بيوت الأزياء الكبيرة والزبائن أكثر وعياً بأهمية الاستدامة

من وقت لآخر، وعند متابعة عروض الأزياء، نتفاجأ بصور تثير الانتباه والإعجاب على حد سواء، لأن المصمم يلتقط فيها روح عصره، أو على الأقل تلك الحالة المزاجية المرتبطة بفترة بعينها. وفي عروض الموسم الحالي، انطبقت هذه الحالة على ما قدمه المصمم هادي سليمان. كان ذلك عرضه الثاني لدار «سيلين» الفرنسية، دار الأزياء التي أسستها سيلين فيبيانا في عام 1945، وفاحت منها رائحة بورجوازية خفيفة تتحدى سنوات الحرب العجاف، وتوالت عليها العقود والمصممون الذين أمدها كل واحد منهم بروح عصره وثقافته، ثم جاء هادي سليمان ليعيد رسم هذه الصورة البورجوازية بلغة عصرية تحمل كثيراً من ألق الدار في حقبة السبعينات.
ما أكسبه رضا وسائل الإعلام التي شنت عليه حملة شنعاء في السابق أنه لم يكتفِ باحترام إرث المؤسسة فحسب، بل زاد عليه عدم تنكره لأسلوب البريطانية فيبي فيلو، المصممة التي تسلم المشعل منها، بعد محاولته أن يمحو أسلوبها تماماً في تشكيلته الأولى. وقتها، قامت الدنيا عليه ولم تقعد، واتهم بأنه تعدى خطاً أحمر، فهي تتمتع بزبونات مخلصات لأسلوبها الذي يجمع الحداثة بالرقي. وفي تشكيلته للخريف والشتاء الحاليين، صحح الوضع، وقدم تصميمات ظهرت فيها لمحات من بصمتها الهندسية المعاصرة، مع رشة روح بورجوازية واضحة، اعتمد فيها على أقمشة مترفة، مثل الـ«كريب دي شين» والكشمير، في سترات مفصلة وأكسسوارات جلدية نالت الرضا والإعجاب معاً، فضلاً عن قمصان تعقد حول العنق أو تنورات بطيات أو معاطف بأحجام كبيرة.
ورغم نجاح محاولته الثانية في دار «سيلين»، لا يمكن القول إن القطع التي ابتكرها هادي سليمان كانت ثورية أو مختلفة عما قدمه غيره من المصممين هذا الموسم. جديده، أو بالأحرى نجاحه، يكمن في قدرته على ضخ روح ديناميكية على هذه القطع، وفي جعلها تلمس وتراً حساساً بداخل زبونات من الجيل الصاعد، راقت له صورتها «البورجوازية» وحنينها إلى الزمن الجميل.
نظرة سريعة إلى باقي عروض أزياء هذا الموسم تؤكد أن هادي سليمان لم يكن الوحيد الذي انتهج هذا الأسلوب، وأن ترجمة أناقة أيام زمان بلغة العصر كان توجهاً عاماً، بل يمكن القول إنه كان منافساً قوياً للأسلوب «السبور» المستقى من ثقافة الشارع الذي اكتسح ساحة الموضة منذ سنوات. صحيح أن هذا الأخير لم يختفِ تماماً، ولن يختفي في المستقبل القريب، إلا أن الاستقبال الحار لمضاده «الكلاسيكي» كان إشارة إلى أن الأذواق لا تختلف فحسب، بل إن التخمة من ثقافة الشارع قد بدأت تصيب البعض.
وهذا ما أكدته فون دير غولتز، مدير شؤون المشتريات العالمية في موقع التسوق الإلكتروني «نيت أ بورتيه»، بقولها إن الحديث عن التصاميم الكلاسيكية بدأ يتعالى منذ موسمين تقريباً، وتجسد في ظهور سترات مفصلة وفساتين رومانسية تناسب كل زمان ومكان. وتُفسر ذلك بأن الرغبة في الاستثمار كانت دافعاً قوياً عزز هذا التوجه، إلى جانب الموضة المستدامة. فبينما تريد المرأة الناضجة أزياء راقية تعبر عنها، وعن مكانتها وسنها، بغض النظر عن أسعارها، تريد الزبونات صغيرات السن هن أيضاً أزياء تعبر عن رغبتهن في موضة مستدامة. وهذا يعني أنهن يتفقن مع أمهاتهن على أن جمال التصاميم المائلة إلى الكلاسيكية، وتُنفذ بحرفية عالية، يكمن في أنها لا تستدعي تغييرها في كل موسم، وهذا يعني أنها هي «الموضة» الحقيقية. كل هذا يجعل فكرة تقنين صناعة الأزياء لضمان المستقبل، ولو من خلال مقاومة الموضة السريعة، تُلح على صناع الموضة ومتابعيها على حد سواء في الوقت الحالي. من هذا المنظور، كان من البديهي أن تنتعش أعمال بعض المصممين المستقلين، مثل المصممة غابرييلا هيرست التي تتبنى مفهوم الاستدامة في كل قطعة تطرحها، وتشهد تصاميمها إقبالاً ملحوظاً، رغم خطوطها البسيطة جداً. ومثلها آخرون جسدوا هذا المفهوم في فساتين وتنورات تغطي الركبة، وتفاصيل مبتكرة تجعل من كل قطعة تحفة قائمة بذاتها، سواء بالتركيز على الأكمام أو الياقات.
الأختان ماري كيت وآشلي أولسن، مؤسستا علامة «ذي رو»، مثلاً قدمتا قطعاً منفصلة تعبر عن هذه الروح العصرية من خلال معاطف طويلة وبنطلونات واسعة ومستقيمة، ودور أزياء كبيرة مثل «بيربري» و«تودز» من خلال ألوان طبيعية وخامات مترفة، بينما أعادت «شانيل» السترات ذات الرقبة المستديرة إلى الواجهة مرة أخرى، وجاكيتات التويد بكل الأطوال. والمعطف الكلاسيكي، بلونه الجملي، عاود الظهور بدوره في عدد لا يحصى من عروض الأزياء، بما في ذلك «جيفنشي»، حيث ضخته مصممة الدار كلير وايت كيلر بجرعة درامية قوية، اعتمدت فيها على حزام يحدد الخصر وأكمام منتفخة. وعلامة «أغنونا» أطلقت على تشكيلتها عنوان «إتيرنال»، أي للأبد، وهي التي تكونت من سترات بصفين من الأزرار من الكشمير، وبألوان هادئة مثل الجملي. أما «شانيل» فقدمت ملابس أكثر فخامة، حيث نجد قطعة تشبه العباءة، لكن قصيرة ومن دون أكمام من الفرو، نسقتها مع بنطلون أسود يتسع بالتدريج من عند الركبة إلى الكاحل، مصنوع من الكشمير أو الصوف، وبلوزة مصنوعة من الصوف بلون الكريم، إلى جانب عدة جاكيتات طويلة وواسعة. ومن جهتها، قدمت علامة «ميو ميو» سترات مشابهة، بعضها من دون أكمام، باللون الأزرق الكحلي من الصوف، نسقتها مع قمصان برقبة عالية وربطات عنق بشكل الفراشة.
ومن بين العناصر الرئيسية في هذا التيار الجديد القمصان البيضاء التي تكمل أي إطلالة مهما كانت أهميتها ومناسبتها. والجديد فيها أن المصممين أولوها أهمية كبيرة، بإدخال تفاصيل خفيفة تحترم كلاسيكيتها، وفي الوقت ذاته مبتكرة حتى تناسب ذائقة جيل صاعد. قدمتها دار «لويس فويتون» مثلاً بياقة بكشاكش، ودار «فندي» من الجلد، بينما قدم المصمم نبيل نايال مجموعة درامية استقاها من التاريخ، بتفاصيل مبتكرة مثل قميص من قطن البوبلين، تتصدره مريلة. وتجدر الإشارة إلى أن نبيل كان قد باع أول قميص أبيض للمصمم الراحل كارل لاغرفيلد في عام 2015، عندما شارك في مسابقة جائزة «إل في إم إتش»، ووصل إلى النهائيات، ولم يتوقف منذ ذلك الحين على التفنن في هذه القطعة.
