فرصوفيا تكشف عن مفاتنها بعد طول تجاهل

سقوط النظام الشيوعي أعاد إلى مدينة الموسيقار شوبان بريقها وكشف عن ثرائها التاريخي والفني

TT

فرصوفيا تكشف عن مفاتنها بعد طول تجاهل

أوّل موطئ أوروبي لقدمي كان في فرصوفيا(وارسو)، أواخر سبعينات القرن الماضي. يومها كانت العاصمة البولندية تنام تحت غطاء كثيف من الكآبة التي كانت تنسدل في تلك الحقبة على معظم الدول الواقعة وراء الستار الحديدي. كان الحزن يرسم تقاسيم وجوه أهلها الذين يعرفون، ربما أكثر من أي شعب آخر، كم هو باهظ ثمن التاريخ عندما يكون موقعك في المكان الجغرافي الخطأ.
ثم توالت زيارات أخرى، مع بداية الانتفاضة العمّالية التي قادتها نقابة «تضامن»، وزعيمها ليخ فاونسا عندما كان سكّان المدينة، إذا حالفهم الحظ، يكتفون بوجبة طعام واحدة في اليوم... إلى أن سقط النظام الشيوعي، وانضمت بولندا إلى الاتحاد الأوروبي، وراحت تستعيد بريقها الماضي، وتكشف عن مفاتنها التاريخية والفنّية، لتصبح إحدى الوجهات السياحية المفضّلة في أوروبا في السنوات الأخيرة.
في الحرب العالمية الثانية، تعرّضت فرصوفيا للتدمير الكامل على يد النازيين الذين انقضُّوا عليها في بداية زحفهم على أوروبا، لكن أُعِيدَ بناؤها بدقّة مذهلة استناداً إلى التصاميم الأصلية، لتصبح مدينة عصريّة يتوافد إليها السيّاح للتمتّع بمعالمها التاريخية والفنّية، أو المشاركة في أعيادها الشعبية ومهرجاناتها الموسيقية التي يدور معظمها حول أعمال ابنها عبقري الموسيقى الكلاسيكية فريدريك شوبان.
ننطلق في زيارتنا إلى فرصوفيا من القصر الملكي القديم الذي شيّده سيسموند الثالث، مالك بولندا والسويد، في عام 1596، عندما انتقل إليها وأعلنها عاصمة بولندا، بعد أن أُحرق قصره مرّتين في العاصمة القديمة كراكوفيا. وقد رُمم هذا القصر بعد الدمار الذي أصابه خلال الحرب العالمية، وفُتحت أبوابه أمام الزوّار للتمتّع بالروائع الفنّية التي تسكن في أروقته وقاعاته الفسيحة، والتنزّه في حدائقه الجميلة التي يزيّن بركتها الرئيسية تمثال الموسيقار الشهير فريديريك شوبان.
واستمرّ هذا القصر مقرّاً للعائلة المالكة البولندية إلى نهاية القرن الثامن عشر، وتنطلق من جهته الشرقية «درب الملوك» التي كانت تسكنها العائلة المالكة في طريقها إلى القصور الصيفية.
على مقربة من القصر يوجد الوسط التاريخي للمدينة، المدرج على لائحة اليونيسكو للتراث العالمي، وفي ساحته الرئيسية التي تذكّر بالساحة الكبرى في العاصمة البلجيكية بروكسل، يرتفع تمثال الحوريّة، رمزاً للعاصمة البولندية منذ القرن الثامن عشر. ويلفت أن الحوريّة تشهر سيفاً في وضع قتالي، لتذكّر بما تعرّضت له بولندا من اجتياحات واحتلالات إلى أن نالت استقلالها.
نتوجّه من هناك إلى قصر الثقافة والعلوم الذي يعود إلى الحقبة الاشتراكية، وهو أعلى مباني المدينة، قدّمه الاتحاد السوفياتي هديّة إلى فرصوفيا، وكان يحمل اسم «قصر ستالين» إلى أن تغيّر اسمه بعد سقوط الحكم الاشتراكي في بولندا. زيارة هذا المبنى تتيح الوقوف على ثراء الحركة الثقافية والفنّية البولندية التي عُرفت بكثرة الرائدين فيها، كما تتيح الإطلالة من أعلاه على أجمل مشهد للمدينة.
ومن المحطات اللازمة في زيارة فرصوفيا «الغيتو»، وهو الحي اليهودي القديم، الذي دمّره النازيّون وأحرقوه بعد محاولة التمرّد التي قام بها سكّانه الذين كان يزيد عددهم عن 400 ألف، ويشكّلون الجالية اليهودية الأكبر في أوروبا. وقد أُعِيد بناء هذا الحي كما كان قبل الحرب العالمية.
