«الدرونز» الإيرانية... «الإرهاب الجديد»

الهواء يحمل موتاً قاتلاً... التحديات والمواجهة

طائرات من دون طيار حوثية معروضة بمعرض في مكان غير معروف باليمن (رويترز)
طائرات من دون طيار حوثية معروضة بمعرض في مكان غير معروف باليمن (رويترز)
TT

«الدرونز» الإيرانية... «الإرهاب الجديد»

طائرات من دون طيار حوثية معروضة بمعرض في مكان غير معروف باليمن (رويترز)
طائرات من دون طيار حوثية معروضة بمعرض في مكان غير معروف باليمن (رويترز)

خلال افتتاح أعمال السنة الرابعة من الدورة السابعة لمجلس الشورى، أكد خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز أن الاعتداءات على السعودية لم تؤثر على التنمية وحياة المواطنين والمقيمين بفضل منتسبي القوات العسكرية والأمنية.
وفي تفاصيل الهجوم، أشار العاهل السعودي إلى أن المملكة تعرضت لـ286 صاروخاً باليستياً، و289 طائرة مسيرة، ولم يؤثر ذلك على مسيرتها التنموية، ولا على حياة المواطنين والمقيمين فيها.

الشاهد أن الصواريخ أداة معروفة منذ القدم في إطار الحروب والمواجهات العسكرية، لكن الطائرات المسيرة أو «الدرونز» تبقى هي الأداة المستحدثة الأكثر هلعاً ورعباً، لا سيما أن تكلفتها زهيدة جداً، وإمكانيات تصنيعها متوافرة، الأمر الذي يلقى بنوع من أنواع انعدام التوازن الاستراتيجي العسكري في ميادين القتال حول العالم، ناهيك من تهديد الآمنين على الأرض وفي الجو بالقدر نفسه... من أين للمرء توصيف هذه الإشكالية المحدثة المقلقة إلى أبعد حد ومدى؟

الدرونز في المائة عام الماضية
يمكن القطع بأن فكرة الطائرات «الدرونز» ليست فكرة جديدة، أو وليدة الأمس القريب، إذ تشير الدراسات المختلفة إلى أنها ولدت بداية في زمن الحرب العالمية الأولى، وفي إنجلترا تحديداً، في محاولة لتوفير الدم والحفاظ على أرواح الطيارين الإنجليز، وبدأت التجارب عليها ضمن سلاح «فرسان الجو». وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، طور الأميركيون هذه الطائرات التي كانت بدائية لكي تضحي وسيلة لمراقبة القطع البحرية للأعداء بنوع خاص. وبرز في هذا السياق الأدميرال الأميركي «ويليام ستانلي» الذي قاد المشروع الأميركي.
وكانت حرب فيتنام ميداناً جديداً لتطوير «الدرونز»، لا سيما أن القوات الأميركية استخدمتها كسلاح مفاجئ، في ظل خسائرها البشرية. ومن الطبيعي أن يصل إلى إسرائيل هذا الاختراع، في وقت كانت تعيش فيه حروباً مع العالم العربي، عطفاً على حاجتها إلى مراقبة الأراضي المحتلة.
والثابت أنه منذ سبعينات القرن المنصرم حتى اليوم، أضحت «الدرونز» الهاجس الذي يقض مضاجع العالم، لا سيما بعد أن تمكنت الجماعات الإرهابية من حيازة تلك التكنولوجيا التي جعلت الرياح مسمومة حاملة لخطر الموت في الحل والترحال.
وشهد شهر أغسطس (آب) الماضي تحذيراً شديد اللهجة من المفوضية الأوروبية من مخاطر التطور التقني السريع لتكنولوجيا الطائرات المسيرة، وذلك في ظل التجارب المرصودة من جماعات إرهابية استخدمت فيها طائرات مسيرة في عمليات إرهابية.
وفي هذا السياق، كان مفوض الاتحاد الأوروبي للشؤون الأمنية جوليان كينغ يؤكد أن طائرات الدرونز «أصبحت أكثر ذكاء وكفاءة، مما يجعلها أكثر جاذبية للاستخدامات المشروعة، وكذلك للأفعال الإرهابية».
والثابت أن التحذير السابق لم يتأتَ من فراغ، وإنما من خلال عملية رصد ومتابعة للتهديدات التي تخلفها «الدرونز» على مسارين: الوضع الحالي والمستقبلي.
من هنا، بدا واضحاً أن الاتحاد الأوروبي يعمد إلى إقامة شبكة لتبادل المعلومات وتعزيز الاهتمام بهذه القضية على المستوى الدولي، وتوفير المخصصات المالية للمشروعات التي تخدم درء خطر «الدرونز».
ولم يكن البريطانيون وحدهم في حقيقة الحال من تنبه وبقوة لهذا الخطر القائم المقبل، بل إن الفرنسيين بدورهم أدركوا الهول الحالي، ولهذا فقد حذرت وحدة التنسيق الفرنسية لمكافحة الإرهاب في تقريرها الأخير من مخاطر التعرض لهجوم إرهابي محتمل على ملعب لكرة القدم بواسطة طائرة مسيرة مزودة بـ«مواد بيولوجية».

الدرونز الإيراني... مسيرة إرهابية
منذ أربعة عقود، هي عمر الثورة الإيرانية غير المحمودة، أضحت إيران حجر عثرة في الإقليم، وحول العالم، لا هم لها إلا زعزعة الاستقرار، ودعم الجماعات الإرهابية، ولهذا يضحي من الطبيعي أن تكون الدولة الأولى الداعمة للإرهاب حول العالم. ولأنها بهذا الوصف، لم يكن ليغيب عنها الاهتمام الكبير بحيازة مثل هذا السلاح الخطير، وهي التي درجت على مواجهة القاصي والداني، والتخطيط للمعارك اليوم وفي الغد.
بدأت إيران مبكراً رحلتها مع الشر الطائر -أي «الدرونز»- والمؤكد أنها لم تبدأ من الصفر، وإنما من خلال نماذج أولية تحصلت عليها من بعض شركائها في آسيا الشرقية، لا سيما كوريا الشمالية التي ترتبط معها بروابط عسكرية قوية وثيقة.
طورت إيران في أوائل الثمانينات، وفي ظل الحرب مع العراق، نماذج بسيطة غير مركبة من طائرات مسيرة عرفت باسم «مهاجر». وخلال العقود الثلاثة التالية، أنتجت طهران أنواعاً مختلفة منها، وبشكل خاص الطراز الذي أطلقوا عليه «أبابيل»، وهي التي زودت بها وكلاءها من الميليشيات، كما هو الحال مع الحوثيين في اليمن. كذلك زودت بها أطرافها الميليشياوية في لبنان، حيث «حزب الله» في الجنوب، ومن وراءها زودت بها جماعة «حماس» في الداخل الفلسطيني، لتصل إلى كتائب عز الدين القسام التي هاجمت بها القوات الإسرائيلية صيف عام 2014 خلال حرب غزة الثالثة.

الحوثي وطائرات إيران المسيرة
تركت إيران بصماتها الإرهابية المسيرة على اليمن بنوع خاص، وقد كانت نجاحات قوات الدفاع الجوي الملكي السعودي واضحة جلية، كما فعلت في أبها وجازان طوال العامين الماضيين، وقد شنت بالفعل عدداً من الغارات على البنية التحتية النفطية السعودية؛ كانت البدايات من خلال الهجوم على خط أنابيب النفط الخام بين الشرق والغرب ذي الأهمية القصوى، وأخرى على مرفق حيوي في عمق الربع الخالي في شبه الجزيرة العربية، وذلك قبل الهجوم الأشرس والأخطر على مصافي «أرامكو».
وتبين مسيرة إيران مع «الدرونز» أبعاد الإشكالية التي نحن بصددها. فرغم أن «الدرونز» مصممة في الأساس لتنفيذ أغراض مدنية، من بينها التصوير، فإن دولاً مثل إيران لا تتورع عن تطوير هذا النوع من الطائرات كي يستخدم في المعارك، ومنحه للإرهابيين في اليمن.
والمعروف أن إيران تستغل السوق السوداء للتحايل على العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، من أجل الحصول على «الدرونز»، التي تزود بها في نهاية المطاف أذرعها الإرهابية ووكلاءها من أجل استخدامهم كأطراف شد تخفف الضغوط على طهران كمركز، في طريق مواجهتها لجيرانها، وللمجتمع الدولي برمته.

