الشعر... عملة الشعراء النادرة

دوافع الكتابة وأسباب موت النص وخلوده

الشعر... عملة الشعراء النادرة
TT

الشعر... عملة الشعراء النادرة

الشعر... عملة الشعراء النادرة

أتذكر كيف كان الشاعر والناقد الدكتور خالد علي مصطفى يصدمنا دائماً بآرائه المشاكسة، فمثلاً كان يقول إن الرصافي سيبقى من شعره جميعاً نصف بيت فقط، وما تبقى من شعره ليس شعراً. ويقول أيضاً إنّ ما يتبقى من الجواهري قصيدة واحدة، أو نصف قصيدة، أما الزهاوي فلا يبقى منه شيء على الإطلاق، بينما يأخذ السياب حصة أكبر في البقاء والخلود الشعري لدى خالد علي مصطفى، ذلك أنه كان يؤمن بخلود ما يقارب العشر قصائد، مثل: (مدينة بلا مطر، وغريب على الخليج، والموت والنهر، وأنشودة المطر، وأغنية في شهر آب، وقصائد أخرى).
وفي الواقع، كانت هذه الآراء صادمة ومستفزة، فبمجرد أن نسمع أن الشاعر الفلاني الذي ملأ الدنيا صخباً وحضوراً وإعلاماً سيبقى من شعره بيت أو نصف بيت، أو نصف قصيدة، سنُصاب بالجنون، نحن الشعراء الذين كنا في بداية حياتنا الشعرية، ومثل هذه الآراء تشكل خيبة كبيرة، وتحدياً في الوقت نفسه. فعلى الرغم من عدم إعطاء مبررات علمية واضحة لآراء خالد علي مصطفى، فإنه كان مقنعاً في بعض آرائه، ذلك أنَّه يبحث عن الشعر الخالص، الذي لم نكن نفهمه بالطريقة التي كان يبحث عنها وينشدها، ولكنَّها فكرة بقيت تراوده، حتى أني سألته في إحدى المرات حول هذه التقييمات الانطباعية التي كان يصدرها بوجه شعراء معروفين، فقلتُ له ضمن هذا السياق والتقييم: ما الذي سيتبقى من شعرك دكتور خالد؟ فلم يستطع الإجابة، وحوَّل التقييم إلى الجمهور، وكان ذلك ضمن برنامج «سيرة مبدع»، وقد بُثَّت الحلقة من على شاشة قناة «الحرة عراق». ورغم عدم قناعتي بإجابته في وقتها فإنني الآن أتفهم آراء الدكتور خالد الانفعالية التي تصدر نتيجة تراكمات معرفية واطلاع واسعٍ على حركة الشعر العربي والغربي، وبقاء النفس لاهثة وجائعة لكسرة الشعر التي تنقرض شيئاً فشيئاً، لذلك أجد الآن أن الشعر هو العملة الأكثر ندرة ما بين النصوص والقصائد، وأن كثيراً من الشعراء بلا شعر، وأن آلاف القصائد بحاجة إلى شعر، فضمن هذا المفهوم أمنح الآن بعض الحق للدكتور خالد علي مصطفى، لتقييماته السريعة والانطباعية والصادمة.
ويبدو أن حركة الشعر ضمن إطارها الزمني تخضع لمثل هذه التقييمات، فبمرور الزمن تتغير المفاهيم، وتختلف الرؤى، فما هو صالح في زمن من الأزمان، ربما يكون نشازاً في زمنٍ آخر، وحتى الصالح في الشعر، هو في حقيقته لم يكن جوهراً لروح الشعر؛ لأن الصالح خاضع لعدة مستويات، وأنماط، منها الآيديولوجي، والديني، والاجتماعي، والشكلي أو الفني، فكل هذه الأنماط ربما تستقبل نوعاً من الشعر، في مرحلة من المراحل، ولكنها تنفيه في مراحل أخرى. فعلى سبيل المثال كنا نستقبل شعر مظفر النواب، وشعر أحمد مطر، وعلى وجه التحديد الهجاء السياسي، أيام التسعينات استقبالاً رهيباً، وكنا نبحث عن أشرطة تسجيل بصوت مظفر النواب، وكأنها عبارة عن لقية عظيمة، ونهرِّب «الكاسيت» كأننا نهرب مخدرات أو