«تويتر»... جلاد الإعلاميين

«تويتر»... جلاد الإعلاميين
TT

«تويتر»... جلاد الإعلاميين

«تويتر»... جلاد الإعلاميين

قبل تسع سنوات، وقعت حادثة إعلامية لافتة، يبدو أنها أسست لوقائع كثيرة ستأتي بعدها؛ إذ طردت «سي إن إن» الصحافية اللبنانية أوكتافيا نصر، التي امتلكت سجل خدمة مميزاً في المحطة، عبر عشرين عاماً من تغطية قضايا الشرق الأوسط ونزاعاته المريرة.
كل ما فعلته نصر آنذاك كان أنها غردت على حسابها في «تويتر» نعياً وإشادة بـ«مناقب» عالم الدين الشيعي الراحل محمد حسين فضل الله، الذي وافته المنية في عام 2010. ورغم أنها عبَّرت لاحقاً عن أسفها حيال تلك التغريدة، فإنها اضطرت لترك المحطة، مخلفة وراءها عواصف من الانتقادات والتساؤلات عن «الجرم الذي ارتكبته واستحقت الطرد بسببه».
لم يمضِ كثير من الوقت، لنسمع عن طرد مذيع رياضي مخضرم من مؤسسته الإعلامية في تورونتو بكندا؛ فقد كان داميان غودارد يستخدم حقه في التغريد عبر «تويتر» أيضاً، حين أدلى برأيه في موضوع زواج المثليين، الذي كان يحظى باهتمام على المستوى الوطني، وبانقسام ذي طابع سياسي واجتماعي حاد وعميق، ما أدى إلى إنهاء عمله بقرار من الوسيلة التي يعمل لصالحها.
كان جيم كلانسي مذيعاً مخضرماً شهيراً في «سي إن إن»، التي أعطاها 34 عاماً من مسيرته المهنية، ومع ذلك، فقد تم إجباره، في عام 2015، على الاستقالة؛ لأنه وجه انتقادات لإسرائيل، في تغريدة على «تويتر».
وفي شهر مايو (أيار) الفائت، تم إعلان خبر طرد المذيع البريطاني الشهير داني بيكر من «بي بي سي»، بعدما بث تغريدة عبر «تويتر»، اعتُبرت عنصرية، ومسيئة إلى ابن الأمير هاري وزوجته ميغان ميركل.
لقد أقر بيكر لاحقاً بـ«خطئه»؛ بل اعتذر، وقال بوضوح: «كانت تلك التغريدة خطأ كارثياً ساذجاً وعفوياً»؛ لكن هذا لم يكن كافياً أبداً لإلغاء قرار إبعاده عن الشبكة الإعلامية المملوكة للدولة، والتي عمل فيها سنوات.
لا يبدو أن مساءلة الإعلاميين عما يغردون به عبر «تويتر» مسألة تخص الدول الغربية المتقدمة فقط؛ لكنها أيضاً تحدث هنا في منطقتنا، لتشكل هاجساً جديداً ينضم إلى جملة من القيود أو الضوابط، التي لا تطال فقط الحصص الإعلامية؛ لكنها تشمل أيضاً سلوك الإعلاميين عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ففي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلنت المذيعة اللبنانية ديما صادق استقالتها من المؤسسة اللبنانية للإرسال (LBCI)، بسبب ما قالت إنها مواقفها من الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في لبنان أخيراً.
تقول المذيعة المستقيلة في شرحها لما جرى: «إنه زمن الثورة. وهو زمن لا سقف للحريات فيه»، ولذلك، فهي لم تجد ذريعة للاعتذار عما غردت به؛ بل وترفض أيضاً أن تخضع تغريداتها لأي نوع من «المراقبة»، عبر الوسيلة التي تعمل لها.
نحن إذن بصدد مشكلة كبيرة تؤثر في عمل الإعلاميين؛ وهي مشكلة تتصل مباشرة بما يغردون به من آراء شخصية عبر «تويتر». وهنا يمكن طرح الأسئلة التالية: هل يحق للصحافيين الذين يعملون في مجال الأخبار في وسائل إعلام معتبرة، أن يبثوا آراء شخصية عبر «تويتر»؟ ومتى تصبح هذه الآراء «أخطاء» تستوجب عقوبات؟ وهل يحق لوسائل الإعلام أن تُلزم الصحافيين العاملين في مجال الأخبار بها بقيود وضوابط لاستخدام حقهم في التغريد عبر «السوشيال ميديا»؟
تجدر الإشارة أولاً إلى أن هذا الموضوع جدلي بامتياز. وفي أحد المنتديات الرصينة التي حضرها كاتب هذه السطور، في معهد أكاديمي أوروبي متخصص في الصحافة أخيراً، ظهر انقسام بين الخبراء في محاولاتهم الإجابة عن هذه الأسئلة؛ بل إن بعض المشاركين أعلن بوضوح وشجاعة أنه غيَّر رأيه في المسألة أكثر من مرة، وبعضهم الآخر قال من دون مواربة إنه لا يملك رأياً واضحاً يمكن أن يعلنه الآن.
والشاهد أن أي مؤسسة تبث أخباراً، وتُلزم نفسها بقواعد الحياد والموضوعية في بيان مهمتها، وتريد أن تحافظ على سمعتها المهنية، يحق لها أن تُرسي سياسات استخدام لوسائل التواصل الاجتماعي للعاملين فيها، ما داموا يعملون في مجال الأخبار؛ ذلك أن تلك القواعد يمكن أن تجنب المؤسسة شبهة الانحياز إلى طرف أو مصلحة يتفاعلان في قضية محل التباس أو جدل، بما يشوش على مهنيتها ويزعزع الثقة فيها.
لكن تلك المؤسسة يجب أولاً أن تمتلك دليل إرشادات تحريرية معلناً، وأن تنص على قواعد استخدام وسائط التواصل الاجتماعي في عقود العاملين ولوائح العمل، وألا تستخدم آلية العقاب بانتقائية، ولا تكيل بالمكاييل المتعددة.



إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.