نجاة لبنان من كأس الحرب المسمومة

متظاهر في بيروت (أ.ف.ب)
متظاهر في بيروت (أ.ف.ب)
TT

نجاة لبنان من كأس الحرب المسمومة

متظاهر في بيروت (أ.ف.ب)
متظاهر في بيروت (أ.ف.ب)

نجا لبنان قبل يومين من محاولة منسقة ومنظمة لبعث الانقسامات المذهبية وأجواء الحرب الأهلية التي كانت انتفاضة اللبنانيين المستمرة منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي قد نجحت في تجاوزها، فيما يجوز تشبيه ذلك بالنجاة من كأس مسمومة.
بدأت المحاولة ليل الأحد 24 أكتوبر مع ظهور عدد من بيانات متزامنة ومجهولة المصدر تدعو إلى الإضراب العام والاعتصام في الساحات والأخطر أنها تعلن «انتهاء سلمية الثورة». لم يفلح البحث عن مروجي هذه البيانات التي ذهب الظن إلى أن جهات تسعى إلى خنق الانتفاضة تقف وراءها. استجاب عدد من المتظاهرين للدعوة وتجمعوا عند عدة نقاط منها جسر الرينغ في بيروت وجل الديب والذوق شمال شرقي العاصمة. تبع ذلك تدفق مئات من الشبان المنتمين إلى «الثنائي الشيعي» إلى الشوارع المحيطة بجسر الرينغ والتي تقطنها أكثرية مسيحية، حيث عمدوا إلى تحطيم السيارات والمحلات التجارية مطلقين شعارات طائفية، ما أفضى إلى استياء عام بين السكان. وتدخل القدر في تلك الليلة على شكل مأساة قضت على حياتي رجل وامرأة في حادث سير، سارع «الثنائي» إلى استغلاله وتحميل المتظاهرين المسؤولية عنه واتهامهم برمي سيارة الضحيتين بالحجارة وهو ما ثبت لاحقا كذبه.
في اليوم التالي هوجمت وأحرقت خيام المعتصمين في مدينة صور من قبل عناصر الجهة السياسية ذاتها فيما جال مئات من أنصار «الثنائي» شوارع بيروت على متن دراجات نارية أصبحت من العلامات المميزة لأنصار حركة «أمل» و«حزب الله». وبعد سويعات جرت محاولة لإضرام النار في أحد المصارف وافتعال مشكلة مع القوى الأمنية في مدينة طرابلس التي باتت تعتبر من المراكز الأساسية للانتفاضة، كما حاول المئات من راكبي الدراجات النارية الدخول إلى منطقة عين الرمانة في الضاحية الجنوبية، حيث اصطدموا مع الأهالي. يوم الثلاثاء هاجمت المجموعات ذاتها تجمعا سلميا في مدينة بعلبك في منطقة البقاع.
تصح قسمة هذه الجهود المنسقة إلى فئتين. الأولى تتمثل في العمل على إحياء أجواء الانقسام المذهبي التي سادت بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في 2005 والتهويل بالعودة إلى الحرب الأهلية من خلال الهجوم على أحياء مسيحية السكان. الفئة الثانية هي استعادة السيطرة على الشارع الشيعي الذي بدأت نذر تململه من تدهور الوضع الاقتصادي تطال السردية التي يروجها «الثنائي» عن مسؤولية العقوبات الأميركية عن الأزمة الحالية واندراج كل المنتفضين في سياق استهداف «المقاومة» وإسقاط النظام في إيران، الركن الركين في محور «الممانعة».
وجاءت التحركات المنسقة في ظل تصاعد الأزمة الحكومية بعد امتناع رئيس الوزراء السابق سعد الحريري عن تبني أفكار تحالف «التيار الوطني الحر» و«حزب الله» بتشكيل حكومة سياسيين مطعمة ببعض الوجوه المحسوبة على الحراك أو المتسلقة عليه، ثم امتناع الحريري الكلي عن ترؤس أي حكومة مقبلة، وذلك حتى قبل أن يبدأ رئيس الجمهورية الاستشارات النيابية الملزمة التي يتعين أن يكلف بموجب نتائجها رئيسا جديدا للوزراء.
وسعت جولات راكبي الدراجات النارية والهتافات الطائفية والاعتداء على المعتصمين في صور وبعلبك إلى تطويق الانتفاضة وإعلان موتها. بيد أن ما لم يحسب «الثنائي» حسابا له هو تعمق الأزمة الاقتصادية التي يعطيها التراجع اليومي لسعر الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي (في السوق الموازية التي برزت أخيرا وتؤشر إلى القيمة الحقيقية للعملة الوطنية خلافا لتسعيرة المصرف المركزي التي تشبه كلاما يصدر من عالم آخر)، يعطيها زخما من حيث لا يرغب الممسكون بالسلطة والمسؤولون عن الانهيار الحالي. فخسارة نحو الأربعين في المائة من قيمة الليرة اللبنانية والانعكاسات الاجتماعية التي بدأت تطل برأسها، لا يمكن أن تمر من دون أن تلاحظها أكثرية المواطنين الذين يتلقون رواتبهم بالعملة المحلية. وبعد التحذيرات التي أصدرها عدد من المستوردين والتجار، بدأت الإضرابات تصل إلى قطاعات أساسية يتعرض العاملون فيها إلى تقليص الرواتب أو التهديد بالصرف من العمل بذريعة عدم توفر السيولة وجمود الحركة الاقتصادية.
في المقابل، لا يقدّم المصرون على إبقاء السلطة الحالية من دون إصلاح جذري، أي تصور لإخراج لبنان من مأزقه الاقتصادي على نحو يخفف التوتر في صفوف الفئات المحدودة الدخل. والجدير ذكره أن تقارير اقتصادية عدة حذرت من أن نسبة السكان الواقعين تحت خط الفقر سترتفع ارتفاعا حادا في الشهور القليلة المقبلة ما يتطلب إعداد شبكات أمان سواء من المؤسسات الدولية أو الأهلية، نظرا إلى انعدام الأمل بقدرة الدولة على اتخاذ أي خطوات في هذا المجال.
وبحلول مساء الأربعاء 27 أكتوبر، وبعد مظاهرة مشتركة للأمهات من منطقتي الشياح وعين الرمانة اللتين شهدتا بعض أعنف فصول الاقتتال أثناء الحرب الأهلية، أمكن القول إن الجولة الأخيرة لإجهاض الانتفاضة قد فشلت بفضل عاملين: الأول هو ضغط الأزمة السياسية والاقتصادية الهائل على اللبنانيين بحيث لا يمكن افتعال إشكالات واستعادة أجواء الحرب قبل إيجاد حلول حقيقية للأزمة. والثاني هو أن الوعي الذي بدأ اللبنانيون يتحلون به كمواطنين وليس كأتباع ملل وطوائف متناحرة قد أعطى ثمرته الأولى أي نبذ منطق الحرب والاستنفار الطائفي، من دون أن يعني ذلك أن هذا الخطر قد بات من الماضي وأن السلطة لن تعمل على إحيائه مرات في المستقبل.



ملاهي سوريا وحاناتها تعيد فتح أبوابها بحذر بعد انتصار فصائل المعارضة

سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
TT

ملاهي سوريا وحاناتها تعيد فتح أبوابها بحذر بعد انتصار فصائل المعارضة

سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)

احتفل سكان دمشق بسقوط نظام بشار الأسد بعد حرب وحشية استمرت 13 عاماً، لكن أصحاب أماكن السهر في المدينة اعتراهم القلق وهم يعيدون فتح أبواب حاناتهم وملاهيهم.

فقد قادت «هيئة تحرير الشام» فصائل المعارضة التي أطاحت بنظام الأسد، وكانت هناك خشية لدى بعض الناس من أن تمنع الهيئة شرب الكحول.

ظلت حانات دمشق ومحلات بيع الخمور فيها مغلقة لأربعة أيام بعد دخول مقاتلي «هيئة تحرير الشام» المدينة، دون فرضهم أي إجراءات صارمة، والآن أعيد فتح هذه الأماكن مؤقتاً.

ما يريده صافي، صاحب «بابا بار» في أزقة المدينة القديمة، من الجميع أن يهدأوا ويستمتعوا بموسم عيد الميلاد الذي يشهد إقبالاً عادة.

مخاوف بسبب وسائل التواصل

وفي حديث مع «وكالة الصحافة الفرنسية» في حانته، اشتكى صافي، الذي لم يذكر اسم عائلته حتى لا يكشف عن انتمائه الطائفي، من حالة الذعر التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي.

