الأرض بطلة رواية جديدة لليانة بدر

الأرض بطلة رواية جديدة لليانة بدر
TT

الأرض بطلة رواية جديدة لليانة بدر

الأرض بطلة رواية جديدة لليانة بدر

حملت الرواية الأخيرة للكاتبة الفلسطينية ليانة بدر اسم «أرض السلحفاة»، وتجري غالبية أحداثها في الأراضي الفلسطينية المستعادة من الاحتلال الإسرائيلي بعد اتفاقية أوسلو، حيث تعود الشخصية الراوية إلى الوطن عبر جسر حدودي محملة بستة وثلاثين صندوقاً، ومخزون من الذكريات عن الأرض التي غادرتها في 1967 في زيارة لعائلة صديقة في عمّان مع عائلتها، ومنعتها الحرب في صيف ذلك العام من العودة.
يتداخل صوت الشخصية الراوية مع صوت الكاتبة وهو يكتشف الأرض الجديدة، ببعدها الزمني الجديد، فيجوس بين الماضي والحاضر، حيث تفاصيل بقيت على حالها، مثل أحياء القدس القديمة مقابل تفاصيل بقيت في الذاكرة فقط وشوشت عليها متغيرات في أرواح الفلسطينيين وفيما أحدثه «العدو» من تغيير على الأرض خلال ربع قرن من الاحتلال. وهو مضمون يبرر تقنية الرواية الموزعة على مقاطع بين شخصيات وأحداث وتراوح في الزمن بين الماضي والحاضر وأحياناً المستقبل. وبذلك، فإن بطل النص هو الأرض نفسها، الأرض التي مر فوقها ملايين البشر بأحصنتهم وعرباتهم العسكرية وأقدامهم، على مر العصور، فبقوا فيها أو رحلوا عنها ولم يتغير اسم فلسطين، إلا حينما جاء الأغراب (يهود العالم) من البعيد ليدّعوا أحقيتهم، فسرقت الأرض التي قامت عليها دولة - ومع السنوات توسعت إسرائيل ودخلت أجيال جديدة وصف بعضها بـ«المستوطنون» يزاحمون السكان الأصليين على فضاءاتهم، الطرق العامة، المكان من المدن التي التهمت بعضاً من أحيائها والقرى التي سويت بالأرض وأعيد بناؤها لصالح المستوطنين.
غير أن الراوية العائدة إلى الوطن من المنافي لا تسمي من الأسماء إلا ما حفظته قبل خروجها، مدن وبلدات مثل رام الله، القدس، الخليل، بيت جالا، أسماء الأسواق والحارات والأبواب التي تحيط بالمدن. يغيب عن النص تقريباً إلا فيما ندر، اسم الشعب الآخر الذي احتل الأرض، فهو «العدو» فقط، وتغيب صفات «الصهيونية أو اليهودية أو الإسرائيلية»، عن مفردات وردت في سياق النص، مثل الجسر الخشبي (الحدودي) المجندة، الجيش، المستوطنة، ويرد اسم الدبابة ميركافا، وتكتفي الراوية بذاكرة المتلقي لاستعادة مرجعية السرد. هل هو عدم اعتراف بشرعية المحتل أن تم إغفال الاسم؟ هل هو تكريس للأسماء الفلسطينية مقابل تغيّب أسماء منحها المحتل للمكان؟
«أرض السلحفاة» بعكس ما يوحي عنوانها للوهلة الأولى، ليست رمزاً للبطء والبلادة، بل هي - بحسب الكاتبة ليانة بدر في مداخلة لها برام الله عند توقيع الكتاب - رمز لحيوان أرضي لا يكف عن المثابرة للوصول إلى هدفه، وهذا ما يجمعها مع الشعب الفلسطيني. عنوان يذكّر برواية قصيرة صدرت قبل سنوات قليلة للكاتب محمود الريماوي، «من يؤنس السيدة»، تقوم العلاقة فيها بين أرملة وحيدة وسلحفاة تلتقطها من الطريق، مع فارق أن رواية الريماوي تروي مسار شخصية في بلد النزوح، بينما تنشغل رواية بدر بثيمة العودة والنبش في تراث الشعب الفلسطيني، من تطريز أثواب نسائه، إلى تفاصيل أعراسه، حلقات الرقص والأغاني، الأطعمة من أطباق وخضراوات وفواكه، بل حتى إلى تخاريفه. وتجمع بين الروايتين، فلسطين، تحضر في الأولى من خلال لاجئة فلسطينية تعيش في حي بمدينة أردنية، وتحضر في الأخرى شخصية رئيسية، بكامل أرضها وشخوصها وزمنها. السلحفاة في العملين رمزان مختلفان، وظفه كل كاتب بطريقته.
ينهي القارئ رواية «أرض السلحفاة» محملاً بشخصيات وأماكن وأحداث جرت في فلسطين أو أثناء الاستعداد للعودة إليها. تبدأها بالشاعرة التي كتبت عن الحب من دون أن تعيش قصة حب في الواقع وتنهيها بهذه الشخصية وبحلم إنجاز فيلم عن رسائل تصل في زجاجات عبر البحر لتحكي قصصاً من حياة الناس الذين عاشوا على هذه الأرض.



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.