لبنان: الأزمة الحكومية... من تحدي التكليف إلى مخاض التأليف

على وقع ازدياد زخم تحركات الشارع والمطالبة بتعيين اختصاصيين لا سياسيين

الحريري خلال تقديمه استقالته الى الرئيس عون خلال لقائهما في بعبدا (رويترز)
الحريري خلال تقديمه استقالته الى الرئيس عون خلال لقائهما في بعبدا (رويترز)
TT

لبنان: الأزمة الحكومية... من تحدي التكليف إلى مخاض التأليف

الحريري خلال تقديمه استقالته الى الرئيس عون خلال لقائهما في بعبدا (رويترز)
الحريري خلال تقديمه استقالته الى الرئيس عون خلال لقائهما في بعبدا (رويترز)

تسلك الأزمة الحكومية في لبنان، مطلع الأسبوع المقبل، مساراً جديداً مع ترقب ما ستنتج عنه الاستشارات النيابية التي يجريها رئيس الجمهورية، العماد ميشال عون، يوم بعد غد (الاثنين)، التي يُفترض أن تنتهي لتكليف رئيس لتشكيل الحكومة الجديدة.
وتشير كل المعطيات إلى أنه سيكون مجدداً رئيس تيار «المستقبل» سعد الحريري بغياب أي مرشحين معلنين آخرين. مع العلم، أن المطلعين على المسار الحكومي يتوقعون «الانتقال في الأسبوع المقبل من تحدي التكليف إلى مخاض التأليف الذي يُرجح أن يكون طويلاً وشبيهاً بالمخاضات الحكومية السابقة».
ورغم قرار عون تأجيل الاستشارات التي كان يُفترض أن تجري، مطلع الأسبوع الحالي، حتى تبلور المشهد العام لجهة حسم القوى السياسية قرارها، ومحاولة تأمين نوع من التوافق حول اسم معين، لا تُظهر المعطيات الحالية أن الكثير قد يتغير في الساعات المقبلة. وهذا، في ظل تمترس كل فريق وراء شروطه، وبالتحديد لجهة مطالبة «المستقبل» و«التقدمي الاشتراكي» و«القوات» و«الكتائب» بتشكيل حكومة من الاختصاصيين، مقابل إصرار «الثنائي الشيعي» على حكومة تكنوسياسية يكون فيها التمثيل الحزبي مختصراً.

يعيد الخلاف الحالي على شكل الحكومة اللبنانية العتيدة، إلى حد ما، إنهاض اصطفافي 8 و14 آذار اللذين اعتقد البعض أنهما تداعيا بعد التسوية السياسية بين تيار «المستقبل» و«التيار الوطني الحر» (التيار العوني)، التي تم التوصل إليها في عام 2006، وأدت لانتخاب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية. إلا أن الطرفين يؤكدان أن التنسيق المباشر الذي كان قائماً في مرحلة 2005 - 2015 بين مختلف المكوّنات لم يعد قائماً اليوم، وأن وحدها التوجهات الاستراتيجية هي التي تجمع هذه القوى من جديد في اصطفافين متواجهين.

