ليبيا.. على كف عفريت

تصدع في جبهة المتطرفين ومكاسب للجناح المدني.. ولكن الحرب لم تنته

ليبيا.. على كف عفريت
TT

ليبيا.. على كف عفريت

ليبيا.. على كف عفريت

لم يعد من الممكن فهم الوضع في ليبيا من أول نظرة.
أنت لست أمام فريقين لكرة القدم، ولا أمام جبهتي قتال. الحرب هنا تسير عبر طرق متقاطعة.. أفقية وأخرى رأسية، وفي الخلفية توجد مسارات متباينة. وتوجد على السطح جبهتان تتقاتلان، جبهة المتطرفين بقيادة شخصيات تنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين وأخرى إلى «الجماعة الليبية المقاتلة» وجهاديين كُثُر، وجبهة قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر. ويبدو مستقبل ليبيا «على كف عفريت»، فرغم ظهور تصدع في جبهة المتطرفين، ومكاسب للجناح المدني، فإن الوصول إلى الاستقرار ما زال بعيد المنال.
ومنذ انتهاء نظام القذافي وتشكيل مؤتمر وطني (برلمان مؤقت) وحكومة مؤقتة، ظهر على واجهة الأحداث فريقان متنافسان في السياسة، لكن لكل منهما تسليحه الذي لا يستهان به.. الأول يمثل تيار المتشددين وتقوده جماعة الإخوان، والثاني التيار الليبرالي وكان يقوده محمود جبريل، رئيس أول حكومة للثوار. وكان القذافي قبل ثورة «17 فبراير» (شباط) 2011، يدير الأمور وهو يتحسب في خطواته للثقل القبلي والجهوي في البلاد ذات الطابع العشائري والتحيز الجغرافي، وكان أيضا يضع اعتبارا لهذا في تشكيل الحكومة والأجهزة الأمنية المتعددة، والوزارات السيادية وغيرها. وفجأة انفرط العقد، لأن هناك فرقا جوهريا بين ليبيا وباقي دول ما يعرف بـ«الربيع العربي» يتعلق أساسا بالجيش وبالسياسة.

يوجد جيش وقوى سياسية في كل من مصر وتونس، لكن ليبيا، حين قامت «ثورة فبراير» لم يكن فيها جيش مماثل، ولا قوى سياسية منظمة.. وبينما جرى تحريم العمل الحزبي في البلاد منذ سبعينات القرن الماضي، كانت القوات المسلحة الليبية أيضا عبارة عن مجموعة من الكتائب التي يقف على رأس كل منها قائد قائم بذاته تقريبا، ويعمل دون تنسيق يذكر مع غرفة العمليات الرئيسة، بينما كانت وزارة الدفاع الليبية المفترض أنها تمثل عصب الجيش، مجرد اسم، ووزير دفاع لا حول له ولا قوة، وإن ظل صديقا مخلصا للقذافي حتى قُتل معه بسرت في خريف 2011.
وظلت كتائب القذافي تحارب وتقاتل في الشوارع والمدن، بعد أن تحولت الهبَّة الشعبية لانتفاضة مسلحة، غاب عنها السياسيون والحزبيون الفاعلون على الأرض وفي جبهات القتال، وفي المقابل شارك في تأجيج الانتفاضة الكثير من قادة التيارات المتطرفة، خاصة أولئك الذين خرجوا من السجون بعفو من القذافي ونجله سيف الإسلام، مثل قادة بـ«الجماعة المقاتلة» التي تأسست أصلا في أفغانستان في أواخر ثمانينات القرن الماضي، وقادة من «الإخوان»، وآخرون من حركات جهادية كانت كامنة في الظل.
ولهذا، كما يقول عبد الله ناجي، وهو عضو في حزب التحالف الديمقراطي: «في نهاية المطاف، كما نرى اليوم، تغلب الصراع بالأسلحة على الصراع السياسي.. القيادات المتطرفة تدربت في السابق في أفغانستان والعراق، ولدى البعض منهم خبرات في العمل السري والتنظيمي وحروب العصابات»، مشيرا إلى أن الإسلاميين هم من بدأوا هذا النوع من الصراع الدامي مع الطبقة السياسية التي بدأت الظهور على السطح بعد مقتل القذافي.
لكن الإسلاميين من جانبهم يدافعون عن أنفسهم بالقول إنهم «يحرسون ثورة فبراير من الليبراليين والعلمانيين وأنصار النظام السابق»، كما يقول أحد المقربين من محمد الزهاوي، رئيس جماعة أنصار الشريعة، وهي واحدة من الميليشيات التكفيرية التي يتركز وجودها في كل بنغازي ودرنة، ولديها صواريخ ومخازن أسلحة ضخمة وقامت أخيرا بإعلان موالاة فرع الجماعة في درنة لـ«داعش».
ويبدو أن المتطرفين كانوا يعززون من قدراتهم العسكرية والقتالية منذ وقت مبكر.. أي منذ بدأ المئات من قادتهم يعودون من الخارج للاشتراك في قتال قوات القذافي. ويقول محمد عايزينة، وهو ضابط انشق بعدد من جنوده سريعا من كتيبة الكويفي شرق بنغازي، أثناء أحداث 2011، إنه منذ الأسبوع الأول للثورة وحتى مقتل القذافي في أكتوبر (تشرين الأول) من تلك السنة.. «كان جميع المنخرطين في قتال النظام يعملون جنبا إلى جنب دون تفرقة مع الإخوة المجاهدين ومع باقي الناس العاديين، سواء من الشبان المدنيين المتطوعين في الحرب ضد القذافي، أو من الجنود النظاميين والضباط الذين انضموا إلى الثورة».
ويضيف: «كانت هناك أمور لم نفهمها في وقتها، لكن بدأنا نفهمها الآن.. ففي بداية الثورة، كان قادة المجموعات المتطرفة يأمرون أنصارهم بجمع الأسلحة من معسكرات القذافي ثم يختفون بها في مخازن وفي مواقع تخصهم، وزادت هذه الظاهرة حتى بعد مقتل العقيد معمر، وانتهاء الحرب، حيث أصبح تحت أيديهم ألوف الصواريخ العابرة للمدن، بالإضافة إلى أعداد مهولة من القذائف والأسلحة والآليات العسكرية كالمدرعات والدبابات».
وبعد انهيار النظام القديم، ألقى معظم المتطوعين المدنيين أسلحتهم، وعادوا إلى بيوتهم وأعمالهم. كما بدأ ألوف الجنود والضباط العودة للالتحاق بمعسكراتهم، لكن قطاعا بعينه من هؤلاء «الثوار» ظل متمسكا بأسلحته وقواته وميليشياته، تحت زعم الدفاع عن الثورة وحمايتها من الانقلاب عليها من جانب الموالين للقذافي. وقاد عدد من المتشددين في كل من جماعة الإخوان و«الجماعة المقاتلة»، وقطاعات جهادية أخرى، هذا التوجه الذي عززته أوامر أصدرها المجلس الانتقالي في أواخر 2011 تتلخص في إلزام الدولة صرف رواتب لهذه الميليشيات نظير حمايتها المنشآت العامة والمؤسسات الرسمية والحدود وغيرها.
ويقول الباحث الليبي أحميدة علي، إن صرف رواتب من الدولة للميليشيات، منذ البداية، أغرى قطاعات مختلفة من الشباب صغار السن للانخراط فيها، بغض النظر عن توجهات قادتها، سواء كانوا سياسيين أو جهاديين، كما دفع عاطلين وطامحين إلى تشكيل ميليشيات إضافية وإرغام الحكومة على صرف رواتب لهم مقابل أي أعمال يكلفون إياها حتى لو كانت غير ذات أهمية.
ويضيف: «بدأت هذه الميليشيات، أو الكتائب كما يطلق عليها البعض، تشعر بخطورة السماح بوجود مؤسسة قوية للجيش والشرطة، لأن وجود مثل هذه المؤسسة يقضي على السبب الذي تتقاضى من أجله تلك الميليشيات رواتب شهرية بملايين الدولارات. ولهذا، كانت ملامح الصدام تلوح في الأفق بين من يريدون استمرار الفوضى ومن يريدون بناء الدولة كما ينبغي، خاصة مع ارتفاع أصوات السياسيين والناشطين المدنيين بالمطالبة بحل الميليشيات وجمع الأسلحة منها.
وبدأت على هذا عملية جديدة مضادة وواسعة لعرقلة بناء المؤسسات الأمنية، كان أهم مظاهرها تكاثر عدد الميليشيات من مختلف المشارب، جهاديون ومتطرفون أجانب ولصوص، وإن ظل أقواها وأكثرها تنظيما تلك التي تهيمن عليها جماعة الإخوان و«الجماعة المقاتلة». وجرى استهداف ضباط الجيش والشرطة الذين كانوا يحاولون الانتظام في معسكراتهم وإداراتهم، دون أي تشجيع حقيقي من وزارة الدفاع التي سيطر على مقاليد الأمور فيها محسوبون على التيار المتطرف. وقُتل في عمليات الاغتيال تلك أكثر من 140 من القادة العسكريين في مدينة بنغازي وحدها.
وتزامنت مع ذلك عمليات نفي لكل من كانت له صلة بالنظام السابق، كان أبرزها إصدار قانون العزل السياسي في مطلع عام 2013 ليتخذ الوضع في ليبيا ما يشبه محاولات الاجتثاث الجذري لكل من عمل في الدولة أيام القذافي منذ عام 1969 حتى 2011 بما فيه من قادة عسكريين وسياسيين وكوادر لديها خبرة بإدارة الدولة. وتمكن التيار المتطرف بأذرعه الميليشياوية المسلحة، منذ تشكيل «المؤتمر الوطني» والحكومة الجديدة في 2012، من الهيمنة على مقدرات الدولة، حتى ارتفعت أصوات دول الجوار وبعض دول العالم وهي تشكو وتحذر من خطر استفحال وجود المتطرفين في ليبيا. ولم يكن اسم حفتر قد ظهر على الساحة السياسية بعد.
وطوال نحو عامين فشلت كل محاولات ترويض الميليشيات، وكان من بين هذه المحاولات اقتراح بضم ألوف المسلحين في جهاز مستحدث تحت اسم «الحرس الوطني»، لكن جرى إفشال هذه المحاولة أيضا. وحين استشعر المتطرفون تململ الشارع الليبي، جرى التلويح باستخدام السلاح ضد المحتجين، بالتزامن مع إشاعة وجهة نظر تقول إن الميليشيات «هم الثوار الذين أسقطوا النظام السابق، وأنهم لا يريدون الانخراط في جيش يتولى القيادة في معسكراته ضباط كانوا يعملون في القوات المسلحة في عهد القذافي»، ويقولون أيضا إنه «توجد محاولات من أنصار النظام السابق للعودة للحكم والانقلاب على الثورة».
ومن جانبه، يقول حسين عبد الله، وهو ضابط كبير في الجيش الوطني الليبي، إن الإسلاميين استغلوا مواقعهم الرسمية في الدولة، خلال العامين الماضيين، وفتحوا الباب واسعا لعمليات تهريب شحنات ضخمة من الأسلحة إلى داخل البلاد، ووفروا ملاذا آمنا لألوف الجهاديين من مختلف دول العالم، خاصة الفارين من مالي والجزائر ومصر وتونس وسوريا والعراق والشيشان وغيرها.
ويضيف: «بكل بساطة، تستطيع أن تقول إن القلق تمكن من قطاعات كبيرة من الليبيين، منذ نحو سنة، أي مع اقتراب انتهاء المدة القانونية لعمل (المؤتمر الوطني)»، مشيرا إلى أن هذا «المؤتمر» حاول باستماتة ترحيل موعد إجراء الانتخابات البرلمانية الجديدة، ولوح عدد من قادته بالعنف من أجل أن يستمر في إدارة شؤون الدولة، بوصفه أعلى سلطة في البلاد. وعلى هذا، انتشرت أعمال التوقيف والاعتقال والخطف والقتل أكثر من السابق.
ويقول الباحث أحميدة علي: «في تلك الأثناء، أي في الشهور الأخيرة من العام الماضي والأسابيع الأولى من هذا العام، بدأ عدد من قادة الجيش السابقين وبعض الوجهاء والقادة السياسيين المخضرمين، يعقدون لقاءات في العاصمة طرابلس، بشكل علني، بحثا عن حلول لإنقاذ الدولة الليبية». وكان حفتر من بين من يحضرون في تلك اللقاءات، وخرج عقب واحد من هذه الاجتماعات، ودعا إلى ضرورة تكاتف الليبيين من أجل إعادة «ثورة فبراير» إلى مسارها الذي قامت من أجله، أي بناء دولة ديمقراطية تنعم بالحرية والعدالة والمساواة.
ويضيف علي: «هنا، سارع المتشددون، في (المؤتمر الوطني) وحكومته، باتهام حفتر، في لهجة ذات طابع إخواني، بأنه كان يحاول القيام بالانقلاب العسكري على الثورة. وصدر أمر من السلطات بتوقيف حفتر وكل من كان يحضر معه اجتماعات طرابلس، على أساس أنهم خونة.
وهنا، كما يقول علي، بدأت الأمور تزداد وضوحا في البلاد، خاصة مع تزايد رغبة الليبيين في التخلص من المتطرفين الذين يهيمنون على «المؤتمر» والحكومة، وبينما أطلق حفتر النفير لتجميع ما تبقى من قوات الجيش الوطني، لشن ما سماه «عملية الكرامة» ضد الإرهاب، كان الضغط الشعبي أجبر «المؤتمر» على إجراء انتخابات للبرلمان، وقام فيها الناخبون بإسقاط الإسلاميين بطريقة مهينة.
وعلى هذا الأساس، بدأت الحرب السافرة والمدمرة بين الطرفين منذ أكثر من 5 أشهر حتى اليوم. الجبهة الأولى التي يقودها «الإخوان» و«الجماعة الليبية المقاتلة»، تضم ميليشيات كل من قوات «فجر ليبيا» و«غرفة ثوار بنغازي» و«درع الوسطى». والجبهة الثانية تشمل قوات الجيش الوطني الذي يقوده حاليا بشكل رسمي اللواء عبد الرزاق الناضوري، ويسهم فيه بشكل غير رسمي اللواء حفتر (على أساس أنه لواء متقاعد)، وتعمل بالتنسيق معه أيضا ميليشيات الزنتان التي كانت تتولى تأمين وحراسة مطار طرابلس الدولي.
وطيلة الشهرين الأخيرين، أخذ كل فريق يضع المتاريس الحربية والسياسية في محاولة لكسب الشارع الليبي والدولي أيضا. وتمكنت الجبهة الأولى من طرد الزنتان من مطار طرابلس في اقتتال أدى إلى تدميره، وعدت هذا مكسبا فأعادت «المؤتمر الوطني»، الذي كانت ولايته انتهت، للانعقاد في طرابلس، وشكلت حكومة بقيادة عمر الحاسي. بينما تمكنت الجبهة الثانية من تحقيق نتائج؛ أهمها النجاح في عقد جلسات البرلمان الجديد للبلاد في مدينة طبرق الهادئة في الشرق، واعترف بالجيش الوطني، وعين رئيس أركان له، وتمكنت هذه الجبهة من الحصول على تأييد دولي على أساس أنها تمثل الشرعية في ليبيا.
ويبدو أن الحظ بات قليلا بالنسبة للجبهة الأولى، التي تقودها جماعة الإخوان و«الجماعة المقاتلة»، لأن الخلافات بدأت تظهر على الكتل الرئيسة المكونة لها، رغم الحروب المستمرة التي تشنها حتى الآن في جنوب غربي طرابلس. وقامت جماعة أنصار الشريعة التي كانت تؤيد عملية «فجر ليبيا» و«كتائب الدروع» باتهامهما بالكفر في حال مطالبتهما بالديمقراطية والحوار، وأعلن بعض قادة «أنصار الشريعة» تأييد جماعة «داعش» في درنة. كما بدأ بعض قادة مصراتة يعترضون على الاستمرار في ركوب حصان جماعة الإخوان إلى النهاية، وشارك عدد منهم بالفعل في حوار مع نواب بالبرلمان الجديد، وهو ما أدى إلى خلافات أخرى داخل الجبهة المتشددة.
ويقول العقيد إدريس العيقوري، من الجيش الوطني الليبي في طبرق، إنه، وفي المقابل تمكنت الجبهة الثانية التي يحلو لوسائل الإعلام الإخوانية تسميتها «جماعة الانقلابي حفتر» في حشد تعاون دول الجوار وبعض دول العالم، لبناء المؤسسات الليبية والقضاء على الفوضى والتطرف والإرهاب، مشترطة على من يريد أن يشارك في المستقبل أن يضح السلاح جانبا، ويدخل في الحوار سواء برعاية محلية أو إقليمية أو دولية.
ويضيف أن البرلمان الوليد يحاول أن يعزز قدراته بمساعدة دول الجوار، ويحاول التوصل لحلول مع شركاء الوطن في الداخل، من خلال وضع الاعتبارات القبائلية والجهوية في الحسبان أيضا، مشيرا إلى أن «قوات الجيش الوطني، تقوم أيضا بمواصلة الغارات الحربية على مواقع المتشددين في كل من درنة وبنغازي، بالإضافة إلى وصول بعض وحدات الجيش إلى مشارف طرابلس، لاستعادة العاصمة بالحوار أو بالقتال، ولو بعد حين».



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.