نغادر «الغيتو» من طرفه الغربي إلى حديقة «ساكسو» التي تُعتبر من أقدم الحدائق العامة في العالم، إذ تعود إلى القرن السابع عشر، وتظلّلها أشجار معمّرة يلجأ إليها سكّان المدينة في فصل الصيف، ويقيمون فيها حفلاتهم أيام العطل والأعياد، ويركن إليها السيّاح بحثاً عن الهدوء والراحة. وعلى مقربة من باب الحديقة الخلفي ترتفع أسوار المدينة القديمة «بارباكان» التي أعيد ترميمها بالكامل بعد تدميرها.
من الأسوار القديمة المبنيّة بالقرميد الأحمر، نعبر إلى حي «براغ»، الوحيد الذي لم يدّمر خلال الحرب لكنه أُهمِل حتى أواخر القرن الماضي عندما أُعيد ترميم مبانيه القديمة التي كانت في معظمها مخازن ومنشآت صناعية، لتصبح اليوم محترفات للفنانين والرسّامين وصالات للعرض ومختبرات للمبدعين الناشئين، وتجعل من هذا الحي المنطقة الأكثر حيوية في فرصوفيا، ومدينة داخل المدينة. فما زالت توجد في بعض شوارعه تلك المنازل الخشبية التي كانت شائعة في أوروبا الوسطى والشمالية في القرون الغابرة، ما دفع بالمخرج العالمي رومان بولانسكي، ابن المدينة، إلى اختياره لتصوير فيلمه المعروف «عازف البيانو».
وبين المطاعم الجديدة التي افتتحت خلال السنوات الأخيرة في هذا الحي، يقوم متحف فريد من نوعه هو «متحف النيون» الذي يضمّ مجموعة من الإعلانات الضوئية التي تعود إلى فترة الحكم الشيوعي في بولندا.
ومن حي «براغ» القديم ننتقل إلى «زلوتي تاراسي»، المركز التجاري الحديث، الذي يذهل بضخامة مبناه ومواده الفولاذية والزجاجية، وبهندسته الطليعية من الخارج والداخل. وإلى جانبه يقوم مبنى «كونيسير» الذي يضمّ مركزاً ثقافيّاً واجتماعيا طليعيّاً، يلتقي فيه المبدعون الشباب، وتنظّم في قاعاته منتديات فنـّية وعروض موسيقية مباشرة.
إلى جانب هذا المركز الذي يضمّ تشكيلة كبيرة من المحلات التجارية التي تغني عن التجوّل في شوارع المدينة للتسوّق، يوجد المتحف الوطني الذي يعتبر محور الحياة الفنية في بولندا، والذي نهبه النازّيون إبّان الحرب العالمية الثانية، لكن تمّت استعادة نحو مليون قطعة من موجوداته السابقة، ومنها أعمال لرسـّامين، مثل بوتيتشلّي ورامبراندت وتينتوريتّو.
أما الذين يرغبون في الوقوف على مَنْشأ الشخصية البولندية، فلا بد لهم من زيارة سريعة، بالقطار، إلى العاصمة القديمة كراكوفيا التي تبعد ساعتين عن فرصوفيا، التي كان وسطها التاريخي القديم، أكبر الساحات في أوروبا خلال القرون الوسطى، الذي كان أول المعالم الأثرية التي أدرجتها «اليونيسكو» على لائحة التراث العالمي.
لكن قبل مغادرة هذه المدينة، لا بد من زيارة رومانسية طريفة في أحد الأماكن المنسيّة، والمجهولة من السيّاح وكثير من أبناء فرصوفيا، في مبنى قديم يعود لعام 1905، وسط حي براغ، نجا هو أيضاً من دمار الحرب بأعجوبة. إنه Fotoplastikon حيث توجد آلة فوتوغرافية قديمة، تشبه ما عرفناه صغاراً باسم «صندوق العجائب»، يستعرض فيها المشاهِد صوراً ثلاثية الأبعاد من أواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن الماضي. وهو رابع ثلاثة في العالم، كان ملتقى للجواسيس خلال الحرب، ثم مرتعاً ليليّاً يرتاده المسؤولون في الحزب الشيوعي إبّان الحرب الباردة.