اندلاع الأزمة
بدأت الأزمة الحكومية (كما هو معروف) في 17 أكتوبر (تشرين الأول) على خلفية انطلاق حراك شعبي للتصدي لإقرار ضرائب جديدة كانت الحكومة تخطط لفرضها من خلال قطاع الاتصالات. وحاول مجلس الوزراء الذي يرأسه سعد الحريري استيعاب النقمة الشعبية المتفجرة، من خلال المسارعة لإقرار ورقة إصلاحات تضمنت 24 إجراءً وصف الخبراء بعضها بـ«غير المسبوق». وضمت تلك الورقة الاتفاق مع البنوك لخفض تكلفة الدين العام، وفرض ضرائب على أرباح المصارف لمدة عام واحد، أو لجهة خصخصة قطاع الهاتف الجوال، والشروع في إصلاح قطاع الكهرباء، وإقرار مناقصات محطات الغاز، فضلاً عن خفض جميع رواتب الوزراء والنواب الحاليين والسابقين بنسبة 50 في المائة، وإلغاء جميع الصناديق (المهجرين - الجنوب - الإنماء والإعمار).
بيد أن هذه الورقة لم تُرضِ الجماهير التي نزلت إلى الساحات وقطعت الطرقات للضغط باتجاه إسقاط الحكومة. ولم يتأخر الحريري بتلبية هذا المطلب، فقدم استقالة حكومته يوم 29 أكتوبر، أي بعد 12 يوماً على اندلاع الانتفاضة، رغم اعتراض القوى الرئيسية التي تشكل مجلس الوزراء، وأبرزها «التيار الوطني الحر» و«حزب الله».
ومع نجاح المتظاهرين بدفع الحريري إلى الاستقالة، ازداد زخم تحركاتهم، وباتوا يطالبون موحّدين بتشكيل حكومة من الاختصاصيين لا يكون فيها تمثيل سياسي. وربط الحريري ترؤسه لأي حكومة جديدة بتلبية هذا المطلب، ما أدى لاعتراض العونيين، لاعتباره أن الحريري ليس من الاختصاصيين، وإذا كان سيتم السير بحكومة من غير السياسيين فمن المفترض ألا يرأسها الحريري.
ومع مرور الأيام، كان العونيون يحمّلون رئيس «المستقبل» مسؤولية التأخير بتشكيل الحكومة ويتهمونه بفرض معادلة «أنا أو لا أحد»، ما دفعه إلى إصدار بيان واضح أكد فيه تمسكه بقاعدة «ليس أنا، بل أحد آخر لتشكيل حكومة».
ومن ثم، عندما أحيا اللبنانيون عيد الاستقلال في 22 نوفمبر (تشرين الثاني)، في ظل حكومة تصريف أعمال، بدا واضحاً خلال الاحتفال الرمزي العسكري الذي أُقيم في وزارة الدفاع حجم الخلاف بين الحريري ورئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الذي كان وما زال يأخذ عليه تقدمه بالاستقالة من دون الأخذ برأيه والاتفاق على كيفية إدارة المرحلة المقبلة.
الدستور... والتكليف والتأليف

قرار عون بألا يدعو للاستشارات النيابية مباشرة بعد استقالة الحريري من أجل فتح الباب أمام مشاورات تسبق توجه الكتل إلى قصر بعبدا، شكل مادة دسمة لسجال دستوري مستمر حول صلاحيات رئيسي الجمهوري والحكومة. وكان رئيس الجمهورية قد برر قراره هذا بوجوب تحقيق حد أدنى من التوافق المطلوب حول اسم رئيس الحكومة الجديد، كي لا يخرج البلد من أزمة التكليف وندخل في أزمة تأليف. إلا أن الثلاثي «المستقبل» - «الحزب التقدمي الاشتراكي» - «القوات اللبنانية»، إضافة إلى «الكتائب اللبنانية» المنضوي في المعارضة منذ فترة، يتهم رئيس الجمهورية الذي كان أصلاً معارضاً لـ«اتفاق الطائف»، بالانقضاض على الدستور. وهو ما كان يردده المتظاهرون في الشوارع الذين طالبوا رئيس البلاد بالدعوة إلى استشارات من دون مماطلة ليأخذ النظام البرلماني مجراه، رافضين تماماً الاستمرار بإتمام تفاهمات وصفقات تسبق أي استحقاق دستوري.
في أي حال، رغم نفي الأفرقاء المعنيين، بدا واضحاً أنه تم توحيد مساري التكليف والتأليف، إذ انطلقت برعاية عون، في الأسابيع الماضية، وبالتزامن مع البحث عن اسم رئيس جديد للحكومة، المشاورات البعيدة عن الأضواء حول شكل الحكومة وأسماء الوزراء وتوزيع الحقائب فيما بينهم. ولم يستقر «بازار» أسماء المرشحين لخلافة الحريري إلا بعد إعلان دار الفتوى ورؤساء الحكومات السابقين صراحة إصرارهم على عودة رئيس «المستقبل» إلى السراي الحكومي، مع أنه كان قد استبق ذلك بتأكيد عدم حماسته للعودة إلى السراي الحكومي بالمعطيات الراهنة.
فلقد توالت عملية حرق الأسماء التي كانت مطروحة لخلافته تباعاً؛ فأُحرق اسم الوزير السابق محمد الصفدي الذي كان يدعمه العونيون في الشارع مع إعلان الناشطين رفضهم تماماً أن يرأس الصفدي حكومة اختصاصيين محمّلين إياه إلى جانب باقي المسؤولين نتائج ما آلت إليه الأوضاع في البلد.
وبعد الصفدي، طُرح اسم الوزير السابق الدكتور بهيج طبارة الذي سقط أيضاً بعد ساعات من طرحه، ليستقر البازار عند اسم المهندس سمير الخطيب. وبدا لبعض الوقت أن هناك «تفاهم حد أدنى» بين القوى السياسية على تسمية الخطيب، بعد تحديد عون موعداً للاستشارات النيابية، يوم الاثنين الماضي. إلا أنه لم تبين لاحقاً أن لا اتفاق سياسياً على تسمية الخطيب الذي خرج من دار الفتوى، وبعدها من بيت الوسط (مقر الحريري) ليعلن انسحابه، وليتحدث عن توافق بين القوى الإسلامية على اسم الحريري.

«هواجس» عند «حزب الله»
لعل أبرز ما يمكن التوقف عنده خلال المسار المستمر لتشكيل الحكومة التباين الواضح والمستجد بين «حزب الله» وحليفه «التيار الوطني الحر» في المقاربة المعتمدة؛ إذ يتمسك الحزب بالحريري لتشكيل حكومة جديدة يريدها حكومة وحدة وطنية تضم كل الأفرقاء، بينما يميل الثاني منذ البداية لتجاوز الحريري واعتماد خيار آخر لرئاسة مجلس وزراء يأمل منه ألا «يعرقل» سياسات ما تبقى من عهد رئيس الجمهورية ومؤسسه عون. وهنا تجدر الإشارة إلى أن عون وقيادة تياره لم يتجاوزا ما يعتبرانها «طعنة بالظهر» وجهها الحريري لهما بقراره تقديم استقالة حكومته.
من جهته، لم يخفِ «حزب الله» إصراره على عودة الحريري إلى السراي الحكومي، فأعلن الوزير في حكومة تصريف الأعمال محمد فنيش أن «التنسيق مع الرئيس الحريري قائم، لأن الحزب لا يريد المواجهة مع أحد». أما رئيس كتلة الحزب النيابية محمد رعد، فأكد من جهته التمسك بـ«تشكيل حكومة وحدة وطنية وفق صيغة (اتفاق الطائف)»، معتبراً أنه «غير هذا سيبقى البلد في ظلّ حكومة تصريف أعمال، وسنلاحقهم لكي يقوموا بواجبهم، الذي لا يقوم بواجباته سنحاسبه».
ويعلل «الثنائي الشيعي» (أي «حزب الله» و«حركة أمل») تمسُّكه بالحريري من باب التصدي لأي صدام سني - شيعي، ولاقتناعه بأن «المرحلة الحالية تقتضي أن يكون هو على رأس مجلس الوزراء، نظراً لمروحة علاقاته الدولية الواسعة التي من المفترض أن تؤمن وصول المساعدات المرتقبة للبنان لانتشالنا من الأزمتين المالية والاقتصادية اللتين نتخبط فيهما».
وتشير مصادر الثنائي في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن الإصرار على الحريري «ليس إيماناً بمشروعه ومسيرته السياسية، إنما إصراراً منا على وجوب أن يتحمل، كما نحن، وكما باقي القوى السياسية التي كانت جزءاً من السلطة منذ (اتفاق الطائف) وحتى اليوم، مسؤولية الأوضاع التي نحن فيها اليوم... فأما أن نكون كلنا شركاء في نهوض البلد من جديد، أو نتحمل جميعاً مسؤولية الانهيار».
إلا أن ليونة «حزب الله» بالتعاطي مع إعادة تسمية الحريري شيء، ومطالبته بحكومة تكنو سياسية شيء آخر تماماً، وهو ليس بصدد تقديم أي تنازل بشأنه. هذا ما تؤكده المصادر التي تعتبر أن «كل الدعوات لتشكيل حكومة من التكنوقراط أصلاً ليست إلا صدى للأجندة الأميركية التي تهدف لإقصاء (حزب الله) عن الحكم، وهو ما لن نقبل به مهما كانت الأثمان». وتضيف المصادر: «كيف يقبل الطرف المنتصر إقليمياً كما داخلياً عبر نتائج الانتخابات النيابية أن يخرج من الحكم ويخضع للشروط الأميركية؟! نحن نفضل أن تستمر حكومة تصريف الأعمال 10 سنوات، ولا نسير بحكومة حسب الأهواء الأميركية».

باسيل خارج الحكومة؟
وقبل أيام من الموعد الجديد الذي حدده عون للاستشارات النيابية، خرج رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل ليعلن عدم حماسته للعودة إلى حكومة تكنوسياسية يرأسها الحريري، مؤكداً بذلك الخلاف مع حليفه «حزب الله» على كيفية مقاربة الملف الحكومي.
وقال باسيل في مؤتمر صحافي بعد اجتماع «تكتل لبنان القوي»، أول من أمس (الخميس): «إذا أصرّ الرئيس الحريري على (أنا أو لا أحد) وأصرّ (حزب الله) و(حركة أمل) على مقاربتهما بمواجهة المخاطر الخارجية بحكومة تكنو سياسية برئاسة الحريري، فنحن كـ(تيّار وطني حرّ)، وكـ(تكتّل لبنان القوي)، لا يهمّنا أن نشارك بهكذا حكومة، لأن مصيرها الفشل حتماً». وأضاف: «لا نشارك ولا نحرّض، ولكن نقوم بمعارضة قوية وبنّاءة للسياسات المالية والاقتصادية والنقدية القائمة ونقوم بمقاومة لمنظومة الفساد القائمة من 30 سنة، التي يريد البعض الاستمرار فيها من خلال استنساخ الحكومة ذاتها».
في هذه الأثناء، استبعد مدير معهد «الشرق الأوسط للشؤون الاستراتيجية» الدكتور سامي نادر أن يكون هناك قرار عوني نهائي بالانضواء في صفوف المعارضة، مرجحاً أن يكون ما أعلنه باسيل هدفه المناورة، ويندرج بإطار التكتيكات لتحسين موقعه التفاوضي.
وقال نادر، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» متسائلاً: «كيف سيعارض (التيار) حكومة يرأسها العماد عون؟ ألا يعلم أن ذلك سيؤدي لإضعاف موقع الرئاسة؟ أليس الرئيس عون رمزهم؟ ألا يعلمون أنه بالنهاية يشكل مع الرئيس المكلف الحكومة التي لا تمر تشكيلتها دون توقيعه؟».
وشدد نادر على أنه «إذا كان (التيار) اشتاق للشارع بعدما اكتشف أن جزءاً كبيراً من مؤيديه تعاطفوا مع الثورة، فمحاولة العودة إلى الشارع اليوم ستكون يائسة، فمن أمضى 15 سنة في الحكم وتولى الوزارات الأساسية لا يمكنه أن يصبح في الشارع في ليلة وضحاها، فهو يحتاج لينسحب إلى سنتين على الأقل أو 3 من السلطة قبل العودة إلى موقعه السابق».

الإنذار الدولي
على صعيد متصل، شكّل اجتماع «مجموعة الدعم الدولية للبنان» في العاصمة الفرنسية باريس منعطفاً أساسياً في مسار الأحداث، الأسبوع الماضي، إذ اشترطت المجموعة التي أسست عام 2013 وتضم فرنسا والولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة، بالإضافة لممثلين عن المؤسسات المالية الدولية، تشكيل حكومية إصلاحية في لبنان لمساعدته اقتصادياً.
وقالت إن الحفاظ على استقرار لبنان وأمنه واستقلاله يتطلب التشكيل الفوري لحكومة. وأضافت أنه يجب أن تكون لتلك الحكومة القدرة والمصداقية للقيام بإصلاحات اقتصادية، وإبعاد البلاد عن التوترات والأزمات الإقليمية. وأكدت أن على لبنان تبني إصلاحات مستدامة وموثوق بها لمواجهة التحديات الطويلة الأمد في الاقتصاد الوطني، مشيرة إلى ضرورة أن تعكس هذه الإجراءات تطلعات الشعب اللبناني.
وحول هذا الموضوع، اعتبر الدكتور نادر أن بيان المجموعة «يجب أن يكون واضحاً للقوى اللبنانية، فهو اعتمد لغة دبلوماسية، لكنه وجه رسائل حاسمة، وبالتحديد لجهة التشديد على أن تلاقي الحكومة الجديدة تطلعات الشارع»، لافتاً إلى أن «الجميع بات يعلم أنه لا مجال لإعادة استنساخ المنظومة القديمة، وأن ما بعد 17 أكتوبر (تشرين الأول) لا يمكن أن يكون كما قبله». وأضاف: «حتى إن المجتمع الدولي لم يعد مرحِّباً بالتعاون مع هذه المنظومة، لذا يصر (حزب الله) على الشراكة السنّية مع سعد الحريري الذي يبدو حالياً الأقدر على التواصل مع الغرب، وقد حاول إثبات ذلك من خلال الاستعراض الذي قام به هذا الأسبوع من خلال اتصالاته والرسائل الدولية التي بعث بها».



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.