الحبيب الجملي رئيس الحكومة المكلف في تونس... تكنوقراطي أولويته الأمن الغذائي ومكافحة الفقر

جدل حول علاقته بـ«النهضة» ومشروعه عن «الاقتصاد التضامني الاجتماعي»

الحبيب الجملي رئيس الحكومة المكلف في تونس... تكنوقراطي أولويته الأمن الغذائي ومكافحة الفقر
TT

الحبيب الجملي رئيس الحكومة المكلف في تونس... تكنوقراطي أولويته الأمن الغذائي ومكافحة الفقر

الحبيب الجملي رئيس الحكومة المكلف في تونس... تكنوقراطي أولويته الأمن الغذائي ومكافحة الفقر

أثار تكليف الحبيب الجملي... التكنوقراطي المختص في الزراعة والاقتصاد «الاجتماعي التضامني»، بتشكيل الحكومة الجديدة، جدلاً كبيراً في تونس بين المناصرين للقرار والمعارضين له. وتباينت التقديرات لاستقلاليته عن حزب «حركة النهضة» وعن التيار الإسلامي عموماً.
وأخذ الجدل أبعاداً جديدة عندما أعلن الأمين العام لـ«النهضة» وممثلها الأبرز في الحكومة منذ 5 سنوات الوزير زياد العذاري، استقالته من كل مسؤولياته الحزبية، احتجاجاً على اختيار الجملي. ووصف العذاري الاختيار بـ«أنه قرار غير صائب»، وقال عن الجملي إنه «قريب من الإسلاميين»، و«ليس في مستوى التحديات الاقتصادية والسياسية العالمية التي تواجه تونس حالياً».
فمن هو الحبيب الجملي الإنسان والسياسي؟ وهل سينجح في تشكيل حكومة ائتلافية متناسقة مع الرئيس قيس سعيّد ومستشاريه ومع الفسيفساء السياسية والحزبية التي أفرزتها الانتخابات البرلمانية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي؟ وهل سيلقى دعماً من النقابات والمعارضة اليسارية والقومية التي ضغطت على قيادة «النهضة» لمنعها من ترشيح شخصية سياسية حزبية معروفة من داخلها، أم يحصل العكس؟

تسبب تكليف المهندس الحبيب الجملي، منتصف الشهر الماضي، بتشكيل الحكومة التونسية من قبل الرئيس قيس سعيّد في حيرة غالبية السياسيين والصحافيين والنقابيين، الذين أجمعوا أنهم ما كانوا يعرفونه، بما في ذلك غالبية القيادات الوسطى لحزب «حركة النهضة» التي رشحته. ولم تساعد البرقية الموجزة، التي نشرت بمناسبة تعيينه، في التعريف بتجاربه السياسية والاقتصادية ومشواره العلمي والمسؤوليات التي سبق أن تحملها في الدولة وفي مؤسسات الدراسات والاستشارات والاستثمار في القطاع الخاص.
بل لقد أدت إلى تعميق أزمة ثقة كثير من الزعماء السياسيين والنقابيين فيه، خصوصاً أنه عين في «آخر لحظة» عوضاً عن المنجي مرزوق، الخبير الدولي في اقتصاد المعرفة وتكنولوجيا الاتصالات الوزير السابق للصناعة والطاقة.

- ابن الجهات المهمشة
لكن لقاءات التشاور المكثفة التي عقدها الجملي مع قيادات نحو 50 حزباً ونقابة، ومع مثقفين مستقلين، ساهمت في الكشف عن جانب من الغموض الذي يحف بسيرته الذاتية المهنية والشخصية والمهنية والسياسية.
الحبيب الجملي من مواليد قرية صغيرة في محافظة ولاية القيروان، اسمها الكبارة، تبعد عن العاصمة تونس نحو 250 كلم ونحو مائة كلم عن المدن السياحية الساحلية التي ولد فيها غالبية كبار السياسيين طوال السنوات الـ65 الماضية، بينهم الرئيسان الحبيب بورقيبة (1955 - 1987) وزين العابدين بن علي (1987 - 2011) وغالبية رؤساء الحكومات السابقين. وحقاً، لم يسبق تعيين أي مسؤول كبير في الدولة من أبناء هذه الجهة الداخلية الفقيرة، إذا ما استثنينا مصطفى الفيلالي الذي عين وزيراً ومديراً للحزب الحاكم في عقد الستينات، ثم عزل ليتفرغ لمهمات ثقافية وأكاديمية على غرار عدد كبير من أبناء موطنه، وبينهم المؤرخ الجامعي الكبير الهادي التيمومي.
ولا تبعد قرية الكبارة، التابعة لمدينة نصر الله ومنطقة قبائل الجلاص عن محافظة سيدي بوزيد وتجمعات البدو والفلاحين التابعين لقبائل الهمامة والفراشيش والجلاص، الذي فجروا التحركات الشبابية الاحتجاجية في أواخر 2010، ثم في ثورة المهمشين والطبقة الوسطى مطلع 2011 في عدد من المدن التونسية، بينها العاصمة تونس.

- تكنوقراطي مستقل سياسياً
في الحقيقة، لا يُعرف للجملي أي توجه سياسي أو حزبي، سواء قبل الثورة التونسية أو بعدها، إلا أنه تولى منصب مساعد وزير الفلاحة بين أواخر عام 2011 ومطلع 2014، في عهد حكومتي الائتلاف الثلاثي بين «النهضة» وحزبين علمانيين برئاسة حمادي الجبالي وعلي العريّض.
وقد كان، وفق رجال الأعمال والإداريين الذين تعاملوا معه في تلك الفترة، «الوزير الفعلي» المشرف على قطاع الزارعة والصيد البحري «بحكم انشغال الوزير محمد بن سالم القيادي في المكتب التنفيذي في (النهضة) وقتها بأنشطته السياسية والبرلمانية»، مثلما جاء في تصريح المولدي الرمضاني، الأمين العام لنقابة الفلاحين في محافظة القيروان لـ«الشرق الأوسط».
من جهة ثانية، نوه وزير الفلاحة الأسبق محمد بن سالم بخصال الحبيب الجملي، وأشار خصوصاً، لما عرف به من هدوء وتواضع ونظافة يدين، واستعدادٍ «للعمل بجد ونجاعة»، طوال أكثر من 14 ساعة يومياً. كذلك أكد قياديون من «النهضة»، ومن خارجها، على استقلالية الجملي وعدم انتمائه إلى أي هيكل من هياكل الحركة «رغم صداقته لها»، على حد تعبير زعيمه راشد الغنوشي ورئيس مجلس الشورى عبد الكريم الهاروني. لكن - كما سبقت الإشارة - هذه «التطمينات» قابلها تشكيك في استقلاليته من قبل قياديين حاليين وسابقين في الحركة، بينهم الوزير والأمين العام السابق زياد العذاري، وحاتم بولوبيار القيادي السابق الذي انشق قبل بضعة أشهر وترشح للرئاسة في سبتمبر (أيلول) الماضي.

