عاش المجتمع السعودي في 2019 مزيجاً من التحوّلات العميقة جداً، إذ أحدثت التطورات التنموية الكبرى تحولاً فكرياً في الذهنية الجديدة للسعوديين، مع تسارع معدلات التغيّر الثقافي والاجتماعي، نتيجة التوسع الديناميكي في حراك المشاريع العملاقة، والتعديلات الجوهرية في بعض الأنظمة والقوانين.
ولا تكتسب التحولات في السعودية قيمتها من التغيّرات الآنية فحسب، بل تمتد لتشمل تحسين نمط حياة السعوديين في مختلف مفاصلها، وبما يتناغم مع «برنامج جودة الحياة 2020» الذي أطلقته السعودية العام الماضي، ليكون أنموذجاً عالمياً جديداً يُحتذى به، في جوانب التنمية التي تلامس المجتمعات، والاقتصاد، والثقافة، والترفيه، والرياضة، ورفاهية العيش.
وتبدو النسخة الجديدة للمجتمع أكثر وضوحاً داخل مجالس السعوديين أنفسهم التي صار التقبّل والانفتاح سمتين بارزتين فيها، ما أسهم بدوره في إعادة تشكيل مفهوم المشاركة المجتمعية، واحترام ثقافة العمل الحر، ورسم صورة ذهنية جديدة للمرأة، وتقبل اختلاف مظهر الآخرين، والالتزام بآداب الذوق العام في الأماكن العامة، وغير ذلك.
ففي مطلع أغسطس (آب) الماضي، برزت الانفراجة الكبرى التي أحدثها تعديل 13 مادة في 4 أنظمة في الدولة، لتمكين المرأة في المجتمع، وهي تنظيمات قانونية تمثل أحد أهم المجالات التنظيمية بالنسبة إلى حقوق المرأة التي تخطت من خلالها عتبة «الولاية»، ما انعكس بدوره على تغيير الصورة الذهنية النمطية عن المرأة السعودية، لتنتقل من تابعة إلى مواطنة لها كامل الحقوق الممنوحة لشريكها الرجل.
وفي أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي دخلت لائحة الذوق العام حيّز النفاذ في السعودية، لتعيد بدورها تشكيل سلوك الأفراد في المجتمع، بما يضمن الالتزام بالآداب والأخلاقيات المتعارف عليها في الأماكن العامة، وحددت هذه اللائحة 19 مخالفة يعاقَب مرتكبها بغرامات مالية، الأمر الذي أسهم في ضبط سلوك الأفراد، ولتمثل هذه اللائحة أحد أقوى شواهد التغيّر الاجتماعي الحديث.
وأحدث تحرّك السعودية لتكون رهاناً سياحياً عالمياً جديداً، تغيّراً في مفهوم صناعة السياحة والترفيه بين السعوديين الذين أعادوا صياغة ثقافة الترويح والسياحة بما يناسب متطلبات العصر، لينفقوا أموالهم في دور السينما والحفلات والمسارح المحلية والمتنزهات جديدة، بدلاً من إنفاقها خارج البلاد، مما انعكس بدوره على فلسفة الاستمتاع بالحياة وفتح أوجه جديدة لإنفاق الأفراد.
وعند الوقوف على الانعكاس السلوكي الذي رافق الاكتتاب العملاق لشركة الزيت العربية السعودية «أرامكو»، تبدو ملامح تغيّر الفكر المالي طاغية على أذهان السعوديين الذين سيطرت على مجالسهم تحليلات ونقاشات الاكتتاب الذي لم تشهد البلاد مثله في تاريخها، وتبيّن معه طموح وحماسة السعوديين نحو اللحاق بالقنوات الاستثمارية الجديدة التي فتحتها الدولة.
ويختتم هذا العام الحافل أحداثه البارزة بـ«موسم الرياض» الذي تنظمه الهيئة العامة للترفيه، وهو حدث حظي بإقبال شعبي لافت، يعكس طموح الجيل الجديد من الشبان السعوديين المتعطشين للانفتاح على ثقافات العالم والشعوب وفنونها، خصوصاً أن «موسم الرياض» لا يكتسب قيمته من الفعاليات الترفيهية فحسب، بل امتد ليشمل مجالات الرياضة والمسرح والأدب والثقافة، ما يجعله أحد صناع التغيير في المجتمع السعودي.
ويرى عضو مجلس إدارة الجمعية السعودية للدراسات الاجتماعية الدكتور عبد العزيز الدخيل، أن «المجتمع السعودي يعيش طفرة اجتماعية كبيرة طالت جميع الفئات الاجتماعية، خصوصاً النساء والشباب». ويقول: «أسهم في تلك الطفرة الاجتماعية عدد كبير من التشريعات والأنظمة الحقوقية والمدنية. هذه التنظيمات والتشريعات أسهمت في زيادة مشاركة المرأة بصورة لافتة في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية». ولفت إلى أن «ذلك كله يتم في ظل المحافظة على الهوية الإسلامية والوطنية».