ولا يمكن الحديث عن هذا التوجه من دون التطرق إلى أسماء شابة تتبنى الحركة الكلاسيكية المعاصرة، وتعمل بكل قواها على بث الحياة فيها من جديد، مثل: المصمم البريطاني دانييل لي الذي أضاف لمسة مفعمة بالحيوية على دار «بوتيغا فينيتا»، من خلال فساتين أحادية الألوان، بعضها من صوف الموهير مع حزام جلدي مزود بحليات ذهبية وبعضها من الكشمير أو الحرير؛ أو المصممة إميليا ويكستيد التي رسخت أسلوبها هذا منذ عام 2008، ولم تحد عنه في أي فترة من الفترات، فمنذ بدايتها وهي تركز على إبداع تصاميم تستثمر فيها الزبونة. وفي هذا الصدد، تشرح أن مبدأها «كان دوماً التشجيع على شراء قطع يمكن الاحتفاظ بها إلى الأبد، عوض تغييرها في موسم»، وتستدل على هذا ببدلة من «شانيل»، وكيف أنها من الكلاسيكيات التي يمكن ارتداؤها لسنوات، ثم توريثها للحفيدات من دون أن تبدو «دقة قديمة» أو خارج الزمن.
والملاحظ أن أسلوب ويكستيد واضح لا تخطئه العين، بخطوطه الهندسية وأحجامه السخية. فالتنورات دائماً طويلة والألوان غنية، ومع ذلك تُقبل عليها المرأة من كل الأعمار والمقاسات لأنها متوازنة. وتقول المصممة إن الطلب على القطع عالية الجودة غير مقيد بحقبة أو بشريحة بعينها «ففي كل الفترات، هناك زبونات يرغبن في أزياء فريدة من نوعها ومميزة»، بيد أنها لا تُنكر أن تنامي الجدل حول الموضة المستدامة زاد من هذه الرغبة، وجعلها أكثر إلحاحاً على صناع الموضة ككل، وأضافت: «زبائن اليوم يريدون التأكد من أن القطعة تحمل مبادئهم الإنسانية نفسها، وهو ما يحتم على المصمم أن يدرس جودة الخامات والحياكة، ويبحث عن مصدر هذه الأقمشة والحرفيين الذين أشرفوا أو قاموا بنسجها، والطريقة التي يتعامل بها رؤساؤهم معهم، وما شابه من أمور. وبصفتي مصممة، فأنا أرى أن هذا الأمر مهم، لأنه يجبرنا على التوقف والتأني، وإعادة النظر في أشياء من شأنها أن تلحق الضرر بالإنسان وببيئته. لحسن الحظ أن الأسماء التجارية الكبيرة أصبحت تعي أهمية الاستدامة، لكن الأجمل أن هذا الوعي امتد إلى الزبائن أيضاً».
ولا يقتصر هذا الوعي على بيوت الأزياء الكبيرة، والأسماء التي رسخت سُمعتها في الأسواق العالمية، إذ امتدت إلى فئة المصممين الشباب بدرجة تؤكد أنهم أكثر من يقود هذه الحركة. ومن هؤلاء نذكر تومي تون، المدير الفني في دار «ديفو»، الذي استوحى إلهام تصميماته من شخصيات معروفة بأسلوبها الكلاسيكي، مثل كارولين بيسيت كينيدي والممثلة دايان كيتن. ومجموعته للخريف-الشتاء قوبلت بحفاوة كبيرة، ومن بين الاقتراحات التي نالت الإعجاب بلوزة من الكشمير، نسقها مع فستان من الساتان من دون أكمام، وكذلك بنطلون بطية مزدوجة فوقه سترة قصيرة دون أكمام. وأعرب تون عن اعتقاده بأن هذا التحرك نحو الكلاسيكية هو ردة فعل للتقليعات والصرعات الموسمية التي تبين أن لها عدة سلبيات على البيئة.
ومن ناحيتها، شرحت مارغريتا كارديلي، وهي واحدة من مؤسسي علامة «جوليفا هيريتدج كولكشن» الناشئة، أن اهتمامها منذ البداية كان مركزاً على إنتاج قطع قادرة على الاستمرار لفترات طويلة، دون التقيد بحقبة بعينها. وتعتمد الدار التي تأسست قريباً على فنانين إيطاليين ناشئين أيضاً.
وتوضح مارغريتا كارديلي أن الرغبة في إبداع قطع قادرة على الصمود لعصور وأجيال كان من الأولويات منذ البداية. فعندما يحصل الزبون، أياً كان أسلوبه، على أزياء لا تعترف بزمان أو مكان، فإنه يستمتع بها أكثر ولمدة أطول، وهذا بحد ذاته خطوة إيجابية نحو موضة مستدامة.