«الناتو»: سيدة عجوز تستعيد شبابها

أعلام أعضاء حلف الناتو أمام مقره الرئيسي في بروكسل (رويترز)
أعلام أعضاء حلف الناتو أمام مقره الرئيسي في بروكسل (رويترز)
TT

«الناتو»: سيدة عجوز تستعيد شبابها

أعلام أعضاء حلف الناتو أمام مقره الرئيسي في بروكسل (رويترز)
أعلام أعضاء حلف الناتو أمام مقره الرئيسي في بروكسل (رويترز)

«ولى عهده» و«توقف دماغه عن العمل» و«أصبح من دون فائدة»، هكذا وصف الرؤساء الأميركي دونالد ترمب والفرنسي إيمانويل ماكرون والتركي رجب طيب إردوغان منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الأسبوع الماضي، أثناء الاحتفال بالذكرى الـ70 لتأسيس الحلف خلال اجتماع قمة عقد في واتفورد، قرب لندن.ة
وبالنظر إلى هذه التصريحات، توقع بعض المراقبين أن الناتو، الذي يعرف داخل الدوائر السياسية باسم «السيدة العجوز»، سيحال إلى التقاعد قريباً. ومع هذا، تحولت القمة إلى محاولات تودد حماسية بجانب تقديم هدايا سخية إلى «السيدة العجوز»، كان بينها ضخ 150 مليار دولار كتمويلات جديدة في نفقات الدفاع من جانب جميع الدول الـ29 تقريباً.
وكان هناك اتفاق بالإجماع حول ضرورة بذل جهود جديدة من جانب الدول الأعضاء من أجل تخصيص 2 في المائة من إجمالي الناتج الداخلي لها كحد أدنى إلى الدفاع. جدير بالذكر أنه في الوقت الحالي، تلتزم بهذا الهدف ثلاث دول أعضاء فقط: الولايات المتحدة وبريطانيا واليونان.
ورغم شهور من التوقعات فيما يخص تقليص عدد القوات الأميركية في أوروبا، أشارت القمة إلى أن أعداد القوات الأميركية بالقارة العجوز ارتفع بمقدار 14.000 في أكبر زيادة منذ عام 2000. كما كان هناك اتفاق على عقد مشاورات كبرى حول إعادة تعريف أهداف الحلف واستراتيجيته. وربما يتضمن ذلك المشاركة المباشرة في القتال ضد أو على الأقل احتواء «الدول الراعية للإرهاب الدولي»، الأمر الذي أثاره الرئيس إردوغان بحماس. جدير بالذكر أن البند الخامس من معاهدة الحلف تلزم جميع الأعضاء بالعمل المشترك إذا، وعندما، تتعرض دولة عضو لهجوم. وكانت المرة الوحيدة التي جرى خلالها تفعيل هذا البند عندما سقطت الولايات المتحدة ضحية لهجمات 11 سبتمبر التي استهدفت نيويورك وواشنطن، ما دفع جميع الدول الأعضاء للوقوف إلى جانب الولايات المتحدة في العملية التي أنهت حكم «الإمارة الإسلامية» التي أقامها تنظيم «طالبان» في أفغانستان. ومن شأن إلزام التحالف بمحاربة «الجماعات والدول الإرهابية» إعطاء الناتو مهمة جديدة تتجاوز الهدف المحدد له منذ فترة الحرب الباردة والمتعلق بالدفاع عن أوروبا الغربية في مواجهة أي عدوان سوفياتي محتمل.
يصر معظم المؤرخين على أن الناتو نجح في الحفاظ على السلام داخل أوروبا وأسهم في الاندحار الأخير للاتحاد السوفياتي السابق. ومع هذا، ثمة أدلة ظهرت بعد نهاية الحرب الباردة تكشف أنه حتى رغم ما حملوه بداخلهم من أطماع توسعية، فإن السوفيات افتقروا إلى الموارد العسكرية والاقتصادية اللازمة لشن غزو ضد أوروبا.
يذكر أن الاتحاد السوفياتي حول شرق ووسط أوروبا إلى دول تدور في فلكه داخل إطار عمل من الاتفاقات التي جرى التوصل إليها مع الولايات المتحدة وبريطانيا في يالطا وبوتسدام. وفي المناطق التي لم تنطبق عليها هذه الاتفاقات، مثل إيران واليونان، انسحبت القوات السوفياتية دون إجبارها على ذلك من جانب جيش غربي. وداخل أوروبا، لم تحاول موسكو السيطرة مباشرة على دول لم ترد باتفاقي يالطا وبوتسدام حتى عندما كانت تحكم هذه الدول أنظمة شيوعية مثلما كان الحال في رومانيا ويوغوسلافيا.
ولم يضطلع الناتو بأي دور في كثير من الحروب التي شنتها دول أعضاء بمفردها، كان أبرزها الحروب الفرنسية الاستعمارية في الهند الصينية والجزائر، والعمليات البريطانية ضد التمرد في المالايا وعدن والغزو الفرنسي - البريطاني - الإسرائيلي لمصر في حرب السويس. في الواقع، فيما يخص الحرب في الجزائر وعملية السويس، عارضت الولايات المتحدة علانية جميع أعضاء الناتو المشاركين فيها.
على النقيض، نجد أن الولايات المتحدة اضطرت إلى تكوين تحالفات بديلة لخوض حروب في شبه الجزيرة الكورية والهند الصينية، وفي وقت لاحق في غرانادا والكويت والعراق. من جانبهم، خاض البريطانيون حرب جزر فوكلاندز ضد الأرجنتين دون دعم من الناتو. وفي وقت قريب، لعب الناتو دوراً داعماً في البلقان أدى إلى تفكك يوغوسلافيا. ومع هذا، لم يكن بمقدور أحد الحديث عن الوقوف بوجه المعتدي الروسي الذي توصل لاتفاق تعاون مبهم مع التحالف بقيادة الولايات المتحدة وانضم للناتو في بعض العمليات.
أيضاً، غاب الناتو عن حروب الوكالة التي جرت بين اليونان وتركيا، وكلتاهما عضوان في الحلف، حول قبرص عام 1974. خلال العقد الحالي، ظهر خطاب جديد يدور حول «النوايا العدوانية» لروسيا ويرمي في جزء منه لتبرير استمرار الناتو رغم اختفاء الكتلة السوفياتية المكافئة المتمثلة في حلف وارسو. وجرت الإشارة إلى الغزو الروسي لجورجيا وضم أوستيا الجنوبية وشبه جزيرة القرم، ومن بعد ذلك بناء جيب يخضع لسيطرة روسيا في شرق أوكرانيا باعتبارها أسباباً لاستمرار الناتو، بل وازدياده قوة، رغم أن الدفاع عن جورجيا وأوكرانيا لم يكن قط من مهامه. وإذا كان الناتو لم يخض أي حرب وليس بمقدوره خوض حرب أقل من مستوى حرب عالمية ثالثة، فما سبب وجوده ومبرر توفير الموارد المتاحة لديه؟
تتمثل الإجابة في أن الناتو قائم لإقناع المعتدين المحتملين بأنه ليس بمقدورهم أبدا الخروج منتصرين من أي حرب كبرى أمام الحلف، وبالتالي من الأفضل لهم الحفاظ على السلام. وفيما يخص هذه المهمة الكبرى، حقق الناتو نجاحاً باهراً. إلا أن الأمر لا يقتصر على ذلك، وإنما عاون الناتو في إسراع وتيرة عملية التحول إلى الديمقراطية داخل كثير من الدول الأوروبية، وخروج ألمانيا الفيدرالية وإيطاليا من الحكم النازي والفاشي ومعاونة إسبانيا والبرتغال واليونان على التخلص من عقود من الأنظمة الاستبدادية العسكرية، ناهيك من تخلص دول أوروبية من الهيمنة السوفياتية. وأبقت عضوية الناتو المؤسسة العسكرية التركية تحت السيطرة وحالت دون قضاء الجنرالات على