واعتبر أن «تعدد فرص العمل وتنوعها أدى إلى اكتشاف المرأة السعودية قدراتها اللامحدودة في إنجاز الأعمال وفي الإبداع والابتكار، كما أدى إلى أمر أهم وهو اكتشافها قدراتها الكبيرة في تحمل المسؤولية الوظيفية والشخصية والأسرية».
وأضاف الدخيل لـ«الشرق الأوسط» أنه «رغم مخاوف البعض من ظهور بعض السلبيات لتلك التحولات الكبيرة، فإن الملاحظ أن آثارها الإيجابية على المرأة والأسرة والمجتمع أكبر بكثير. فالسلبيات تحدث لكثير من الموضوعات، وهنا يأتي الدور في اكتشاف تلك السلبيات والتعامل معها ووأدها، من خلال التشريعات والأنظمة والتوعية المجتمعية».
وعن انعكاس المتغيرات الاجتماعية والتنموية، يعتقد الدخيل أنها «أسهمت وبشكل ملحوظ في انفتاح وتقبل المجتمع لثقافات المجتمعات الأخرى، وكذلك على انفتاح تلك المجتمعات وتقبلها لمجتمعنا». وقال: «هذا الانفتاح المتبادل من شأنه أن يتيح فرصاً أكبر للفهم والوعي بتقبل الآخر رغم الاختلاف الثقافي والديني والاجتماعي». وأضاف: «اليوم نرى مثلاً سياحاً أجانب أتوا للتعرف على المجتمع السعودي وفهم ثقافته وهويته. لبسوا الزي السعودي وتناولوا أكلات سعودية، وتعاملوا مع سعوديين. فهم بالتأكيد سيحملون فهماً وصورة ذهنية إيجابية أخرى غير التي شاهدوها في الأفلام أو نُقلت إليهم من حاقد».
ويبيّن أستاذ علم الاجتماع في جامعة الملك سعود بالرياض الدكتور سعود الضحيان، أن «التحوّلات التي عاشها المجتمع السعودي تأتي في جوانب عدة، ففيما يتعلق بحقوق المرأة، الواضح أن كل التعديلات جاءت بنجاح كبير، بما يشمل العمل والسفر والأحوال الشخصية وغيرها من قرارات». وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «إتاحة فرص العمل للمرأة جعلتها منافسة قوية للرجل في اغتنام هذه الفرص».
وأكد الضحيان أن «مثل هذه القرارات الحديثة غيّرت من صورة المواطن السعودي عالمياً»، قائلاً: «كنا المجتمع الوحيد الذي لا تقود فيه المرأة السيارة، والوحيد في الولاية على المرأة. وهذه الأمور كلها انتهت، وأصبح المجتمع السعودي يسير كأي مجتمع، ولا يمكن وصفه بأي وصف يقلل من شأن المرأة أو الرجل فيه».
وحول التحوّلات المجتمعية التي رافقت تطوّر قطاع الترفيه، يوضح الضحيان أن «كثيرين من السعوديين كانوا في السابق يسافرون إلى الدول المجاورة لحضور السينما أو حفلة غنائية ونحو ذلك، وهو ما توقف الآن بعد أن أصبحت كل هذه الأماكن متوفرة في بلادنا». وأكد ضرورة تعدد مجالات الترفيه «بما يواكب اختلاف ومتطلبات أفراد المجتمع».
وخلال هذا العام، حسمت الدولة العديد من الملفات التي لطالما انتظرها السعوديون، فعلى الصعيد الاجتماعي، تم تعديل نظام وثائق السفر الذي أعطى للمرأة إمكانية استخراج جواز السفر الشخصي، وجوازات سفر الخاضعين للحضانة من دون الحاجة إلى وجود معرّفين أو موافقات مسبقة، إضافة إلى إمكانية السفر خارج البلاد لمن بلغ 21 سنة فما فوق.
كما تضمنت التعديلات الجديدة السماح للمرأة بالاستفادة من خدمات الأحوال المدنية، المتمثلة بالتسجيل والإبلاغ عن وقائع الأحوال الشخصية، كالزواج، والطلاق، والمخالعة، والولادة، والوفاة. ولتعزيز دور المرأة في سوق العمل وتنمية الاقتصاد، تم تعديل أنظمة العمل التي شملت توحيد الأجور وإجراءات التوظيف للمرأة والرجل، ومنع فصل العاملة في أثناء تمتعها بإجازة الحمل.
واشتملت التعديلات أيضاً على نظام التأمينات الاجتماعية، وتحديداً ما يتعلق بأنظمة التقاعد التي تمثلت في توحيد السن والمميزات التقاعدية للمرأة والرجل، ما سيزيد من مشاركة المرأة في سوق العمل. ومن اللافت أن هذه التعديلات التي أُقرت خلال العام الحالي، جاءت استكمالاً للإصلاحات الكثيرة التي تمكنت السعودية من تطبيقها في أقل من عامين، ومنها السماح للنساء بقيادة المركبات، وإقرار نظام مكافحة التحرش، وتمكين المرأة من تأسيس الأعمال التجارية وإدارتها من دون موافقات مسبقة، وفتح قطاعات عمل جديدة.
تحولات لافتة تغيّر صورة المجتمع السعودي
تحولات لافتة تغيّر صورة المجتمع السعودي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة