«الناتو»: سيدة عجوز تستعيد شبابها

أعلام أعضاء حلف الناتو أمام مقره الرئيسي في بروكسل (رويترز)
أعلام أعضاء حلف الناتو أمام مقره الرئيسي في بروكسل (رويترز)
TT

«الناتو»: سيدة عجوز تستعيد شبابها

أعلام أعضاء حلف الناتو أمام مقره الرئيسي في بروكسل (رويترز)
أعلام أعضاء حلف الناتو أمام مقره الرئيسي في بروكسل (رويترز)

«ولى عهده» و«توقف دماغه عن العمل» و«أصبح من دون فائدة»، هكذا وصف الرؤساء الأميركي دونالد ترمب والفرنسي إيمانويل ماكرون والتركي رجب طيب إردوغان منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الأسبوع الماضي، أثناء الاحتفال بالذكرى الـ70 لتأسيس الحلف خلال اجتماع قمة عقد في واتفورد، قرب لندن.ة
وبالنظر إلى هذه التصريحات، توقع بعض المراقبين أن الناتو، الذي يعرف داخل الدوائر السياسية باسم «السيدة العجوز»، سيحال إلى التقاعد قريباً. ومع هذا، تحولت القمة إلى محاولات تودد حماسية بجانب تقديم هدايا سخية إلى «السيدة العجوز»، كان بينها ضخ 150 مليار دولار كتمويلات جديدة في نفقات الدفاع من جانب جميع الدول الـ29 تقريباً.
وكان هناك اتفاق بالإجماع حول ضرورة بذل جهود جديدة من جانب الدول الأعضاء من أجل تخصيص 2 في المائة من إجمالي الناتج الداخلي لها كحد أدنى إلى الدفاع. جدير بالذكر أنه في الوقت الحالي، تلتزم بهذا الهدف ثلاث دول أعضاء فقط: الولايات المتحدة وبريطانيا واليونان.
ورغم شهور من التوقعات فيما يخص تقليص عدد القوات الأميركية في أوروبا، أشارت القمة إلى أن أعداد القوات الأميركية بالقارة العجوز ارتفع بمقدار 14.000 في أكبر زيادة منذ عام 2000. كما كان هناك اتفاق على عقد مشاورات كبرى حول إعادة تعريف أهداف الحلف واستراتيجيته. وربما يتضمن ذلك المشاركة المباشرة في القتال ضد أو على الأقل احتواء «الدول الراعية للإرهاب الدولي»، الأمر الذي أثاره الرئيس إردوغان بحماس. جدير بالذكر أن البند الخامس من معاهدة الحلف تلزم جميع الأعضاء بالعمل المشترك إذا، وعندما، تتعرض دولة عضو لهجوم. وكانت المرة الوحيدة التي جرى خلالها تفعيل هذا البند عندما سقطت الولايات المتحدة ضحية لهجمات 11 سبتمبر التي استهدفت نيويورك وواشنطن، ما دفع جميع الدول الأعضاء للوقوف إلى جانب الولايات المتحدة في العملية التي أنهت حكم «الإمارة الإسلامية» التي أقامها تنظيم «طالبان» في أفغانستان. ومن شأن إلزام التحالف بمحاربة «الجماعات والدول الإرهابية» إعطاء الناتو مهمة جديدة تتجاوز الهدف المحدد له منذ فترة الحرب الباردة والمتعلق بالدفاع عن أوروبا الغربية في مواجهة أي عدوان سوفياتي محتمل.
يصر معظم المؤرخين على أن الناتو نجح في الحفاظ على السلام داخل أوروبا وأسهم في الاندحار الأخير للاتحاد السوفياتي السابق. ومع هذا، ثمة أدلة ظهرت بعد نهاية الحرب الباردة تكشف أنه حتى رغم ما حملوه بداخلهم من أطماع توسعية، فإن السوفيات افتقروا إلى الموارد العسكرية والاقتصادية اللازمة لشن غزو ضد أوروبا.
يذكر أن الاتحاد السوفياتي حول شرق ووسط أوروبا إلى دول تدور في فلكه داخل إطار عمل من الاتفاقات التي جرى التوصل إليها مع الولايات المتحدة وبريطانيا في يالطا وبوتسدام. وفي المناطق التي لم تنطبق عليها هذه الاتفاقات، مثل إيران واليونان، انسحبت القوات السوفياتية دون إجبارها على ذلك من جانب جيش غربي. وداخل أوروبا، لم تحاول موسكو السيطرة مباشرة على دول لم ترد باتفاقي يالطا وبوتسدام حتى عندما كانت تحكم هذه الدول أنظمة شيوعية مثلما كان الحال في رومانيا ويوغوسلافيا.
ولم يضطلع الناتو بأي دور في كثير من الحروب التي شنتها دول أعضاء بمفردها، كان أبرزها الحروب الفرنسية الاستعمارية في الهند الصينية والجزائر، والعمليات البريطانية ضد التمرد في المالايا وعدن والغزو الفرنسي - البريطاني - الإسرائيلي لمصر في حرب السويس. في الواقع، فيما يخص الحرب في الجزائر وعملية السويس، عارضت الولايات المتحدة علانية جميع أعضاء الناتو المشاركين فيها.
على النقيض، نجد أن الولايات المتحدة اضطرت إلى تكوين تحالفات بديلة لخوض حروب في شبه الجزيرة الكورية والهند الصينية، وفي وقت لاحق في غرانادا والكويت والعراق. من جانبهم، خاض البريطانيون حرب جزر فوكلاندز ضد الأرجنتين دون دعم من الناتو. وفي وقت قريب، لعب الناتو دوراً داعماً في البلقان أدى إلى تفكك يوغوسلافيا. ومع هذا، لم يكن بمقدور أحد الحديث عن الوقوف بوجه المعتدي الروسي الذي توصل لاتفاق تعاون مبهم مع التحالف بقيادة الولايات المتحدة وانضم للناتو في بعض العمليات.
أيضاً، غاب الناتو عن حروب الوكالة التي جرت بين اليونان وتركيا، وكلتاهما عضوان في الحلف، حول قبرص عام 1974. خلال العقد الحالي، ظهر خطاب جديد يدور حول «النوايا العدوانية» لروسيا ويرمي في جزء منه لتبرير استمرار الناتو رغم اختفاء الكتلة السوفياتية المكافئة المتمثلة في حلف وارسو. وجرت الإشارة إلى الغزو الروسي لجورجيا وضم أوستيا الجنوبية وشبه جزيرة القرم، ومن بعد ذلك بناء جيب يخضع لسيطرة روسيا في شرق أوكرانيا باعتبارها أسباباً لاستمرار الناتو، بل وازدياده قوة، رغم أن الدفاع عن جورجيا وأوكرانيا لم يكن قط من مهامه. وإذا كان الناتو لم يخض أي حرب وليس بمقدوره خوض حرب أقل من مستوى حرب عالمية ثالثة، فما سبب وجوده ومبرر توفير الموارد المتاحة لديه؟
تتمثل الإجابة في أن الناتو قائم لإقناع المعتدين المحتملين بأنه ليس بمقدورهم أبدا الخروج منتصرين من أي حرب كبرى أمام الحلف، وبالتالي من الأفضل لهم الحفاظ على السلام. وفيما يخص هذه المهمة الكبرى، حقق الناتو نجاحاً باهراً. إلا أن الأمر لا يقتصر على ذلك، وإنما عاون الناتو في إسراع وتيرة عملية التحول إلى الديمقراطية داخل كثير من الدول الأوروبية، وخروج ألمانيا الفيدرالية وإيطاليا من الحكم النازي والفاشي ومعاونة إسبانيا والبرتغال واليونان على التخلص من عقود من الأنظمة الاستبدادية العسكرية، ناهيك من تخلص دول أوروبية من الهيمنة السوفياتية. وأبقت عضوية الناتو المؤسسة العسكرية التركية تحت السيطرة وحالت دون قضاء الجنرالات على آخر جذوة للديمقراطية في هذا البلد. ورغم ذلك، ما من شك في أن التحالف بحاجة لإعادة تعريف. من جانبه، حاول الرئيس جورج دبليو. بوش «فعل شيء» من خلال إقدامه على خطوات ترمي لتوسيع نطاق الحلف عبر ضم أعضاء جدد وأعضاء منتسبين مثل جورجيا وطاجكستان وقريغزستان وأوزبكستان وذلك قرب نهاية فترة رئاسته. في المقابل، فإنه بسبب عدائه الآيديولوجي للحلف، حاول الرئيس باراك أوباما الذي خلف بوش، تقليص نفوذ الحلف عبر خفض الميزانية المخصصة له وتحويل الانتباه إلى ما وصفه باستراتيجية «محور آسيا»
ودفعت سياسات أوباما بعض الدوائر الأوروبية لإطلاق نقاشات حول بناء آلة عسكرية أوروبية مستقلة عن الناتو. وكان أنصار فكر ديغول في فرنسا أكثر المتحمسين لهذا الأمر. جدير بالذكر أنه في ظل قيادة الرئيس شارل ديغول انسحبت فرنسا من الجانب العسكري للناتو وأغلقت قواعد الحلف على الأراضي الفرنسية. واستأنفت فرنسا العضوية الكاملة في الحلف تحت قيادة الرئيس جاك شيراك. ويعتبر اتحاد الدفاع الأوروبي الذي يعتبر في جوهره شراكة فرنسية - ألمانية، الثمرة الأولى لهذه النقاشات. والأهم من ذلك، أطلق الاتحاد الأوروبي مبادرة «أمن أوروبا وهويتها الدفاعية» كإطار عمل لبناء تحالف عسكري كامل من جميع الدول الـ27 الأعضاء (ما عدا بريطانيا).
وربما يسعى الناتو لإعادة تعريف دوره المستقبلي عبر سبل أربع: أولاً: إحياء عقيدة نيكسون، بمعنى تكوين تحالفات إقليمية ملتزمة بحماية النظام العالمي، ربما كوسيلة فاعلة للتعامل مع التهديدات المحلية على أساس جزئي. وتوجد مثل هذه التحالفات في بعض الأماكن، خاصة منطقة الدول الآسيوية المطلة على المحيط الهادي مع أستراليا ونيوزيلندا واليابان وكوريا الجنوبية. وبناء هيكل مشابه بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تعتبر اليوم الجزء الأكثر افتقاراً إلى الاستقرار على مستوى العالم، ربما يشكل تحدياً كبيراً يستحق خوضه.
ثانياً: من المقرر توجيه مزيد من الموارد إلى تطوير قدرات قتالية بالحروب يجري التحكم فيها عن بعد. وفي ظل تقليص أو إغلاق بعض القواعد التقليدية، وأبرزها أنجرليك، يجري اليوم بناء قواعد أخرى أصغر، لكنها أكثر تطوراً وتعقيداً، منها اثنتان في ألبانيا.
ثالثاً: الاستعداد للحروب السيبرانية، بما في ذلك ما يطلق عليها حروب العصابات والتي بدأت تحظى باهتمام أكبر. وبالفعل يجري تشكيل وإدارة وحدات خاصة، أبرزها في ليتوانيا ويجري التخطيط لبناء مزيد من نقاط التنسيق.
رابعاً: بناء وتدريب ونشر وحدات متحركة لمكافحة الإرهاب الدولي ورعاته دون الحاجة للالتزام بقوات نظامية. وبالفعل، تختبر الولايات المتحدة فكرة استبدال بالوحدات القتالية العادية في سوريا أخرى أصغر، لكن أكثر فاعلية ومدربة على مواجهة الإرهاب.
وأخيراً، هناك مثل إنجليزي يقول: السيدة العجوز لا تموت أبداً. إلا أنه في حالة الناتو، يبدو أنها لا تبقى فحسب، وإنما تستعيد شبابها وما تزال قادرة على اجتذاب 29 خاطبا.



هل فعلاً أصبحت الجامعات في أميركا «هي العدو»؟

شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)
شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)
TT

هل فعلاً أصبحت الجامعات في أميركا «هي العدو»؟

شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)
شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)

انطلق العام الدراسي الحالي في جامعة نورثويسترن، حيث كنت أدرّس حتى السنة الماضية، بإعلانات من قبل الإدارة عن قوانين وقواعد جامعية جديدة تم وضعها خلال عطلة الصيف، وتهدف إلى منع تكرار الاحتجاجات الطلابية التي حصلت في الربيع الماضي رفضاً للحرب الإسرائيلية على غزة. وجامعة نورثويسترن جامعة خاصة تقع في ولاية إلينوي وهي من الجامعات الأميركية العريقة. وقد افتتح رئيس الجامعة مايكل تشيل العام الدراسي برسالة إلكترونية إلى أعضاء الهيئة التدريسية والطلاب كتب فيها أن حرية التعبير في الجامعات على أهميّتها «لا يمكن استخدامها حجة لتصرّفات تهدّد جوهر مهمة الجامعة وهو التنوير والمعرفة».

وأعلن الرئيس في رسالته عن تدريبات إلزامية لكل الطلاب، وكذلك الأساتذة والإداريين، حول موضوع «معاداة السامية وأشكال أخرى من الكراهية». ثم أرسلت عميدة الجامعة بدورها رسالة تفصّل فيها القواعد الجديدة، ومنها منع المظاهرات في أوقات انعقاد الصفوف والحلقات الدراسية الليلية، ومنع استعمال مكبّرات الصوت قبل الساعة الخامسة مساء، ومنع الخيم وحصر الملصقات بأماكن معيّنة من حرم الجامعة. وتم توسيع القوانين المتعلّقة بالملكية لتشمل أي مس بأملاك الجامعة. كذلك أدخلت الإدارة تعديلات على ما يعدُّ «تخويفاً أو ترهيباً» ليشمل أي تصرّفات «تؤثر بصورة كبيرة على قدرة أشخاص أو مجموعات على التعلّم، والعمل، أو العيش في بيئة الجامعة».

«كيف نحمي الطلاب من التشدّد في القوانين الجديدة التي تبنّتها جامعات أميركية مختلفة» كان موضع نقاش بين الأساتذة خلال المؤتمر السنوي للجمعية الأميركية للعلوم السياسية في سبتمبر (أيلول) الماضي في فيلادلفيا. واقترح زملاء في جامعة بارنارد في نيويورك مقاطعة تصحيح الامتحانات كنوع من المعارضة ضد التضييق على حرية الطلاب في التعبير.

ضباط شرطة نيويورك عند الأسوار خارج جامعة كولومبيا، السبت 27 أبريل 2024، في نيويورك. بينما يستمر الطلاب المحتجون على الحرب بين إسرائيل وحماس في مواصلة مظاهراتهم في حرم الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة ( ا.ب)

استجواب في الكونغرس

رئيس جامعة نورثويسترن هو واحد من ثلاثة رؤساء جامعات مثلوا في جلسة للكونغرس الأميركي دعتهم إليها لجنة التربية والقوى العاملة برئاسة فيرجينيا فوكس من الحزب الجمهوري عن ولاية كارولاينا الشمالية أواخر شهر مايو (أيار) الماضي. وتلك هي الجلسة الثالثة التي تعقدها اللجنة لاستجواب رؤساء جامعات أميركية حول ما عدته ارتفاعاً في موجة معاداة السامية في حرم الجامعات الأميركية وسوء تعامل هؤلاء الرؤساء معها.

«حصلتِ على علامة F» (أي راسب)، قالت عضوة الكونغرس الجمهورية إليز ستيفانيك التي تمثل ولاية نيويورك، لرئيس جامعة نورثويسترن وقتها. وسبق لرابطة مكافحة التشهير (Anti-Defamation League)، وهي منظمة غير حكومية، مركزها نيويورك، تعنى بمحاربة المعاداة للسامية وتدعم إسرائيل أن منح علامة الرسوب لجامعة نورثويسترن في أبريل (نيسان) الماضي بسبب الاحتجاجات التي شهدتها الجامعة ضد الحرب على غزة، والتي عدتها المنظمة معادية للسامية لما فيها من شعارات تدعم الانتفاضة وتنتقد الصهيونية، وانتهت باتفاق بين إدارة الجامعة والطلاب، وهو ما عدته الرابطة بمثابة «مكافأة» للمحتجين.

ودعت اللجنة كذلك إلى إزالة الرئيس من منصبه. وقالت فوكس في جلسة الاستماع: «وردتنا تقارير عن أعمال عنف مروعة ومضايقات للطلاب اليهود في حرم جامعتكم». وكانت اللجنة بعثت برسالة إلى رئيس الجامعة ورئيس مجلس أمنائها تفصّل فيها الأحداث التي دفعتها إلى إرسال الدعوة للمثول أمامها، وعلى رأسها قبول إدارة الجامعة بتنازلات لإنهاء الاحتجاج بدلاً من استخدام القوة لنزع الخيم التي نصبها الطّلاب المعارضون. وحسب الاتهامات كان موقع الخيم، المعروف بـ«المنطقة المحرّرة»، مسرحاً لجرائم وأحداث معادية للسامية. وارتكزت الأدلّة في الرسالة على تقارير طلاب يهود أفراد عن مواقف عدوها معادية لهم كيهود. فضمن اللائحة مثلاً أن طالباً يهودياً تعرّض لمضايقات عند وقوفه أمام الخيم شارحاً لعميد الطلاب مخاوفه من الاحتجاج. فوقف طالب كان جالساً إلى جانبه وصار يقول له، حسب الرسالة نفسها: «أنت تقرفني. هل تظن أن انزعاجك الصغير من المظاهرة يهمّني؟ هذا هو هدف الاحتجاج، الهدف هو أن تنزعج قليلاً. ثمة آلاف من الناس يموتون في غزة وكل ما يهمك هو بعض من الأبواق في الصباح؟».

الرئيس السابق دونالد ترمب يتحدث عن احتجاجات الطلاب في الجامعات الأميركية قبيل دخوله إلى قاعة محكمة مانهاتن الاثنين (رويترز)

وتتضمّن لائحة هذه الجرائم التي أوردتها الرسالة الرسمية أن امرأةً ذات شعر أبيض غير تابعة للجامعة حملت يافطة كتب عليها «المقاومة مسموحة حيث يكون احتلال»، مع هاشتاغ «فيضان الأقصى»، وأن أحد المتظاهرين سرق علماً إسرائيلياً وعلماً أميركياً، وأن رئيس الشرطة التابعة للجامعة رفض الدخول إلى الخيم لاستردادهما، إضافة إلى أن تعليمات أرسلت لمهندسي الجامعة بإطفاء نظام الري الآلي للمساحة الخضراء حيث نصبت الخيم، «في ما يبدو أنه حرص على عدم إزعاج المحتجين».

خيمة رمزية... ومساءلة للاستثمارات

وفي 19 أبريل (نيسان)، وبعد 5 أيام من الاحتجاج، أُبرم اتفاق بين الطلاب والإدارة في نورثويسترن ينص على أن الجامعة ستسمح بالاحتجاجات السلمية شرط أن تبقى خيمة واحدة لا غير. وينص الاتفاق أيضاً على إعادة تشكيل اللجنة الاستشارية حول المسؤولية في الاستثمارات لتجيب عن أسئلة حول استثماراتها الحالية، وعلى استضافة أستاذين فلسطينيين لمدّة سنتين من خلال برنامج استضافة أكاديميين من بلدان النزاع استضاف أساتذة من أوكرانيا في السنتين الماضيتين. وأخيراً ينص الاتفاق على تأسيس بيت للطلاب المسلمين والشرق أوسطيين على غرار البيوت المخصصة لليهود والكاثوليك وغيرهم من الطلاب يستخدمونها في الصلاة ولمناسبات ثقافية واجتماعية.

نشطاء وطلاب يحتجون بالقرب من معسكر في ساحة الجامعة بجامعة جورج واشنطن، حيث انضم الناشطون الطلابيون إلى الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة التي بدأت معسكرات لدعوة جامعاتهم إلى سحب العلاقات المالية من إسرائيل( رويترز)

واتّهم الجمهوريون من أعضاء لجنة الكونغرس، رئيس جامعة نورثويسترن، بأنه استسلم للمتظاهرين وكافأهم بدعوته أساتذة فلسطينيين، وسألته ستيفانيك: «ماذا عن الأساتذة الإسرائيليين، هل ستدعوهم أيضاً؟». ووصفت رئيسة اللجنة فيرجينيا فوكس الاتفاق بـ«الجبان» لأنه رضخ لمطالب المحتجين، وطلبت من رئيس الجامعة التعهد بألا تقاطع الجامعة، إسرائيل، ولا تسحب استثماراتها منها، لأن هذا يعدُّ تسييساً لمسائل ماليّة وتقويضاً لسلطة إدارة الجامعة.

الأساتذة «الليبراليون» متهمون من الطرفين!

من جهة أخرى، رفض عدد من الطلّاب المتظاهرين بدورهم الاتفاق معتبرين أن الإدارة لم تتنازل قط فيما يخص الأمور الأساسية، أي المقاطعة وسحب الاستثمارات. فهي قبلت فقط أن تنشر معلومات حول استثماراتها، وبأن تكون أكثر شفافيةً ولكنها لم تتعهد بسحب أي استثمارات محددة. ورأوا في تأسيس بيت للمسلمين جائزة ترضية لا تستجيب للمطالب السياسية للاحتجاجات. ووصفت إحدى طالباتي، وهي من الهند، وكانت تقود الاحتجاجات، الانقسام بين طلاب حول هذه المسائل، وشرحت أن من صوّتوا لقبول الاتفاق، اعتبروا أنه يجنبهم تدخل قوى الأمن والملاحقة القانونية، كما حصل في جامعات أخرى، ومن رفضوه لم يكونوا من الطلاب الفلسطينيين أو العرب بل من الطلاب الأميركيين.

علم فلسطيني معلق على خيمة في مخيم الاحتجاج في جامعة تافتس بميدفورد بولاية ماساتشوستس... وتعد المظاهرات هي الأكثر شمولاً والأطول أمداً التي تهز حرم الجامعات الأميركية منذ احتجاجات حرب فيتنام في الستينات من القرن الماضي (أ.ف.ب)

ووصف هؤلاء الطلاب الأساتذة المكلّفين التواصل بينهم وبين الإدارة بـ«الليبراليين»، وهي كلمة أصبحت ذات دلالة سلبية لدى «الجيل z»، وعدّوهم «عملاء لإدارة الجامعة». وللعلم، فقد أمضى هؤلاء الأساتذة المدافعون عن حق الطلاب في التظاهر، ليلة طويلة في 19 أبريل الماضي محاولين إقناع طلابهم بقبول الاتفاق تجنباً لاستخدام القوة والعنف ضدهم ولإزالة الخيم في اليوم التالي، كما هددت إدارة الجامعة. وتقول أستاذة زميلة: «اعتبرنا الاتفاق أرضية للانطلاق منها وليس سقفاً نهائياً لعملنا».

والسؤال الأكثر تردداً خلال جلسة الاستماع في الكونغرس هو لماذا لم تطرد الجامعات الثلاث طلاباً أكثر وأساتذة أكثر. وكان هو السؤال الذي افتتحت به فوكس الجلسة. وأكّد الرؤساء أنّ عدداً من الطلّاب هم قيد التحقيق، وأنّ أشكال العقاب متنوّعة.

ووصف نائب جمهوري، أحد الأساتذة المدافعين عن المنطقة المحررة في جامعة نورثويسترن، دالاً عليه في صورة للمشهد عرضت خلال الجلسة، بأنّه «بلطجي». والأستاذ، هو ستيفن ثراشر، أستاذ الإعلام، ولم يعد إلى التعليم هذا الفصل، لأن الجامعة علّقت عمله إلى أن ينتهي التحقيق معه. وفي مقابلة له الشهر الماضي مع برنامج «Demcoracy Now» اليساري، قال ثراشر إنّ مبادئ العدالة الاجتماعية نفسها التي كان يطبّقها في ما يتعلّق بقضايا كالعنصرية والكوفيد والمثليين والإيدز، وكانت مصدر إشادة له، ممنوع عليه تطبيقها في ما يتعلّق بفلسطين.

وكذلك افتتحت جامعة كورنيل في نيويورك العام الدراسي بتعليق طالب دكتوراه من بريطانيا، وهو مسلم وأصله من غامبيا. أما جامعة موهلنبرغ في بنسلفانيا فأقالت أستاذة أنثروبولوجيا في شهر مايو (أيار) في أول إقالة لأستاذ من ملاك التعليم الجامعي بسبب دعم فلسطين.

مقاربة مارتن لوثر

في وقت اختتمت فوكس جلسة الكونغرس قائلة لرؤساء الجامعات إنها «متفاجئة بدرجة الازدراء التي عبّرتم عنها حيال اللجنة والطلاب اليهود»، ذكّر النائب الديمقراطي عن ولاية فرجينيا بوبي سكوت بمقاربة مارتن لوثر كينغ للنشاط السياسي، وهي مقاربة استوحاها كينغ من المهاتما غاندي وتقوم على ارتكاب مخالفات للقانون، ومن ثمّ القبول بعواقب ذلك، وهي بذلك تعدُّ مقاربة سلميّة. وأوضح سكوت أنها المقاربة نفسها التي تبنّاها الطلّاب في الجامعات. وقد وصفت طالبتي كيف أن المحتجين في نورثويسترن وزّعوا أنفسهم طوعاً إلى مجموعات مستعدة للتعرض للاعتقال ومجموعات أخرى من طلاب لا يسعون للمواجهة، واتفقوا على لون يرمز لكل مجموعة، وعلى لقب لكم منهم. وكانوا قد استوحوا هذا النوع من التنظيم من الطلاب في جامعة كولومبيا الذين شاركوا زملاءهم في كافة الجامعات الأميركية ملفات تفسّر طرق العمل التنظيمي.

جانب من الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأميركية (أ.ب)

وكان ترمب وصف حملة شرطة نيويورك على طلاب جامعة كولومبيا بأنّها «مشهد جميل»، وتعهّد بترحيل الطلاب الأجانب عند انتخابه. أمّا جيه دي فانس، الذي اختاره ترمب نائباً له في حملة ترشيحه للرئاسة، فكان قال خلال خطابه أمام مؤتمر الجمهوريين في يوليو (تمّوز) الماضي، «أنّ الأساتذة هم العدو»، وذلك نقلاً عن الرئيس الجمهوري الأسبق ريشارد نيكسون.

وكانت مجموعات طلّابيّة ومتموّلون ومراكز دراسات ومثقفون محافظون بدأوا بالتحرك رداً على تناقص قوّتهم بعد الحركات الاحتجاجية اليسارية المدافعة عن حقوق السود أواخر الستّينات. وتعاظم شأن هذا التيار مع وصول ترمب للسلطة رداً أيضاً على حركة «حياة السود مهمة» التي بدأت سنة 2020. وهذه المجموعات تتهم الجامعات، هي أيضاً، بـ«الليبرالية» وتعدُّ أنها تفتقر إلى تمثيل كافٍ من الأساتذة اليمينيين وأصحاب الأفكار المحافظة. وبدأت بالفعل بتمويل كليات مهنية كالطب والحقوق وإدارة الأعمال وأصبحت ترسخ نفوذها في الجامعات.

استثمارات الجامعات تصب في الأسلحة

أما استثمارات الجامعات فهي تصب، كاستثمارات منظمات عديدة أخرى في الولايات المتحدة، في شركات كـ«بوينغ» و«بلاكستون» و«جينيرال ديناميكس»، وهي شركات تمد إسرائيل بالأسلحة وبأشكال أخرى من الدعم. وتدار هذه الاستثمارات من خلال مكتب مخصص لها ومن خلال مجلس الأمناء ومجلس الأمناء هو الذي يعيّن رئيس الجامعة. فيصير رئيس الجامعة بذلك محكوماً باعتبارات مالية فيما هو أيضاً يدير الأهداف التعليمية للجامعة.