آخر جذوة للديمقراطية في هذا البلد. ورغم ذلك، ما من شك في أن التحالف بحاجة لإعادة تعريف. من جانبه، حاول الرئيس جورج دبليو. بوش «فعل شيء» من خلال إقدامه على خطوات ترمي لتوسيع نطاق الحلف عبر ضم أعضاء جدد وأعضاء منتسبين مثل جورجيا وطاجكستان وقريغزستان وأوزبكستان وذلك قرب نهاية فترة رئاسته. في المقابل، فإنه بسبب عدائه الآيديولوجي للحلف، حاول الرئيس باراك أوباما الذي خلف بوش، تقليص نفوذ الحلف عبر خفض الميزانية المخصصة له وتحويل الانتباه إلى ما وصفه باستراتيجية «محور آسيا»
ودفعت سياسات أوباما بعض الدوائر الأوروبية لإطلاق نقاشات حول بناء آلة عسكرية أوروبية مستقلة عن الناتو. وكان أنصار فكر ديغول في فرنسا أكثر المتحمسين لهذا الأمر. جدير بالذكر أنه في ظل قيادة الرئيس شارل ديغول انسحبت فرنسا من الجانب العسكري للناتو وأغلقت قواعد الحلف على الأراضي الفرنسية. واستأنفت فرنسا العضوية الكاملة في الحلف تحت قيادة الرئيس جاك شيراك. ويعتبر اتحاد الدفاع الأوروبي الذي يعتبر في جوهره شراكة فرنسية - ألمانية، الثمرة الأولى لهذه النقاشات. والأهم من ذلك، أطلق الاتحاد الأوروبي مبادرة «أمن أوروبا وهويتها الدفاعية» كإطار عمل لبناء تحالف عسكري كامل من جميع الدول الـ27 الأعضاء (ما عدا بريطانيا).
وربما يسعى الناتو لإعادة تعريف دوره المستقبلي عبر سبل أربع: أولاً: إحياء عقيدة نيكسون، بمعنى تكوين تحالفات إقليمية ملتزمة بحماية النظام العالمي، ربما كوسيلة فاعلة للتعامل مع التهديدات المحلية على أساس جزئي. وتوجد مثل هذه التحالفات في بعض الأماكن، خاصة منطقة الدول الآسيوية المطلة على المحيط الهادي مع أستراليا ونيوزيلندا واليابان وكوريا الجنوبية. وبناء هيكل مشابه بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تعتبر اليوم الجزء الأكثر افتقاراً إلى الاستقرار على مستوى العالم، ربما يشكل تحدياً كبيراً يستحق خوضه.
ثانياً: من المقرر توجيه مزيد من الموارد إلى تطوير قدرات قتالية بالحروب يجري التحكم فيها عن بعد. وفي ظل تقليص أو إغلاق بعض القواعد التقليدية، وأبرزها أنجرليك، يجري اليوم بناء قواعد أخرى أصغر، لكنها أكثر تطوراً وتعقيداً، منها اثنتان في ألبانيا.
ثالثاً: الاستعداد للحروب السيبرانية، بما في ذلك ما يطلق عليها حروب العصابات والتي بدأت تحظى باهتمام أكبر. وبالفعل يجري تشكيل وإدارة وحدات خاصة، أبرزها في ليتوانيا ويجري التخطيط لبناء مزيد من نقاط التنسيق.
رابعاً: بناء وتدريب ونشر وحدات متحركة لمكافحة الإرهاب الدولي ورعاته دون الحاجة للالتزام بقوات نظامية. وبالفعل، تختبر الولايات المتحدة فكرة استبدال بالوحدات القتالية العادية في سوريا أخرى أصغر، لكن أكثر فاعلية ومدربة على مواجهة الإرهاب.
وأخيراً، هناك مثل إنجليزي يقول: السيدة العجوز لا تموت أبداً. إلا أنه في حالة الناتو، يبدو أنها لا تبقى فحسب، وإنما تستعيد شبابها وما تزال قادرة على اجتذاب 29 خاطبا.



السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.