مقالات ذات صلة

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

الاقتصاد سياح صينيون يزورون مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء (رويترز)

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

أعلنت وزارة السياحة المغربية، الاثنين، أن عدد السياح الذين زاروا المغرب منذ بداية العام وحتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) بلغ 15.9 مليون سائح.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
سفر وسياحة من بين الأدوات التي استخدمها المجرمون في قتل ضحاياهم (متحف الجريمة)

«متحف الجريمة» في لندن... لأصحاب القلوب القوية

من براميل الأسيد التي استخدمها القاتل جون جورج هاي لتذويب ضحاياه والتي تعرف باسم Acid Bath «مغطس الأسيد» إلى الملابس الداخلية لـ«روز ويست».

عادل عبد الرحمن (لندن)
يوميات الشرق آلاف الحقائب التي خسرتها شركات الطيران في متجر الأمتعة بألاباما (سي إن إن)

المسافرون الأميركيون يفقدون ملايين الحقائب كل عام

داخل المساحة التي تبلغ 50 ألف قدم مربع، وإلى مدى لا ترى العين نهايته، تمتد صفوف من الملابس والأحذية والكتب والإلكترونيات، وغيرها من الأشياء المستخرجة من…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سفر وسياحة «ساحة تيفولي» في كوبنهاغن (الشرق الأوسط)

دليلك إلى أجمل أضواء وزينة أعياد الميلاد ورأس السنة حول العالم

زينة أعياد الميلاد ورأس السنة لها سحرها. يعشقها الصغار والكبار، ينتظرونها كل سنة بفارغ الصبر. البعض يسافر من بلد إلى آخر، فقط من أجل رؤية زينة العيد.

جوسلين إيليا (لندن)

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)
TT

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)

«إن أعدنا لك المقاهي القديمة، فمن يُعِد لك الرفاق؟» بهذه العبارة التي تحمل في طياتها حنيناً عميقاً لماضٍ تليد، استهل محمود النامليتي، مالك أحد أقدم المقاهي الشعبية في قلب سوق المنامة، حديثه عن شغف البحرينيين بتراثهم العريق وارتباطهم العاطفي بجذورهم.

فور دخولك بوابة البحرين، والتجول في أزقة السوق العتيقة، حيث تمتزج رائحة القهوة بنكهة الذكريات، تبدو حكايات الأجداد حاضرة في كل زاوية، ويتأكد لك أن الموروث الثقافي ليس مجرد معلم من بين المعالم القديمة، بل روح متجددة تتوارثها الأجيال على مدى عقود.

«مقهى النامليتي» يُعدُّ أيقونة تاريخية ومعلماً شعبياً يُجسّد أصالة البحرين، حيث يقع في قلب سوق المنامة القديمة، نابضاً بروح الماضي وعراقة المكان، مالكه، محمود النامليتي، يحرص على الوجود يومياً، مرحباً بالزبائن بابتسامة دافئة وأسلوب يفيض بكرم الضيافة البحرينية التي تُدهش الزوار بحفاوتها وتميّزها.

مجموعة من الزوار قدموا من دولة الكويت حرصوا على زيارة مقهى النامليتي في سوق المنامة القديمة (الشرق الأوسط)

يؤكد النامليتي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن سوق المنامة القديمة، الذي يمتد عمره لأكثر من 150 عاماً، يُعد شاهداً حيّاً على تاريخ البحرين وإرثها العريق، حيث تحتضن أزقته العديد من المقاهي الشعبية التي تروي حكايات الأجيال وتُبقي على جذور الهوية البحرينية متأصلة، ويُدلل على أهمية هذا الإرث بالمقولة الشعبية «اللي ما له أول ما له تالي».