آثاراً، وكذلك أشعار أحمد مطر؛ حيث كنا نكتبها كتابة يد؛ لأننا نخشى من بعض مكاتب الاستنساخ، أو أننا لا نملك ثمن الاستنساخ، ونبحث عن أشعارهما كمن يبحث عن دواء بعد مرض طويل، وكنت حين أسمع مظفر النواب في أشعاره السياسية الهجائية، كانت مشاعري تتناوب عليها حالات البكاء والهستيريا، وحيداً وصامتاً وخائفاً وفرحاً ومقبلاً على الحياة في كل شيء، ولكنني الآن حين أسمع تلك الهجائيات أشعر ببلادة الوعي الشعري الذي يستقبل تلك النصوص، ذلك أنَّي فهمت - فيما بعد - أنَّ الذي يتلقى تلك النصوص لم يكن الوعي الشعري، إنما «المزاج السياسي» الذي كان سائداً هو الذي يسمح لمثل هذه النصوص أن تتسلل لأسماعنا، وأن تسيطر على ذاكرتنا، فبدلاً من أن نحفظ عيون الشعر العربي رحنا نحفظ: «زار الرئيس المؤتمن - بعض ولايات الوطن - وحين زار حيَّنا قال لنا - هاتوا شكاواكم بصدق في العلن - ولا تخافوا أحداً فقد مضى ذاك الزمن - فقال صاحبي حسن...»، ومن هذا النوع من الشعر الكثير الذي يشابهه، ولكنه لا يمثل الشعر قدر ما يمثل الموقف، وأظن لو بقيت الديكتاتوريات العربية إلى هذه اللحظة لربما بقي مثل هذا النوع من الشعر حاضراً في الوجدان العربي، ولكن النظم البرلمانية الحقيقية، والنظم الديمقراطية الصادقة، ستضحك علينا حين نكتب شعراً بهذه الطريقة عن الحكم الأوحد والقائد الأوحد.
إن بزوال النظم الديكتاتورية أصبح لا معنى لتلك النصوص، التي ارتبط وجودها بوجود الجلادين. وهذا يذكرني بحادثة أيضاً، فبعد أشهر من الاحتلال الأميركي لبغداد، كنا، أنا والشاعر الشعبي الراحل رحيم المالكي، والشاعر الشعبي سمير صبيح، وبعض الأصدقاء، نتداول موضوعاً يدور حول قصيدة اشتهرت لرحيم المالكي كتبها عن الإمام الحسين أيام نظام صدام: «شلون تجري ومايك أزرك (أزرق) يا فرات»، ودار حديث طويل حول الكتابات الدينية في زمن ما بعد 2003، وكانت مداخلة رحيم المالكي أنه في هذا الزمن، زمن ما بعد الديكتاتورية، لا معنى لكتابة نص ديني، أو ما شابه ذلك، ذلك لأنه كان يعد الكتابة جزءاً من المواجهة للنظام، أما الآن فلا معنى لها، وبهذا تتضح المحفزات الكتابية بجلاء تام، وتظهر الدوافع التي تدفع الشعراء للكتابة، وقديماً شاعت لدى الشعراء القدامى أسباب ودوافع الكتابة الشعرية، فمثلاً: «امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا شرب». وهذه الدوافع ربما لم تكن شعرية بمجملها، إنما دوافع مساعدة لكتابة الشعر، ومن الممكن أن تكون دوافع معاصرة جديدة لكتابة الشعر دوافع غير شعرية أيضاً، مرتبطة بالمضمون أكثر من ارتباطها بالمستوى الفني، وبهذا المنطق نستطيع أن نقول إن كثيراً من الشعر الذي ينتج بدوافع غير شعرية، سياسية أو دينية أو اجتماعية، هو شعر مرتبط بمرحلة معينة، وشعريته مسورة بالمدة المحددة التي أنتجته، سنة أو سنتين أو عشر سنوات، ولكن بغياب هذه الأسباب سيغيب معها الشعر الذي كتب بإشارة منها، ويبقى فقط الشعر الذي كُتب لجوهر الشعر، ويا لها من معادلة صعبة أنْ تكتب الشعر للشعر.



موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».