وقالت النائبة الديمقراطية عن ولاية ميشيغان، هايلي ستيفنز، خلال مداخلتها في جلسة الكونغرس: «إننا نعرف تكلفة الدخول إلى جامعاتكم، هي تكلفة لا تصدق. هذا ما علينا التركيز عليه، وليس هذا الجدل المصطنع عن العدالة بينما أنتم فعلياً تدّعونها فقط»، مشيرةً إلى موقف الجمهوريين في لجنة التربية العام الماضي حيال الموارد المخصصة لقضايا الصحة النفسية، وكيف صّوتوا جميعهم على حرمان الطلاب المثليين منها.

وفيما تستفيد الجامعات الحكومية في الولايات المتحدة من التمويل من الحكومة الفيدرالية، ومن الولاية نفسها، تستفيد الجامعات الخاصة كنورثويسترن، مثلها مثل الجامعات الحكومية، من تمويل تحت برنامج «Title VI»، وهو برنامج نشأ كجزء من قانون الحقوق المدنية سنة 1964، ويمنع التمييز في التعليم ويمنح دعماً لبرامج دراسة اللغات ولأقسام في علوم الإنسانيات تعنى بدراسة المناطق والثقافات حول العالم. وهذا البرنامج هو ما ذكره أعضاء الكونغرس كأساس لمحاسبتهم رؤساء الجامعات حول استخدامهم الأموال المحصلة من الضرائب التي يدفعها المواطنون الأميركيون وحول امتثالهم لقوانين منع التمييز على أساس الديانة.

الأساتذة يرفضون قمع الحريات

وجه فرع نورثويسترن للجمعية الأميركية للأساتذة الجامعيين رسالة للإدارة رفضاً للتغيير الذي أدخله رئيسها على قواعد سلوك الطلاب عقب بدء الحركة الاحتجاجية، عاداً في ذلك «تصعيداً دراماتيكياً في قمع حرية التعبير والبيئة الأكاديمية»، فيما دافع رئيس الجامعة تشيل عن سياسته ووصفها بـ«الحيادية». وحسب الأساتذة الموقعين على الرسالة لم يستشر الرئيس ممثلي الأساتذة واللجنة الاستشارية حول حرية التعبير والخطاب المؤسسي، والذي كان الرئيس نفسه شكّلها في شهر فبراير (شباط). وأتى تشكيل هذه اللجنة على أثر بدء تحقيق لجنة الكونغرس الأميركي في أحداث معاداة السامية. واعترض حوالي مائتي أستاذ على تركيزه على معاداة السامية دون ذكر ما يتعرض له الطلاب المسلمون والفلسطينيون والعرب من تنكيل أو ذكر العنف التي ترتكبه إسرائيل في غزة، وكانوا قد وجهوا رسالة إليه بهذا الصدد في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي.

وإثر دعوة رابطة مكافحة التشهير إلى إزاحة رئيس الجامعة من منصبه، وقّع الأساتذة في أوّل شهر مايو (أيار) رسالة أخرى رفعوها إلى أمناء الجامعة يعبرون فيها عن رفضهم تعيين رئيس جديد قد يتعامل مع الطلاب بعنف أكبر. وعدّت الجمعية الأميركية للأساتذة الجامعيين أنه يجب عدم إقالة أي رئيس جامعة من دون تصويت ممثلي الأساتذة.

وأصدر رئيس الجمعية بياناً في شهر أغسطس (آب) أدان فيه مشروع ترمب وفانس الذي يقضي بالتضييق على حرية التعبير في الجامعات وتقويض استقلاليتها، عاداً أنّ اللحظة الحالية حاسمة في ما يتعلّق بمستقبل التعليم العالي الذي يشكل أساس الديمقراطية الأميركية. الجامعات ليست العدو، العدو هم الفاشيون، يقول البيان ويضيف، حان وقت النضال.