فبعدما انتشرت شائعات أن المسلحين المسيطرين على الحي يعتزمون شن حملة على الحانات، توجه إلى مركز الشرطة الذي بات في أيدي الفصائل في ساحة باب توما.

وقال صافي بينما كان يقف وخلفه زجاجات الخمور: «أخبرتهم أنني أملك حانة وأود أن أقيم حفلاً أقدم فيه مشروبات كحولية».

وأضاف أنهم أجابوه: «افتحوا المكان، لا مشكلة. لديكم الحق أن تعملوا وتعيشوا حياتكم الطبيعية كما كانت من قبل»، فيما كانت الموسيقى تصدح في المكان.

ولم تصدر الحكومة، التي تقودها «هيئة تحرير الشام» أي بيان رسمي بشأن الكحول، وقد أغلق العديد من الأشخاص حاناتهم ومطاعمهم بعد سقوط العاصمة.

لكن الحكومة الجديدة أكدت أيضاً أنها إدارة مؤقتة وستكون متسامحة مع كل الفئات الاجتماعية والدينية في سوريا.

وقال مصدر في «هيئة تحرير الشام»، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، طلب عدم كشف هويته، إن «الحديث عن منع الكحول غير صحيح». وبعد الإلحاح عليه بالسؤال شعر بالغضب، مشدداً على أن الحكومة لديها «قضايا أكبر للتعامل معها».

وأعيد فتح «بابا بار» وعدد قليل من الحانات القريبة، لكن العمل محدود ويأمل صافي من الحكومة أن تطمئنهم ببيان يكون أكثر وضوحاً وقوة إلى أنهم آمنون.

في ليلة إعادة الافتتاح، أقام حفلة حتى وقت متأخر حضرها نحو 20 شخصاً، ولكن في الليلة الثانية كانت الأمور أكثر هدوءاً.

وقال إن «الأشخاص الذين حضروا كانوا في حالة من الخوف، كانوا يسهرون لكنهم في الوقت نفسه لم يكونوا سعداء».

وأضاف: «ولكن إذا كانت هناك تطمينات (...) ستجد الجميع قد فتحوا ويقيمون حفلات والناس مسرورون، لأننا الآن في شهر عيد الميلاد، شهر الاحتفالات».

وفي سوريا أقلية مسيحية كبيرة تحتفل بعيد الميلاد، مع تعليق الزينات في دمشق.

في مطعم العلية القريب، كان أحد المغنين يقدم عرضاً بينما يستمتع الحاضرون بأطباق من المقبلات والعرق والبيرة.

لم تكن القاعة ممتلئة، لكن الدكتور محسن أحمد، صاحب الشخصية المرحة والأنيقة، كان مصمماً على قضاء وقت ممتع.

وقال لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «كنا نتوقع فوضى عارمة في الموقف»، فيما كانت الأضواء تنعكس على ديكورات المطعم، مضيفاً: «لكننا عدنا سريعاً إلى حياتنا، حياتنا الليلية، وحقوقنا».

حفلة مع مغنٍ

وقال مدير المطعم يزن شلش إن مقاتلي «هيئة تحرير الشام» حضروا في ليلة إعادة الافتتاح ولم يغلقوا المكان.

وأضاف: «بدأنا العمل أمس. كانت الأمور جيدة جداً. كانت هناك حفلة مع مغنٍ. بدأ الناس بالتوافد، وفي وسط الحفلة حضر عناصر من (هيئة تحرير الشام)»، وأشار إلى أنهم «دخلوا بكل أدب واحترام وتركوا أسلحتهم في الخارج».

وبدلاً من مداهمة المكان، كانت عناصر الهيئة حريصين على طمأنة الجميع أن العمل يمكن أن يستمر.

وتابع: «قالوا للناس: لم نأتِ إلى هنا لنخيف أو نرهب أحداً. جئنا إلى هنا للعيش معاً في سوريا بسلام وحرية كنا ننتظرهما منذ فترة طويلة».

وتابع شلش: «عاملونا بشكل حسن البارحة، نحن حالياً مرتاحون مبدئياً لكنني أخشى أن يكون هذا الأمر آنياً ولا يستمر».

ستمارس الحكومة الانتقالية الجديدة في سوريا بقيادة «هيئة تحرير الشام» عملها حتى الأول من مارس (آذار). بعد ذلك، لا يعرف أصحاب الحانات ماذا يتوقعون.