إرهاب إيران من سوريا إلى ليبيا
لم تتوقف الأيادي الخبيثة الإيرانية عند حدود اليمن فقط. فقد استغل الإيرانيون وجودهم في سوريا لفتح طريق برية لإيصال الطائرات المسيرة من إيران إلى الداخل السوري. وغني عن القول أنها باتت شبه مسيطرة على كثير من المناطق السورية المهمة خلال الأعوام الماضية، ولهذا كان من الطبيعي أن تشهد الساحة السورية اتساعاً في سياق حركة الطائرات «الدرونز»، لا سيما بعد أن بات الوجود الإيراني في سوريا أمراً مألوفاً، وفي غالبية مناحي الحياة المدنية من جهة، وعلى صعيد الوضع العسكري بنوع خاص.
ويدرك المراقب العسكري للوضع الداخلي السوري أن هناك صراعاً عميقاً تجري به الأقدار بين الإيرانيين والروس على الأراضي السورية، وقد بلغ الأمر حد تبادل إطلاق النيران بين الجانبين، عطفاً على شن هجمات بالطائرات المسيرة الإيرانية في غالبية الأمر على مواقع عسكرية مسيطر عليها من قبل القوات الروسية في سوريا. فعلى سبيل المثال، خلال شهر واحد، تعرضت قاعدة حميم إلى نحو 12 هجمة استخدمت فيها «الدرونز»، مما دفع تعليقات روسية للإشارة إلى أن الحرب التي تدور رحاها في سوريا يمكن تصنيفها كـ«حرب الدرونز».
ولم تكن اليمن وسوريا فقط هما ميدان إيران لإطلاق حرب الدرونز، إذ تبقى ليبيا بدورها ساحة خلفية لتعاون غير بناء أو خلاق بين ثلاثي الشر في المنطقة (إيران وتركيا وقطر) فيما بينهم.
وأصبحت الساحة الليبية، حيث لا حسيب أو رقيب، ميداناً لتجربة أفتك الأسلحة وأحدثها، ومنها الطائرات «الدرونز»، الأمر الذي تكشفه إعلانات الجيش الوطني الليبي يوماً تلو الآخر. وكثيراً ما يتم ضبط أو إسقاط أنواع من تلك الطائرات، التي هي غالباً تركية أو إيرانية الصنع، تقوم قطر في غالب الأمر بدفع أكلافها، في إطار يتسق ودورها الهدام في عموم المنطقة.

هل من تعاون تركي ـ إيراني
في هذا الإطار؟
ربما هذا ما يؤكده بالفعل تقرير صادر مؤخراً عن معهد استوكهولم لأبحاث السلام. ففيه، يشار إلى مثل ذلك التعاون، ويؤكد أيضاً أن اهتمام تركيا بإنتاج الطائرات القتالية من دون طيار يعود إلى عام 1996، حين تعاقدت أنقرة مع شركة «جنرال أتوميكس» الأميركية على شراء طائرات من نوع «جنات» دون طيار، التي استخدمتها بشكل مكثف لمراقبة المناطق التي ينشط فيها «حزب العمال الكردستاني» في المناطق الحدودية مع العراق.
وتلا ذلك صفقة مماثلة، لكن هذه المرة مع إسرائيل، حيث تعاقد سلاح الجو التركي على شراء طائرات «الدرونز» من نوع «هيرون». ويبدو جلياً أن تركيا تريد أن تصبح بالتعاون مع إيران تقنياً، ومن خلال التمويل القطري، دولة كبرى فيما يتعلق بتقنيات الطائرات من دون طيار. لكن في الوقت نفسه يرى خبراء حروب الدرونز أن الغرض الحقيقي من إرسال الأتراك طائراتهم من دون طيار إلى ليبيا دعائي نفسي، أكثر منه ميداني تكتيكي، لا سيما أنه من الواضح أن تأثير تلك الطائرات محدود جداً في أرض المعركة، وقد تلاشى مؤخراً، بعد أن تمكنت القوات الجوية الليبية من تدمير غرفة التحكم الخاصة بها، وأصبحت السيطرة في السماوات الليبية في يد قوات الجيش الوطني الليبي. وأحد الأسئلة التي تتقاطع معنا في هذا المقال: ماذا عن الجماعات الإرهابية التي امتلكت أنواعاً مختلفة من الطائرات المسيرة؟
يمكن القطع بأن هناك أربع مجموعات فعلت ذلك: «حزب الله»، و«حماس»، و«جبهة فتح الشام»، وتنظيم داعش... ما الذي يجمع هذه الحواضن الإرهابية الأربع؟
وبشيء من التحليل، يمكن القطع بأن «حزب الله» استفاد من المساعدات الإيرانية المباشرة، بينما استغلت «حماس» الفرصة التي وفرتها لها التكنولوجيا الإيرانية والتركية المسربة. أما «الدواعش»، ففي صيف عام 2014 نشروا مقطع فيديو دعائي يظهر مدى تمدد رقعة سيطرة التنظيم في العراق، حيث استخدمت في مقدمة الفيديو مشاهد التقطت بطائرات الدرونز لإضفاء لمحة سينمائية على دعايته.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.