- رجل أعمال وموظف سابق
أيضاً، تكشف السيرة الذاتية التفصيلية للجملي أنه استبق الـ14 سنة التي أمضاها موظفاً في القطاع العام، ثم المسؤوليات التي تحملها في مكاتب الدراسات والاستشارات وفي الشركات الخاصة، بدراسات جامعية حصل في أعقابها على ماجستير في الاقتصاد الفلاحي والتصرف في المؤسسات ذات الصبغة الفلاحية. وأيضاً حصل على عدد من الشهادات العلمية والجامعية بعد مشاركته في دورات تدريب في تونس وفي عدد من العواصم الأوروبية والعربية حول تخصصه في مجال «منظومات الإنتاج الفلاحي وسياسات تنمية القطاع الفلاحي وهيكلته».
واشتغل الجملي ما بين 1987 و2001 في مؤسسات تابعة لوزارة الفلاحة والصيد البحري، تنقل خلالها بين عدة مسؤوليات إدارية وفنية وبحثية. وكلّف بالمشاركة في أشغال عدة لجان داخلية ووطنية ومجالس إدارة شركات عمومية ذات صلة بالقطاع الفلاحي.
وترأس رئيس الحكومة المكلف ما بين 1992 و1995 خلايا الدراسات والأبحاث التطبيقية في المؤسسة الحكومية التابعة لوزارة الفلاحة «ديوان الحبوب». ومكنته هذه المسؤوليات من أن يكلف مع فريق من المهندسين بمتابعة مقررات تهم استراتيجية الأمن الغذائي وتطوير إنتاجية تونس من القمح عبر ما سمي بـ«مشروع القمح الأميركي - التونسي». وكان الفريق قد كلف أساساً بإجراء البحوث التطبيقية والإرشاد الميداني للمزارعين حول اعتماد التقنيات الحديثة في إنتاج الحبوب والبقول الجافة «في سياق الحزمة الفنية الملائمة لمختلف جهات شمال ووسط البلاد»، حسب رئيس نقابة المزارعين التونسيين عبد المجيد الزار.
منذ 2001، استقال الحبيب الجملي من الوظيفة الحكومية، واقتحم تجربة الاستثمار المالي في القطاع الزراعي، وتحمل مسؤوليات في مكاتب دراسات تعنى أساساً بالقطاع الزراعي والاقتصاد التضامني والاجتماعي. وينوه أصدقاء الجملي القدامى في وزارة الفلاحة بأنه لم يغادر الوظيفة الحكومية، إلا بعدما أنجز دراستين تطبيقيين هما «الأوليان من نوعهما في تونس» اعتمدا رسمياً إثر مناقشتهما والمصادقة عليهما في ورشتين عامتين موسعتين عقدتا للغرض (1999 - 2000)، وتعلقت الأولى بمعالجة معضلات تجميع الإنتاج الزراعي، وتحسين ظروف خزن المحصول وتسويقه وتصديره. وتعلقت الدراسة الثانية بإعداد منوال لتحليل ومراقبة جودة الحبوب بتونس خلال مختلف مراحل تسويقها.

- الأمن الغذائي والصناعة الزراعية
في المقابل، اتهم الجملي من قبل عدد من المعارضين له بافتقاره لـ«رؤية اقتصادية شاملة»، باعتباره أمضى عشرات من عمره بين مؤسسات إدارية وشركات عمومية وخاصة تعنى بقطاع الزراعة دون غيره من القطاعات. وقال حسن الزرقوني، الخبير في علم الاتصال واستطلاعات الرأي، إن رئيس الحكومة المكلف «ليس شخصية وطنية معروفة بشبكة علاقات متطوّرة مع الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين والإعلاميين في تونس ودولياً». واعتبر الزرقوني أن «هذا النقص سيحرم تونس من طمأنينة شركائها الاقتصاديين الكبار، بينهم باريس والاتحاد الأوروبي والبنك العالمي وصندوق النقد الدولي وبنوك الاستثمار العربية والأفريقية والأوروبية...».
بيد أن أنصار الجملي، مثل الناطق الرسمي باسم «حركة النهضة» البرلماني عماد الخميري، يرفضون هذه الاتهامات، ويتحدثون عن «ثراء خبرته المهنية وتنوّعها في أغلب المجالات الاقتصادية العمومية والخاصة»، بدءاً من القطاعات المؤثرة في سياسات تحقيق الأمن الغذائي ومحاربة الفقر عبر مضاعفة فرص التشغيل في قطاعات الفلاحة والصيد البحري والصناعات الزراعية والتجارة الداخلية والخارجية. كما أنهم يعتبرون أن الجملي يتميز بمعرفته الميدانية الدقيقة للاقتصاد التونسي، وما يعتريه من نواقص هيكلية وظرفية، وما تجابهه من إشكاليات عديدة «بما فيها ذات الصبغة السياسية».

- التعاونيات والتعاضديات
في الوقت نفسه، يعتبر الحبيب الجملي «مهندس تأسيس التعاونيات والتعاضديات» إبان توليه مسؤولية وكيل وزير زراعة عامي 2012 و2013، وهي خطة ساهمت في تجميع الفلاحين وتحسين مردودهم وإنتاجيتهم وفرص تسويق إنتاجهم محلياً ودولياً، حسب المولدي رمضاني الأمين العام لنقابة اتحاد المزارعين في محافظة القيروان. وعمل الجملي على إرساء أسلوب جديد في تسيير وزارة الزراعة ومعالجة مختلف الملفات العالقة ومتابعة المستجدات «بأسلوب أدرك آثاره الإيجابية عدد مهم من الكفاءات العاملة بالمصالح المركزية والجهوية التابعة للوزارة، فضلاً عن كثير من المتعاملين معها».
أيضاً أشرف الجملي على إعداد «لوحة قيادة» لمتابعة تنفيذ مختلف المشروعات والبرامج التنموية جهوياً ووطنياً، وأشرف على عدد من لجان التفكير والاستشراف الاقتصادي الوطنية. ووضع أسس رسم «خطة عمل واستراتيجية شاملة للنهوض بالاقتصاد التونسي، وتمكينه من لعب دور متقدم في تطوير الاقتصاد الوطني ورفع التحديات المفروضة على البلاد، وعلى رأسها الأمن الغذائي، وتجاوز عدد الفقراء في أرياف تونس وجهاتها المهمشة إلى أكثر من مليون ونصف المليون».

- العلاقة مع النقابات واليسار
مع هذا، لم يقنع الجملي كثيراً من زعماء النقابات والأحزاب اليسارية بشخصيته وخبرته، بما في ذلك حمة الهمامي، زعيم حزب العمال الشيوعي، والجبهة الشعبية اليسارية القومية ونور الدين الطبوبي أمين عام اتحاد نقابات العمال، وسمير ماجول رئيس نقابة الصناعيين والتجار. ويبدو أن رئيس الحكومة المكلف استبق الصراعات التي تنتظره مع النقابات والأطراف اليسارية والقومية التي تسيرها عبر جلسات استماع «ماراثونية» عقدها مع غالبية زعمائها.
لكن شهادات الشخصيات التي استقبلها، أجمعت على التنويه على قدرته على الاستماع والتركيز مع مخاطبيه، والترحيب بمقترحاتهم وتسجيلها والتعهد بمتابعتها وبتطوير مشروع البرنامج الحكومي الذي قدمته إليه «حركة النهضة»، واقترحت تعيينه بموجبه باعتبارها الحزب الفائز بالمرتبة الأولى، مثلما ورد على لسان الأمين العام السابق لاتحاد الشغل حسين العباسي، والحقوقي والإعلامي صلاح الدين الجورشي، اللذين كانا من بين تلك الشخصيات.
وبالتالي، فالسؤال المطروح الآن هو مدى قدرة الجملي على النجاح في مشواره بفضل خيار توسيع جلسات الاستماع والتشاور وتشريكه الزعامات التاريخية للنقابات والأحزاب، وانفتاحه على كل التيارات، وتعهده بإعطاء أولوية لملفات التنمية وبالاستقلالية عن كل الأحزاب. وللعلم، الدستور يمنحه شهرين كاملين للإعلان عن تشكيلته الحكومية يمتدان حتى الـ14 من يناير (كانون الثاني) المقبل. وهو ذكرى اندلاع شرارة الثورة التونسية والانتفاضات العربية.


مقالات ذات صلة

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.