السيرة الثقافية الكونية للقهوة

عبد الله الناصر يروي قصتها مرتحلاً بين منابع البن وطرق الحج

السيرة الثقافية الكونية للقهوة
TT

السيرة الثقافية الكونية للقهوة

السيرة الثقافية الكونية للقهوة

«كثيرون يذهبون إلى المقهى، قليلون يذهبون للقهوة»، بهذه العبارة الدالة اختصر عبد الله الناصر نصه الحسي الثقافي الذي سرد به سيرة القهوة، مرتحلاً بين منابع البن وطرق الحج إلى القهوة، وذلك من خلال كتابه «قهوة نامه - مرويات القهوة والنور»، الصادر حديثاً عن دار «روايات».
فعاشق القهوة، بتصوره، يرقص الرقصتين: رقصة النسيان ورقصة التذكُّر، حيث الارتداد إلى الحبشة، مهد البشر الأول، والوقوف على أطلال الشجرة الأولى التي لم يزرعها الإنسان الأول بنفسه، بل صادفها إلى جانبه «كثمرة صوفية وطهورية». سماها العرب ابتداءً، وأحالتها المتصوفة الشاذلية إلى عقار ديني منشط للصلوات والتجليات، فيما استخدمتها الحركة التطهرية الكالفنية كبديل عن الكحول، قبل أن تتحول إلى وقود رأسمالي، لتستقر كرفيقة للمبدعين.
على هذا الإيقاع يؤسس عبد الله الناصر كتاب القهوة، أو ما يمكن عده جامع النص القهوائي، حيث يجذر أصل ذلك المزاج بالمتصوف اليمني جمال الدين الذي اكتشف القهوة، وربط بينها وبين المناسك الروحية، وذلك استناداً إلى كتاب أنتوني وايلد «القهوة: تاريخ أسود»، المزدحم بروايات إنجيلية تبجيلية للقهوة تماثل الأبعاد الأسطورية التي أوردها ستيفن توبك حول القهوة في المخيال الإسلامي، ليختصر رحلة ذلك الإكسير من التحريم والنخبوية إلى الاستحباب كشراب يومي لكل الناس، لدرجة عدها المعادل لطاولة الحوار والمجتمع المدني الحديث، فهي الركيزة التي قام عليها علم الاجتماع، بتعبير عالم الاجتماع الكندي هو جون مانزو.
والقهوة وثيقة الصلة بمرويات النور، كما يؤكد ذلك المنحى ويليام أوكيرز، في كتابه «كل شيء عن القهوة» الذي يستدعي قصة الشيخ عمر المنفي في مدينة المخا في اليمن، ليسرد كيفية انتصاره على الجوع والعطش والخوف برحيق ثمار النبتة الحمراء التي وهبته النور، تماماً كما حدث له في شمال اسكوتلندا، ولمعلمه العجوز سايمون الذي تلقى على يديه تعاليم تحميص القهوة للتغلب على التيه، إذ كانت دلة القهوة الشرقية تعويذته ضد الضياع. وهو الأمل الذي تعلق به الشاعر محمود درويش، حيث دون في كتابه «ذاكرة للنسيان»، عندما كان محاصراً تحت القصف في بيروت: «أريد فقط هدنة لمدة 5 دقائق من أجل القهوة، 5 دقائق لأضع هذا الفجر على قدميه»، فالقهوة بالنسبة له أداة للعيش والتبصر والتأمل الذاتي.
ليست مصدراً للنور والتأمل وحسب، بل هي (أي القهوة) مضاد للكآبة، كما ذكر ذلك روبرت بيرتون في كتابه «تشريح الكآبة»، عندما تحدث عن مشروب لدى الأتراك شديد المرارة، أسود كالسخام، أو ما سماه «المشروب الروحي التركي» الذي شكل سر قوة وهيبة الإمبراطورية التركية، لدرجة أن هناك من ارتأى أن كلمة «قهوة» إنما هي تحريف لمفردة «قوة»، حتى أن الأتراك منعوا الأوروبيين من الحصول على القهوة. وعندما حصلوا عليها، حسب المؤرخ توم ستانديج في كتابه «تاريخ العالم في ستة كؤوس»، وجدوا في القهوة نديماً بديلاً عن الكحول، كما صارت بيوت القهوة في أوروبا مدخلاً لعصور النهضة والتنوير، حيث تدور الأحاديث حول الشعر والفن والسياسة والفلسفة في حضرة القهوة، وهي وقائع أكدها يورغن هابرماس الذي عد مقاهي لندن آنذاك محركاً لما سماه الحيز العام، الذي يشبه اليوم حيز الشبكات الاجتماعية على الإنترنت. فقد كانت فضاءات القهوة بيت الحكمة، وركن المتكلمين من فلاسفة التنوير الذين حرروا العقل الأوروبي من سطوة المعتقد وثقل الطبقية، انتصاراً واستقبالاً لمهبات الديمقراطية.
وبعد أن استجلب الإغريقي باسكو روزي القهوة إلى لندن من تركيا، بدأت المقاهي بالظهور، وصار لكل مقهى رواده وهويته: مقهى للأدباء، وآخر للعلماء والتنويريين، وثالث للفلاسفة، وهكذا. ولهذا، وُصفت مقاهي لندن آنذاك بالجامعات الرخيصة. ففي أحدها تأسست صحيفة «الغارديان»، وفي آخر اكتشف نيوتن الجاذبية على إيقاع النقاشات، وفي ثالث ولدت فكرة بنك لويدز، وهكذا. وإذا كانت صحبة القهوة تولد الأدب والفن والفكر، فإنها تطبب جراح المحاربين، حيث كانت بيوت القهوة في تركيا مصحة لأنسنة فرسان الإنكشارية، وإعادة استدماجهم في المجتمع.
كما خُصصت حصة من القهوة يومياً للمقاتلين في الحرب الأهلية الأميركية، لدرجة أن المؤرخ جوناثان موريس لاحظ أن مفردة القهوة طاغية في أرشيف رسائل جنود الحرب الأهلية أكثر من مفردات البنادق والمدافع والبارود.
وعندما تمكن الهولنديون من استزراع القهوة في مستعمراتهم، حولوها إلى سلعة للطواف بها حول العالم، فيما كان بحار فرنسي يغامر بتهريب شتلات الشجيرة السحرية عبر البحار، إيماناً منه بأن المستقبل للقهوة. ومن المنطلق ذاته، هُرّبت إلى البرازيل. وكل ذلك بعد سنوات من التحريم، وفق المرسوم المملوكي الشهير، كما جاء في كتاب «رسالة القهوة» لأحمد بن موسى المالكي، وكتاب «عمدة الصفوة في حِل القهوة» لعبد القادر الأنصاري الحنبلي. وهو الأمر الذي تكرر في إنجلترا التي استقبلت القهوة بشيء من العداء والشك، حيث عدتها الكنيسة الأنجليكانية «مشروباً إسلامياً وتركياً يمثل تحدياً دينياً وثقافياً للثقافة المسيحية» لدرجة أن الإنجليز كانوا يسمونها «حبوب المحمديين». أما النحات والرسام الإنجليزي ويليام هوغارث، فقد قال إن «حبوب القهوة هي حبوب الكفار، والتحول إلى شرب القهوة بدل الجعة ردة عن الطريقة الفطرية، وانسلاخ عن الإنجليزية، وسعي فاجر إلى أصناف مختلفة من الأشربة الأجنبية المدمرة».
القهوة كسلعة ساهمت في صعود القوى الاستعمارية والرق، كما تقول بهذه الفكرة كاثرين تكر في كتابها «حضارة القهوة»، حيث حولت الدول الأوروبية مستعمراتها إلى مستعمرات لإنتاج القهوة، باستجلاب الفلاحين والقرويين والسجناء واستعبادهم في ظروف غير إنسانية، حتى أصبحت كلمة القهوة تعادل مفهوم «العمل الشاق بأجر بخس». وبالمقابل، كانت القهوة بمثابة الوقود السحري للنهضة الموسيقية الأوروبية، كما يعزز هذا الرأي جون رايس، على اعتبار أن القهوة عقار طاقة ملهم، حسب تعبيره، حيث يدلل على رأيه بشواهد حدثت في مقاهي أوروبا، كالمشهد الحواري الفلسفي في فضاء المقهى الذي افتتح به موزارت أوبرا من أوبراته. كما كان بتهوفن يفك ريق صباحه بقدح من القهوة، حسب كاتب سيرته دونالد مكاردل. وهكذا، ارتبط كل موسيقي بمقهى، كما ترددت مقولات لمشاهير الكُتّاب والموسيقيين ممجدة لسطوة القهوة على المزاج الإبداعي، وهو تقليد انتقل إلى اليابان، وكان حاضراً بقوة في حوانيت القهوة في دمشق التي كانت تتبارى في استجلاب أعذب الحناجر للغناء فيها، طمعاً في جذب مرتادي القهوة، هذا بالإضافة إلى أغاني قطاف القهوة في مختلف بلدان العالم.
وبقدر ما هي عنوان للمزاج فهي سمة من سمات الكرم، كما تبدت في تقاليد الضيافة عند البدوي بجرعات ذات دلالة: فنجان الهيف، وفنجان الضيف، وفنجان الكيف، وفنجان السيف. وكذلك هي رحيق الطمأنينة وإشباع الحواس، كما يحدث للفيلسوف إيمانويل الذي كان عندما يسمع خطوات الخادم متقدماً ناحيته بفنجان القهوة يصرخ: «يابسة... يابسة... أرى اليابسة!». وبالنسبة للفيلسوف سورين كيركيجارد هي هروب من التكرار بالمعنى الفلسفي، حيث يحتفظ بخمسين نوعاً من أقداح القهوة، حسب كاتب سيرته الذاتية جواكيم غراف، تماماً كالروائي أونريه دي بلزاك الذي يعد من نُساك القهوة. أما تشارلز ديكنز الذي يربط القهوة بالشاعرية، فيرى - أدبياً - أن المقهى هو المكان الذي تحدث فيه الأشياء الجيدة، فهو موقع الاحتفال بالحرية.
هكذا، يؤصل عبد الله الناصر علاقة الإنسان المدني بالقهوة، ابتداءً بالعرب الذين أضفوا على المكان الذي تُقدم فيه القهوة صفة البيت، وهي تسمية تبناها الإنجليز فيما بعد، لينطلق في رحلته السردية بعد ذلك نحو ما سماه «الحركة الثالثة في سيمفونية القهوة»، حيث بيوتات القهوة المختصة، بما تحتمله تلك الزوايا من بروتوكولات التحميص والإعداد والتذوق، وبما في ذلك ساقي القهوة الذي كان يُنظر إليه كعالم قهوة.
وكذلك المياه المقطرة التي تحتوي على نسبة قليلة من أملاح الكالسيوم والماغنيزيوم. فللقهوة، حسب تعبيره، «إيحاءات ونوتات»، كما أن لها سيرة كيميائية تتراوح بين التخمير والتخدير والتقطير، تمثلت فيما سماه «المرحلة الزرقاء»، ومردها تعصب «شعري عاطفي»، كما تقوم على تجربة جمالية فردية.
إن فكرة القهوة، بتصوره، انطلقت من الحجاز، بصفتها البيت الأول للقهوة. وهذه المفردة التي أنّثها العرب وثيقة الصلة بالزمن، ولذة البطء، إلى أن ابتكر الإيطاليون مشروبهم الأنيق (الإسبرسو) الذي يعني القهوة السريعة. ويمثل «ثورة في معمار القهوة وهندستها الحداثية»، حيث أصبح فنجان الإسبرسو مادة ثورية جديدة في بنية المقهى، وطريقة حياة مقررة في كل مقاهي العالم، أو كما يقول الباريستا ستيفن موريسي «إن تحضير الإسبرسو يشبه أن تنظر إلى القهوة بعدسة مقربة». وهذا هو بعض «مانيفيستو القهوة» كعبة الوحيدين، بتعبير عبد الله الناصر، استئناساً بقول الشاعر الصيني لو تونغ «الكوب الأول يرطب شفتي، والكوب الثاني يكسر وحدتي».
فالقهوة نداء يفتتح بها البدوي يومه بفنجان البكرية، أو كما يحلو للشعراء تسميتها بعذراء الصباح، استجابة لنداء الحياة.
- ناقد سعودي



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.