المتابع للعلاقة القائمة بين شبكة التواصل الاجتماعي «فيسبوك» والحكومات بمختلف أرجاء العالم، يعاين مشهداً غريباً يشهد تقلبات مستمرة من النقيض إلى النقيض، فتارة يقف «فيسبوك» موقف المدان بانتهاك خصوصية عملائه، متكبداً واحدة من أفدح الغرامات التي سمع بها العالم، وتارة أخرى يقف في وجه الحكومة التي عاقبته لانتهاك خصوصية العملاء، شاهراً سيف حماية الخصوصية، ورافضاً كل محاولات الضغط للتراجع عن قراره بتشفير محتويات الرسائل عبر تطبيق «فيسبوك ماسنجر».
الدكتور صفوت العالم، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، يرى أن «هذا التقلب في موازين العلاقة بين الطرفين سوف يستمر لفترة من الوقت؛ لكن في ظل التنامي المستمر في أعداد المستخدمين لشبكات التواصل في حياتهم اليومية لأغراض التواصل وكذلك العمل، ستزداد قوة (فيسبوك) في مواجهة التدخلات الحكومية بمرور الوقت».
وخلال ما يزيد على عام، تحول «فيسبوك» إلى هدف لهجمات وانتقادات من حكومات غربية، بسبب اختراقه خصوصية مستخدميه. وتفجر الغضب الرسمي عندما تكشفت معلومات عن أن «(فيسبوك) قد باع بيانات شخصية لـ87 مليون مستخدم بالولايات المتحدة لشركة استشارات سياسية بالمملكة المتحدة، كانت تتعاون مع حملة دونالد ترمب الانتخابية عام 2016».
واتهمت مفوضية التجارة الفيدرالية «فيسبوك» بعد تحقيق استمر 16 شهراً بتضليل 2.2 مليار مستخدم، عبر عدم مصارحته لهم بسبل اطلاع جهات تطوير التطبيقات والإعلان وغيرها على بيانات شخصية للمستخدمين، بدءاً من المحتويات التي يضعون عندها علامات إعجاب، حتى أرقام الهواتف التي يخزنوها.
وعليه، أصدرت الحكومة الأميركية توبيخاً غير مسبوق لـ«فيسبوك»، متهمة الموقع بخداع مستخدميه و«تقويض» الخيارات التي يتخذونها لحماية بياناتهم، وذلك في إطار تسوية توصل إليها الجانبان، بمقتضاها سيتم تغريم «فيسبوك» نحو 5 مليارات دولار، مع خضوع ممارساته التجارية لإشراف فيدرالي قوي.
ولم يكد يفيق «فيسبوك» من هذه الصفعة، حتى تلقى أخرى في أوروبا هذه المرة، عندما أصدرت محكمة العدل الأوروبية، مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حكماً تاريخياً يقضي بأنه باستطاعة قضاة المحاكم الأوروبية على المستويات الأدنى إصدار أوامر لـ«فيسبوك» بإزالة التعليقات غير القانونية من على منصته، مع توسيع دائرة سلطة الدول الفردية، لتشمل حظر المحتوى بجميع أنحاء العالم. وجاء الحكم بناءً على دعوى تقدمت بها السياسية النمساوية إيفا غلافيشنيغ، لاستصدار أمر إلى «فيسبوك» بإزالة تعليقات «تسيء إلى سمعتها»، بينما تعهد مارك زوكربرغ بالطعن على الحكم.
ويعني الحكم ببساطة أن «دول الاتحاد الأوروبي أعطت لنفسها الحق في التدخل في محتوى (فيسبوك)، وحذف عناصر منه، ليس داخل أراضيها فحسب، وإنما بجميع أرجاء العالم».
ويأتي ذلك في وقت يوشك الاتحاد الأوروبي على الانتهاء من تحقيق يجريه حول عدد من الدعاوى ضد «فيسبوك» في ظل التنظيم الأوروبي العام لحماية البيانات. وتبعاً لهذا التنظيم، فإن الغرامات المفروضة ضد حالات الانتهاك قد تصل إلى 4 في المائة من إجمالي عائدات الشركة عالمياً في العام السابق. وفي حالة «فيسبوك» قد يصل المبلغ إلى 2.23 مليار دولار.
من جانبها، وقَّعت المملكة المتحدة والولايات المتحدة، مطلع أكتوبر الماضي، اتفاقاً لضمان الوصول للبيانات، يعتبر الأول من نوعه على مستوى العالم، يخول لوكالات فرض القانون بالبلدين طلب الحصول على بيانات معينة من الشركات التكنولوجية العملاقة لدى الأخرى مباشرة، دون المرور بالحكومات أولاً. وأعلن مسؤولون أن «الاتفاق يهدف إلى تيسير التحقيقات المعنية بجرائم الإرهاب والاتجار في الأطفال، وغيرها من الجرائم الخطيرة».
يشار أيضاً إلى أنه في ظل الأحوال العادية، كانت مثل هذه الطلبات تستغرق ما بين 6 أشهر وعامين، بينما من شأن الاتفاق الجديد تقليص المدة إلى بضعة أسابيع؛ بل وربما أيام.
في خضم الانتقادات الشديدة التي تعرض لها «فيسبوك» لخرقه خصوصية مستخدميه، أعلن رئيس شركة «فيسبوك» مارك زوكربرغ، في وقت سابق، إعادة بناء كثير من خدمات الموقع حول التشفير والخصوصية، وقال إنه «سيدمج خدمتي تبادل الرسائل (فيسبوك ماسنجر) و(إنستغرام) مع (واتساب)، بحيث تصبح جميعها مشفرة». واعتبر زوكربرغ هذه الخطوة محورية نحو التحول إلى «منصة تواصل ترتكز حول الخصوصية».
ورغم تبرير «فيسبوك» هذه الخطوة بسعيه نحو تعزيز خصوصية مستخدميه، فإنها لاقت هجوماً شديداً من جانب حكومات عدة، على رأسها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، وتضغط الحكومات الثلاث على الشركة لضمان ألا يعيق هذا التشفير المقرر لخدمة الرسائل قدرة المسؤولين الحكوميين من التحقيق في جرائم محتملة.
وشددت الحكومات الثلاث في خطاب مفتوح وجهته، مطلع أكتوبر الماضي، إلى «فيسبوك»، على «ضرورة ألا تصمم الشركات أنظمتها عمداً للحيلولة دون أي صورة من صور الاطلاع على المحتوى»؛ محذرة من أن التشفير سيعرض مواطنيها ومجتمعاتها للخطر، بسبب إضعافه قدرة مسؤوليها على التصدي لجرائم الإرهاب واستغلال الأطفال والتدخل الأجنبي.
وأفاد أحدث تقارير الشفافية التي نشرها «فيسبوك»، بأن عدد الطلبات الحكومية للكشف عن بيانات مستخدمين ارتفعت بنسبة 16 في المائة، لتصل إلى 128617 طلباً خلال النصف الأول من العام الجاري، مقارنة بالنصف الثاني من العام الماضي. ويعد هذا الرقم الأكبر من المطالبات الحكومية بكشف بيانات مستخدمين، منذ أن بدأ «فيسبوك» نشر تقارير الشفافية عام 2013.
واحتلت الحكومة الأميركية المركز الأول من حيث عدد الطلبات، بإجمالي 50741 طلباً للحصول على بيانات تخص مستخدمين، كشف «فيسبوك» عن معلومات بالفعل في 88 في المائة منها. وأشار الموقع إلى أن ثلثي الطلبات الحكومية الأميركية صاحبها أمر تقييدي يحول دون إخطار الموقع للمستخدم بطلب الكشف عن بياناته.
وتكشف هذه المناوشات بين كبرى الحكومات الغربية والشركة التكنولوجية العملاقة، عن معضلة جوهرية كثيراً ما تقف أمامها الأنظمة الديمقراطية، هي: «الخصوصية أم الأمن؟».
من جهته، أعرب الدكتور صفوت العالم عن اعتقاده بأنه: «ستزداد صعوبة التدخلات الحكومية يوماً بعد آخر في مواقع التواصل الاجتماعي؛ خصوصاً مع ازدياد أعداد مستخدمي الشبكات، والتطور المستمر في التكنولوجيا والهواتف المحمولة، وسيبقى الاستثناء الوحيد تمرير الدول تشريعات تفرض على شبكات التواصل الكشف عن بيانات في ظل قضايا جنائية وأمنية محددة».
المعروف أن بعض الدول ذات الأنظمة الاستبدادية، اختارت لنفسها طريقاً ثالثة، ربما اعتبرتها الأسهل، بحظرها «فيسبوك» كلياً على أراضيها، مثلما فعلت الصين وإيران، وبالطبع كوريا الشمالية التي تحظر الإنترنت بأكملها.
# ترند: الخصوصية والأمن... معضلة «فيسبوك» والحكومات
# ترند: الخصوصية والأمن... معضلة «فيسبوك» والحكومات
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة