«قانون المواطنة» يضع التعدّدية الهندية أمام الامتحان

في عهد اليمين الهندوسي القومي

«قانون المواطنة» يضع التعدّدية الهندية أمام الامتحان
TT

«قانون المواطنة» يضع التعدّدية الهندية أمام الامتحان

«قانون المواطنة» يضع التعدّدية الهندية أمام الامتحان

فجّر التعديل الذي أقرّه حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي القومي الحاكم في الهند على «قانون المواطنة (الجنسية)» غضبة شعبية واسعة في مناطق كثيرة من البلاد. وللعلم، يسرّع هذا التعديل على «قانون المواطنة» مسار الحصول على الجنسية لكل من الهندوس والسيخ والبوذيين والمسيحيين والبارسي (الزرادشتيون) وما يسمى بـ«الأقليات الدينية المضطهدة» في الدول ذات الغالبية المسلمة المجاورة للهند، وهي بنغلاديش وأفغانستان وباكستان.
ولكن، ما يثير القلق والغضب هو ربط التعديل مسألة الحصول على الجنسية بالهوية الدينية، إذ ينظر كثيرون إلى القانون المعدّل على أنه «حظر للمسلمين»، وهو ما أدى إلى انتشار الاحتجاجات العارمة في طول الهند وعرضها. بل إن بعض هذه الاحتجاجات اتسمت بالعنف، وأسفرت عن سقوط ما لا يقل عن ستة قتلى، واعتقال الآلاف. وما يجدر ذكره، أن التطورات الأخيرة جاءت في أعقاب سلسلة مظاهرات طلابية شملت كثيراً من الجامعات والمعاهد العليا والفنية في البلاد

حظرت السلطات الهندية هذا الأسبوع الاحتجاجات والمظاهرات المناوئة على تعديل «قانون المواطنة» (الجنسية)، وكانت الإشكالية حول التعديل قد وصلت إلى المحكمة الهندية العليا التي أصدرت إخباراً إلى السلطات الاتحادية يشمل 59 عريضة تدحض مشروعية التعديل هذا العام. إلا أن المحكمة أحجمت عن إصدار وقف مؤقت لتطبيق التعديل القانوني الجديد، وأما الموعد المقبل لنظر القضية فهو 22 يناير (كانون الثاني) المقبل.
العرائض المقدمة تعتبر أن التعديل بشكّل تمييزاً سلبياً على أساس الدين بين المهاجرين المسلمين وغير المسلمين الوافدين من أفغانستان وباكستان وبنغلاديش، والمهاجرين الوافدين من الدول الثلاث وباقي المهاجرين، والمهاجرين هرباً من الاضطهاد الديني وغيرهم، وبين المهاجرين غير الشرعيين من أبناء ست ديانات أخرى والمسلمين من الدول الثلاث الذين دخلوا الأراضي الهندية قبل 31 ديسمبر (كانون الأول) 2014، وأولئك الذين دخلوا الهند بعد ذلك التاريخ. ووفق النص الموافق عليه لمشروع قانون التعديل، فإن المهاجرين المسلمين سيُعتبرون مهاجرين غير شرعيين.
من ناحية ثانية، يتواصل الجدل المستعر بين حزب بهاراتيا جاناتا، بقيادة رئيس الحكومة الاتحادية ناريندرا مودي، وقوى المعارضة، مع تزايد القوى الحزبية التي تناوئ التعديل، علماً بأن وزير الداخلية آميت شاه، البالغ النفوذ، أكد أن الحكومة ستنفذه. وبينما تنتشر المظاهرات والاحتجاجات في عموم الهند ضد مشروع قانون التعديل و«السجلّ الوطني للمواطنين»، تلجأ الحكومة إلى إجراءات أمنية هدفها إخماد اللهب السياسي في الشارع.

رفض التمييز السلبي

وفي هذا الإطار ظهر آميت شاه في مقابلات تلفزيونية يوم الثلاثاء الماضي، متعهداً بـ«ألا يواجه أي مسلم هندي من أي إجحاف أو ظلم من هذه السياسات». وفي السياق نفسه، نشرت حكومة مودي إعلانات في كثير من الصحف المنشورة باللغتين الهندية والأوردية تحذّر فيها من «الشائعات والأضاليل المروّجة». ولكن، يوم أمس (الخميس)، شهد جولة جديدة من الاحتجاجات ضد التعديل في مناطق عدة على امتداد الهند، فبادر وزير الداخلية إلى الدعوة لعقد اجتماع طارئ لمناقشة الأوضاع الأمنية في الهند. غير أن البرلماني المعارض شاشي ثارور، وزير الدولة السابق للشؤون الخارجية والأمين العام المساعد السابق في الأمم المتحدة، يقول إن استثناء طائفة دينية واحدة في هذا التعديل، الذي أقرّه رئيس الجمهورية رام ناث كوفيند فوراً كقانون ساري المفعول «أساساً خطوة مناقضة لتقاليد الهند العلمانية والتعددية». ومن ثم تساءل ثارور: «لماذا لا يشمل التعديل، مثلاً، ميانمار (بورما) وسريلانكا والصين؟ ولماذا لا يحق للهندوس التاميل من أبناء سريلانكا بالجنسية بموجب التعديل الجديد؟ ولماذا حددت المهلة الأخيرة للاستفادة منه بآخر 2014؟»

«السجلّ الوطني للمواطنين»

بالإضافة إلى تعديل «قانون المواطنة»، كانت الحكومة الهندية قد خرجت ببرنامج منفصل تحت اسم «السجلّ الوطني للمواطنين» في وقت سابق من العام الحالي في ولاية آسام بشمال شرقي البلاد. هذه اللائحة الخاصة بالمواطنية (الجنسية) تشكل جزءاً من جهود الحكومة الهادفة إلى الكشف عمن تزعم أنهم من المهاجرين غير الشرعيين في هذه الولاية، والتخلص منهم. ولقد نشرت اللائحة النهائية بأسماء هؤلاء يوم 31 أغسطس (آب) الماضي، وأخرجت نحو 1.9 مليون من المقيمين في آسام بينهم هندوس. وراهناً يساور القلق سكان آسام من أن كثيرين من هؤلاء سيُمنحون الجنسية الهندية، ما سيشكل خطراً على قوميتهم. وفي المقابل، يشعر تشانشال روي، وهو من أبناء طائفة الماتوا الهندوسية المهاجرة من بنغلاديش إلى شمال شرقي الهند، بالسعادة إزاء التعديل الخاص بالجنسية الذي أقرّه حزب بهاراتيا جاناتا. ويشرح: «لقد تعرّضنا طويلاً للقمع والقهر في بنغلاديش ما دفعنا للهجرة إلى آسام... وبما أن الهند بلد هندوسي، فإن من حقنا الحصول على الجنسية هنا». ولكن في الوقت ذاته، يقر روي بالمشاعر السلبية في أوساط الهندوس الآتين من بنغلاديش من «السجلّ الوطني»، ويوضح حالياً: «الناس هنا ينظرون إلى السحل الوطني المعمول به في آسام ويرون أن كثرة من الهندوس كانوا يُخرجون منه، ولكن بفضل التعديل الجديد على قانون المواطنية ما عدنا نحن الهندوس قلقين».

شكاوى المسلمين

هذا الارتياح معكوس تماماً في مناطق عدة من الهند تشهد الاحتجاجات بسبب استثناء المسلمين من لائحة التعديل. ذلك أن اللاجئين الروهينغا المسلمين الفارين من ميانمار، والمسلمين الأفغان لن يحصلوا بموجب التعديل على الجنسية الهندية، والشيء نفسه ينطبق على تاميل سريلانكا. وحقاً، شهدت شوارع مدن كثيرة في ولايات البنغال الغربية (شمال شرق) وكيرالا (جنوب) وغوا (غرب) احتجاجات، شاب بعضها العنف.
وخلال لقاء مع مسؤول محلي مسلم اسمه إقبال حسين، قال حسين متسائلاً: «هل جميع المسلمين إرهابيون؟ قد تكون هناك عناصر سيئة في كل طائفة، ولكن إقرار القانون بصيغته الحالية، يعني أن حزب (بهاراتيا جاناتا) يريد الهند خالية من المسلمين». وأردف: «الناس غاضبون جداً ويشعرون بضيق شديد... ونحن الآن ندرس ما يجب فعله».
في الاتجاه نفسه، يقول البرلماني دانيش علي متسائلاً: «ما الحاجة أصلاً إلى سن تشريع يستند إلى الهوية الدينية؟ أليست الغاية (فرّق تسُد)؟ إذا كانت الحكومة المركزية (الاتحادية الهندية) تؤمن بالمساواة وبتطبيقها فعليها أن تضم المسلمين، وكذلك المهاجرون من سريلانكا ونيبال وبهوتان وميانمار. ولكن بما أن هدفها الحقيقي خلق حالة استقطابية عند الناخبين الهندوس والمسلمين، وحرف الأنظار بعيداً عن التراجع الاقتصادي». ولكن السيد أحمد بخاري، إمام المسجد الجامع في دلهي، لا يرى في التعديل أي خطر على المسلمين في الهند، متهماً بعض الجهات «بتضليل الناس».

حالة لاجئ أفغاني

في أي حال، تشكل حالة عرمان (25 سنة)، اللاجئ من أفغانستان إلى الهند قبل أربع سنوات، في أعقاب تلقي عائلته تهديدات من حركة «طالبان»، حالة تستحق التوقّف عندها. عرمان سجّل كلاجئ عند كل من المفوضية العليا لشؤون اللاجئين والمكتب الإقليمي لتسجيل الأجانب، وهو واحد من كثير من الأفغان الذين يقيمون اليوم في منطقة لاجبات ناغار بمدينة دلهي. وهو بصف حاله بالقول: «نعم، يجب أن يسمح للسيخ والهندوس أن يأتوا إلى هنا، ولكن ماذا عن المسلمين؟ لقد واجهنا اضطهاداً وتمييزاً ضدنا في أفغانستان، ونرى أن الهند ذلك المكان الرحب الذي يوفر لنا العيش الذي نطمح إليه... ولهذا نود أن ننتقل إلى هنا، لكنني حالياً حزين. فإذا حرمنا من فرصة الاستقرار هنا فإلى أين سنذهب؟ الحياة صعبة بالنسبة للاجئين».
في الوقت ذاته، حذّر رئيس الحكومة الباكستانية عمران خان مجدداً من حرب نووية بين باكستان والهند حول تعديل «قانون المواطنة»؛ إذ جاء في كلمة عمران خان أمام «منبر اللاجئين العالمي»، الذي شارك في تنظيمه: «يهمني أن أبلغ العالم بأسره أن عليه إدراك خطورة أكبر أزمة لاجئين (في جنوب آسيا)... نحن في باكستان لسنا فقط قلقين من أزمة اللجوء، بل يقلقنا احتمال تطورها إلى نزاع. نزاع بين قوتين نوويتين».

الجامعة في الواجهة السياسية

بالتوازي مع الاحتجاجات المتصلة بتعديل «قانون المواطنة» (الجنسية) في الهند دخل طلاب الجامعات الهندية على خط الاحتجاجات، في عموم البلاد. فلقد اجتاحت جموع من الطلاب شوارع عدة مدن اعتراضاً على ما يعتبرونه شكلاً من أشكال التمييز ضد المسلمين في تعديل «قانون المواطنة»، واندلعت الاحتجاجات في أكثر من 20 جامعة.
الواقع أن التوتر تزايد كثيراً منذ 15 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، اعتراضاً على تعامل الشرطة مع طلاب ينتمون إلى الجامعة الملية الإسلامية في العاصمة دلهي وجامعة عليغره الإسلامية العريقة بمدينة عليغره في ولاية أوتار براديش بشمال الهند، وهي كبرى الولايات الهندية من حيث هدد السكان.
ومن ثم، تدخل رجال الشرطة بعنف إثر مسيرات احتجاجية نظمها طلاب في المعهد الهندي للتكنولوجيا (آي آي تي) في بومباي، ومعهد تاتا للعلوم الاجتماعية في المدينة نفسها، وجامعة حيدر آباد المركزية وجامعة مولانا آزاد في حيدر آباد، وندوة العلماء في مدينة لوكناو عاصمة أوتار بردايش، في أعقاب تعاطف طلاب هذه الجامعات والمعاهد مع زملائهم في عليغره ودلهي.
أيضاً نشط المحتجون على وسائل التواصل الاجتماعي، فشنوا حرباً سياسية عبر هذه المواقع، ولعبت بعض المواقع مثل «إنستغرام» دوراً بارزاً في نقل الاعتراضات على التعديل المذكور والمثير للجدل.
هذا النشاط السياسي الاحتجاجي الطلابي لم يأتِ من فراغ. إذ كانت الجامعات العامة والمعاهد الفنية الهندية قد بدأت التحول إلى مواقع من الفوضى والخلافات المريرة وميادين لمظاهرات ضخمة ومتزايدة ضد الحكومة، وسط غضب عارم تجاه قرار حكومة مودي اليمينية القومية الهندوسية إقرار زيادة كبيرة في تكلفة الإقامة في السكن الجامعي. هذه الزيادة أثارت غضب الطلاب ودفعتهم للخروج إلى الشوارع، ما اضطر قوات الشرطة إلى الانتشار في الشوارع هي الأخرى، ووقع صدام بين الجانبين ليتحول الأمر إلى صراع يتجاوز حدود كونه مجرد خلاف حول زيادة الأقساط والأكلاف.

جامعة جواهرلال نهرو

في الواجهة كانت ولا تزال جامعة جواهرلال نهرو في العاصمة الهندية نيو دلهي. هذه الجامعة تعد واحدة من أبرز الجامعات على مستوى آسيا. ومنذ إنشائها عام 1969. وقفت الجامعة كمنارة أمل على صعيد التعليم العالي والبحث العلمي في الهند. ولا يقتصر إسهام الجامعة على توفير مساحة تمكين للطلاب تتيح لهم عقد مناقشات حول قضايا سياسية مثيرة للجدل، وإنما يمتد إلى تحريرها الطلاب من سطوة وقمع الهياكل الطبقية والطائفية والأقساط والأكلاف الباهظة. ويصف البعض جامعة جواهرلال نهرو بأنها الجامعة الوحيدة التي توفر تعليماً عالي الجودة مدعوماً بدرجة كبيرة للطلاب الفقراء الذين يفد أكثر من 90 في المائة منهم من ولايات أخرى من أرجاء البلاد.
هنا، بقول شوبهودا تشودهري، الأكاديمي المقيم في نيودلهي: «هذا السبب تحديداً وراء تفاقم حركة الاحتجاجات الطلابية اليوم لتتجاوز مجرد تعبير عن غضب إزاء إدارة الجامعة، وتمتد إلى مسألة أكبر تتعلق بما يعتبره الطلاب كراهية من جانب الحكومة إزاء التعليم وطرح الإعلام للأحداث على نحو مضلل ووجود تباينات اجتماعية واقتصادية هائلة داخل البلاد». وحقاً، يرى كثيرون أن حكومة مودي، في محاولة منها للتغلب على خصومها الآيديولوجيين، رأت في الجامعات مراكز معارضة لنمط السياسات التي تنتهجها.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.