عندما سألناه عن المقهى وبداياته، ارتسمت على وجهه ابتسامة وأجاب قائلاً: «مقهى النامليتي تأسس قبل نحو 85 عاماً، وخلال تلك المسيرة أُغلق وأُعيد فتحه 3 مرات تقريباً».

محمود النامليتي مالك المقهى يوجد باستمرار للترحيب بالزبائن بكل بشاشة (الشرق الأوسط)

وأضاف: «في الستينات، كان المقهى مركزاً ثقافياً واجتماعياً، تُوزع فيه المناهج الدراسية القادمة من العراق، والكويت، ومصر، وكان يشكل ملتقى للسكان من مختلف مناطق البلاد، كما أتذكر كيف كان الزبائن يشترون جريدة واحدة فقط، ويتناوبون على قراءتها واحداً تلو الآخر، لم تكن هناك إمكانية لأن يشتري كل شخص جريدة خاصة به، فكانوا يتشاركونها».

وتضم سوق المنامة القديمة، التي تعد واحدة من أقدم الأسواق في الخليج عدة مقاه ومطاعم وأسواق مخصصة قديمة مثل: مثل سوق الطووايش، والبهارات، والحلويات، والأغنام، والطيور، واللحوم، والذهب، والفضة، والساعات وغيرها.

وبينما كان صوت كوكب الشرق أم كلثوم يصدح في أرجاء المكان، استرسل النامليتي بقوله: «الناس تأتي إلى هنا لترتاح، واحتساء استكانة شاي، أو لتجربة أكلات شعبية مثل البليلة والخبيصة وغيرها، الزوار الذين يأتون إلى البحرين غالباً لا يبحثون عن الأماكن الحديثة، فهي موجودة في كل مكان، بل يتوقون لاكتشاف الأماكن الشعبية، تلك التي تحمل روح البلد، مثل المقاهي القديمة، والمطاعم البسيطة، والجلسات التراثية، والمحلات التقليدية».

جانب من السوق القديم (الشرق الاوسط)

في الماضي، كانت المقاهي الشعبية - كما يروي محمود النامليتي - تشكل متنفساً رئيسياً لأهل الخليج والبحرين على وجه الخصوص، في زمن خالٍ من السينما والتلفزيون والإنترنت والهواتف المحمولة. وأضاف: «كانت تلك المقاهي مركزاً للقاء الشعراء والمثقفين والأدباء، حيث يملأون المكان بحواراتهم ونقاشاتهم حول مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية».

عندما سألناه عن سر تمسكه بالمقهى العتيق، رغم اتجاه الكثيرين للتخلي عن مقاهي آبائهم لصالح محلات حديثة تواكب متطلبات العصر، أجاب بثقة: «تمسكنا بالمقهى هو حفاظ على ماضينا وماضي آبائنا وأجدادنا، ولإبراز هذه الجوانب للآخرين، الناس اليوم يشتاقون للمقاهي والمجالس القديمة، للسيارات الكلاسيكية، المباني التراثية، الأنتيك، وحتى الأشرطة القديمة، هذه الأشياء ليست مجرد ذكريات، بل هي هوية نحرص على إبقائها حية للأجيال المقبلة».

يحرص العديد من الزوار والدبلوماسيين على زيارة الأماكن التراثية والشعبية في البحرين (الشرق الأوسط)

اليوم، يشهد الإقبال على المقاهي الشعبية ازدياداً لافتاً من الشباب من الجنسين، كما يوضح محمود النامليتي، مشيراً إلى أن بعضهم يتخذ من هذه الأماكن العريقة موضوعاً لأبحاثهم الجامعية، مما يعكس اهتمامهم بالتراث وتوثيقه أكاديمياً.

وأضاف: «كما يحرص العديد من السفراء المعتمدين لدى المنامة على زيارة المقهى باستمرار، للتعرف عن قرب على تراث البحرين العريق وأسواقها الشعبية».