«الناتو»: سيدة عجوز تستعيد شبابها

أعلام أعضاء حلف الناتو أمام مقره الرئيسي في بروكسل (رويترز)
أعلام أعضاء حلف الناتو أمام مقره الرئيسي في بروكسل (رويترز)
TT

«الناتو»: سيدة عجوز تستعيد شبابها

أعلام أعضاء حلف الناتو أمام مقره الرئيسي في بروكسل (رويترز)
أعلام أعضاء حلف الناتو أمام مقره الرئيسي في بروكسل (رويترز)

«ولى عهده» و«توقف دماغه عن العمل» و«أصبح من دون فائدة»، هكذا وصف الرؤساء الأميركي دونالد ترمب والفرنسي إيمانويل ماكرون والتركي رجب طيب إردوغان منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الأسبوع الماضي، أثناء الاحتفال بالذكرى الـ70 لتأسيس الحلف خلال اجتماع قمة عقد في واتفورد، قرب لندن.ة
وبالنظر إلى هذه التصريحات، توقع بعض المراقبين أن الناتو، الذي يعرف داخل الدوائر السياسية باسم «السيدة العجوز»، سيحال إلى التقاعد قريباً. ومع هذا، تحولت القمة إلى محاولات تودد حماسية بجانب تقديم هدايا سخية إلى «السيدة العجوز»، كان بينها ضخ 150 مليار دولار كتمويلات جديدة في نفقات الدفاع من جانب جميع الدول الـ29 تقريباً.
وكان هناك اتفاق بالإجماع حول ضرورة بذل جهود جديدة من جانب الدول الأعضاء من أجل تخصيص 2 في المائة من إجمالي الناتج الداخلي لها كحد أدنى إلى الدفاع. جدير بالذكر أنه في الوقت الحالي، تلتزم بهذا الهدف ثلاث دول أعضاء فقط: الولايات المتحدة وبريطانيا واليونان.
ورغم شهور من التوقعات فيما يخص تقليص عدد القوات الأميركية في أوروبا، أشارت القمة إلى أن أعداد القوات الأميركية بالقارة العجوز ارتفع بمقدار 14.000 في أكبر زيادة منذ عام 2000. كما كان هناك اتفاق على عقد مشاورات كبرى حول إعادة تعريف أهداف الحلف واستراتيجيته. وربما يتضمن ذلك المشاركة المباشرة في القتال ضد أو على الأقل احتواء «الدول الراعية للإرهاب الدولي»، الأمر الذي أثاره الرئيس إردوغان بحماس. جدير بالذكر أن البند الخامس من معاهدة الحلف تلزم جميع الأعضاء بالعمل المشترك إذا، وعندما، تتعرض دولة عضو لهجوم. وكانت المرة الوحيدة التي جرى خلالها تفعيل هذا البند عندما سقطت الولايات المتحدة ضحية لهجمات 11 سبتمبر التي استهدفت نيويورك وواشنطن، ما دفع جميع الدول الأعضاء للوقوف إلى جانب الولايات المتحدة في العملية التي أنهت حكم «الإمارة الإسلامية» التي أقامها تنظيم «طالبان» في أفغانستان. ومن شأن إلزام التحالف بمحاربة «الجماعات والدول الإرهابية» إعطاء الناتو مهمة جديدة تتجاوز الهدف المحدد له منذ فترة الحرب الباردة والمتعلق بالدفاع عن أوروبا الغربية في مواجهة أي عدوان سوفياتي محتمل.
يصر معظم المؤرخين على أن الناتو نجح في الحفاظ على السلام داخل أوروبا وأسهم في الاندحار الأخير للاتحاد السوفياتي السابق. ومع هذا، ثمة أدلة ظهرت بعد نهاية الحرب الباردة تكشف أنه حتى رغم ما حملوه بداخلهم من أطماع توسعية، فإن السوفيات افتقروا إلى الموارد العسكرية والاقتصادية اللازمة لشن غزو ضد أوروبا.
يذكر أن الاتحاد السوفياتي حول شرق ووسط أوروبا إلى دول تدور في فلكه داخل إطار عمل من الاتفاقات التي جرى التوصل إليها مع الولايات المتحدة وبريطانيا في يالطا وبوتسدام. وفي المناطق التي لم تنطبق عليها هذه الاتفاقات، مثل إيران واليونان، انسحبت القوات السوفياتية دون إجبارها على ذلك من جانب جيش غربي. وداخل أوروبا، لم تحاول موسكو السيطرة مباشرة على دول لم ترد باتفاقي يالطا وبوتسدام حتى عندما كانت تحكم هذه الدول أنظمة شيوعية مثلما كان الحال في رومانيا ويوغوسلافيا.
ولم يضطلع الناتو بأي دور في كثير من الحروب التي شنتها دول أعضاء بمفردها، كان أبرزها الحروب الفرنسية الاستعمارية في الهند الصينية والجزائر، والعمليات البريطانية ضد التمرد في المالايا وعدن والغزو الفرنسي - البريطاني - الإسرائيلي لمصر في حرب السويس. في الواقع، فيما يخص الحرب في الجزائر وعملية السويس، عارضت الولايات المتحدة علانية جميع أعضاء الناتو المشاركين فيها.
على النقيض، نجد أن الولايات المتحدة اضطرت إلى تكوين تحالفات بديلة لخوض حروب في شبه الجزيرة الكورية والهند الصينية، وفي وقت لاحق في غرانادا والكويت والعراق. من جانبهم، خاض البريطانيون حرب جزر فوكلاندز ضد الأرجنتين دون دعم من الناتو. وفي وقت قريب، لعب الناتو دوراً داعماً في البلقان أدى إلى تفكك يوغوسلافيا. ومع هذا، لم يكن بمقدور أحد الحديث عن الوقوف بوجه المعتدي الروسي الذي توصل لاتفاق تعاون مبهم مع التحالف بقيادة الولايات المتحدة وانضم للناتو في بعض العمليات.
أيضاً، غاب الناتو عن حروب الوكالة التي جرت بين اليونان وتركيا، وكلتاهما عضوان في الحلف، حول قبرص عام 1974. خلال العقد الحالي، ظهر خطاب جديد يدور حول «النوايا العدوانية» لروسيا ويرمي في جزء منه لتبرير استمرار الناتو رغم اختفاء الكتلة السوفياتية المكافئة المتمثلة في حلف وارسو. وجرت الإشارة إلى الغزو الروسي لجورجيا وضم أوستيا الجنوبية وشبه جزيرة القرم، ومن بعد ذلك بناء جيب يخضع لسيطرة روسيا في شرق أوكرانيا باعتبارها أسباباً لاستمرار الناتو، بل وازدياده قوة، رغم أن الدفاع عن جورجيا وأوكرانيا لم يكن قط من مهامه. وإذا كان الناتو لم يخض أي حرب وليس بمقدوره خوض حرب أقل من مستوى حرب عالمية ثالثة، فما سبب وجوده ومبرر توفير الموارد المتاحة لديه؟
تتمثل الإجابة في أن الناتو قائم لإقناع المعتدين المحتملين بأنه ليس بمقدورهم أبدا الخروج منتصرين من أي حرب كبرى أمام الحلف، وبالتالي من الأفضل لهم الحفاظ على السلام. وفيما يخص هذه المهمة الكبرى، حقق الناتو نجاحاً باهراً. إلا أن الأمر لا يقتصر على ذلك، وإنما عاون الناتو في إسراع وتيرة عملية التحول إلى الديمقراطية داخل كثير من الدول الأوروبية، وخروج ألمانيا الفيدرالية وإيطاليا من الحكم النازي والفاشي ومعاونة إسبانيا والبرتغال واليونان على التخلص من عقود من الأنظمة الاستبدادية العسكرية، ناهيك من تخلص دول أوروبية من الهيمنة السوفياتية. وأبقت عضوية الناتو المؤسسة العسكرية التركية تحت السيطرة وحالت دون قضاء الجنرالات على آخر جذوة للديمقراطية في هذا البلد. ورغم ذلك، ما من شك في أن التحالف بحاجة لإعادة تعريف. من جانبه، حاول الرئيس جورج دبليو. بوش «فعل شيء» من خلال إقدامه على خطوات ترمي لتوسيع نطاق الحلف عبر ضم أعضاء جدد وأعضاء منتسبين مثل جورجيا وطاجكستان وقريغزستان وأوزبكستان وذلك قرب نهاية فترة رئاسته. في المقابل، فإنه بسبب عدائه الآيديولوجي للحلف، حاول الرئيس باراك أوباما الذي خلف بوش، تقليص نفوذ الحلف عبر خفض الميزانية المخصصة له وتحويل الانتباه إلى ما وصفه باستراتيجية «محور آسيا»
ودفعت سياسات أوباما بعض الدوائر الأوروبية لإطلاق نقاشات حول بناء آلة عسكرية أوروبية مستقلة عن الناتو. وكان أنصار فكر ديغول في فرنسا أكثر المتحمسين لهذا الأمر. جدير بالذكر أنه في ظل قيادة الرئيس شارل ديغول انسحبت فرنسا من الجانب العسكري للناتو وأغلقت قواعد الحلف على الأراضي الفرنسية. واستأنفت فرنسا العضوية الكاملة في الحلف تحت قيادة الرئيس جاك شيراك. ويعتبر اتحاد الدفاع الأوروبي الذي يعتبر في جوهره شراكة فرنسية - ألمانية، الثمرة الأولى لهذه النقاشات. والأهم من ذلك، أطلق الاتحاد الأوروبي مبادرة «أمن أوروبا وهويتها الدفاعية» كإطار عمل لبناء تحالف عسكري كامل من جميع الدول الـ27 الأعضاء (ما عدا بريطانيا).
وربما يسعى الناتو لإعادة تعريف دوره المستقبلي عبر سبل أربع: أولاً: إحياء عقيدة نيكسون، بمعنى تكوين تحالفات إقليمية ملتزمة بحماية النظام العالمي، ربما كوسيلة فاعلة للتعامل مع التهديدات المحلية على أساس جزئي. وتوجد مثل هذه التحالفات في بعض الأماكن، خاصة منطقة الدول الآسيوية المطلة على المحيط الهادي مع أستراليا ونيوزيلندا واليابان وكوريا الجنوبية. وبناء هيكل مشابه بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تعتبر اليوم الجزء الأكثر افتقاراً إلى الاستقرار على مستوى العالم، ربما يشكل تحدياً كبيراً يستحق خوضه.
ثانياً: من المقرر توجيه مزيد من الموارد إلى تطوير قدرات قتالية بالحروب يجري التحكم فيها عن بعد. وفي ظل تقليص أو إغلاق بعض القواعد التقليدية، وأبرزها أنجرليك، يجري اليوم بناء قواعد أخرى أصغر، لكنها أكثر تطوراً وتعقيداً، منها اثنتان في ألبانيا.
ثالثاً: الاستعداد للحروب السيبرانية، بما في ذلك ما يطلق عليها حروب العصابات والتي بدأت تحظى باهتمام أكبر. وبالفعل يجري تشكيل وإدارة وحدات خاصة، أبرزها في ليتوانيا ويجري التخطيط لبناء مزيد من نقاط التنسيق.
رابعاً: بناء وتدريب ونشر وحدات متحركة لمكافحة الإرهاب الدولي ورعاته دون الحاجة للالتزام بقوات نظامية. وبالفعل، تختبر الولايات المتحدة فكرة استبدال بالوحدات القتالية العادية في سوريا أخرى أصغر، لكن أكثر فاعلية ومدربة على مواجهة الإرهاب.
وأخيراً، هناك مثل إنجليزي يقول: السيدة العجوز لا تموت أبداً. إلا أنه في حالة الناتو، يبدو أنها لا تبقى فحسب، وإنما تستعيد شبابها وما تزال قادرة على اجتذاب 29 خاطبا.



الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».