلاء، ميسان، واسط، بابل، البصرة، ذي قار، الديوانية، المثنى).
ففي 25 سبتمبر، شنت قوات مكافحة الشغب هجوماً عنيفاً بالمياه الحارة لتفريق مظاهرة لحملة الشهادات العليا من النساء والرجال قرب مقر الحكومة في منطقة العلاوي، وسط بغداد، ما أثار موجة غضب شعبية كبيرة. وبعد يومين من ذلك التاريخ، أمر رئيس الوزراء بعزل قائد جهاز مكافحة الإرهاب الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي، ونقله إلى آمرة وزارة الدفاع، لأسباب غير مفهومة، قُوبلت برفض جماهيري واسع.
ولم تنتظر الجماهير طويلاً، لتعلن رفضها واحتجاجها على المسار الذي اختطته حكومة عبد المهدي، وخرجت أول طلائع المحتجين في غضون أربعة أيام من تلك الحوادث. ففي الأول من أكتوبر، الذي صادف انقضاء نحو سنة على تسلم عبد المهدي لمنصب رئاسة الوزراء، انطلقت المظاهرات في بغداد وأكثر من محافظة، وجاء التعامل بالقوة المفرطة من قبل قوات الأمن مع المتظاهرين منذ اليوم الأول، حيث سقط فيه ما لا يقل عن 10 قتلى وجرح العشرات ليزيد الأمور تعقيداً، ويكشف أمام المواطنين الوجه الآخر لرئيس الوزراء «الهادئ والمعتدل». استمرت المظاهرات والصدامات مع القوات الأمنية، لبضعة أيام، ثم توقفت لتزامنها مع زيارة «الأربعين» الدينية، ليتجدد انطلاقها، وبوتيرة أكثر تصاعداً في الـ25 من الشهر ذاته.
ومثلما بدا المتظاهرون في إطلالتهم الجديدة أكثر تصميماً على إحداث التغيير المطلوب الذي ارتفع سقفه، ليشمل إزاحة النظام كله وعدم الاكتفاء ببعض بمطالب الإصلاح الشكلي، أظهرت السلطات ورئيس الحكومة إصراراً مماثلاً على قمع المتظاهرين بقوة. ولم تكتف السلطات بقمع المتظاهرين بالرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع وحسب، وعمدت إلى قطع شبكة الإنترنت لنحو أسبوعين، إلى جانب حملة قمع وإغلاق طالت صحافيين وقنوات فضائية ووسائل إعلام مختلفة نشطت في تغطية الاحتجاجات، بل منعت الجهات الصحية من الإدلاء بأي معلومات حول أعداد الجرحى والقتلى.
ورغم القرارات والإجراءات التي قامت بها الحكومة، لامتصاص غضب المواطنين، مثل إطلاق حملة من التعيينات والوظائف والقروض، وقرارات أخرى اتخذها البرلمان تتعلق بخفض امتيازات المسؤولين الكبار، والتصويت على قانون جديد للانتخابات، فإن هذه الإجراءات لم تلق آذاناً صاغية من جموع المحتجين، وتحول الأمر إلى اعتصامات وقطع طرق وإضرابات عامة، قوبلت باستعمال مفرط للقوة من جانب السلطات، واتهمت فصائل مسلحة موالية لإيران بالقيام بتلك الأعمال، وتحدث وزير الدفاع العراقي نجاح الشمري، منتصف نوفمبر (تشرين الثاني)، عن «طرف ثالث» يقف وراء قتل وقمع المتظاهرين.
وحملت تلك الفصائل، إلى جانب قادة عسكريين، مسؤولية المجاز التي ارتكبت في محافظة ذي قار مطلع شهر ديسمبر (كانون الأول) ومجزرة ساحتي الخلاني والسنك في بغداد منتصف الشهر، علماً بأن عدد قتلى المظاهرات ناهز الـ500 شخص، وناهز عدد الجرحى (حتى تاريخ كتابة هذا التقرير) الـ20 ألفاً، ضمنهم عناصر قليلة من أفراد القوات الأمنية.
وبرز خلال «انتفاضة تشرين» من بين أسباب كثيرة دفعت الناس للتظاهر، الغضب الشعبي حيال النفوذ والهيمنة الإيرانيين على القرار السياسي في العراق ودعم إيران لمجاميع وفصائل مسلحة لا تحظى باحترام السكان، لذلك عمد المتظاهرون إلى مهاجمة وحرق القنصلية الإيرانية في محافظة كربلاء مطلع شهر نوفمبر، وقاموا بعملية حرق مماثلة، نهاية الشهر ذاته، للقنصلية الإيرانية الأخرى في محافظة النجف معقل المرجعية الدينية العليا، وتكررت عملية حرق الأخيرة مرتين في غضون بضعة أيام.
ومع الخطب المؤيدة للاحتجاجات، والمنتقدة للسلطات التي أطلقها المرجعية الدينية في النجف، ومع الضغوط الشعبية والدولية التي واجهها رئيس الوزراء المتهم بالخضوع لسلطة الميليشيات والفصائل المسلحة الحليفة لإيران، اضطر عبد المهدي، في الأول من شهر ديسمبر (كانون الأول)، إلى تقديم استقالته للبرلمان الذي قبلها بدوره.
وأصبح أمام رئيس الجمهورية برهم صالح، حتى منتصف الشهر، لاختيار مرشح جديد لرئاسة الحكومة، الأمر الذي ينظر إليه كثير من المراقبين بعين التشكيك، خصوصاً أن جماعات الحراك لا تثق بغالبية وجوه العملية السياسية بعد 2003.
ورغم الآمال العريضة التي يتمسك بها «شباب ثورة تشرين»، في رؤية بلاد آمنة ومستقرة مع مطلع العام الجديد، إلا أن كثيرين من المحللين والمراقبين للشأن المحلي يدركون حجم المصاعب والأخطار في طريق البلاد قبل الخروج من أزمتها الراهنة.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.