مصرع 13 جندياً فرنسياً بينهم 12 ضابطاً بتصادم مروحيتين في مالي

في أكبر خسارة يمنى بها الجيش الفرنسي منذ الهجوم الذي استهدف وحداته في بيروت في عام 1983 والمعروف باسم «هجوم دراكار» الذي أوقع 58 قتيلا في تفجير لمبنى كانوا يقيمون فيه في إطار عملهم داخل القوة الدولية في لبنان، قتل 13 ضابطا وصف ضابط في مالي ليلة أول من أمس بسبب اصطدام مروحيتين إحداهما هجومية من طراز «تايغر» والثانية للنقل من طراز «كوغار». ووقع الحادث جنوب شرقي مالي في المنطقة المعروفة باسم «ليبتاكو» التي تعد الأكثر خطورة بالنسبة لـ«عملية برخان» الفرنسية لمحاربة الإرهاب لكونها تقع داخل المثلث الحدودي لمالي وبوركينا فاسو والنيجر. وأفاد بيانان صادران عن وزارة الدفاع وقيادة الأركان الفرنسية بأن حادث الارتطام حصل خلال عملية إسناد جوي كانت تقوم بها الطوافتان إضافة لطائرة ميراج 2000 لمجموعة أرضية مقاتلة كانت تلاحق «إرهابيين» في المنطقة منذ عدة أيام.
حتى عصر أمس، لم تكشف السلطات العسكرية عن أسباب التحطم. وأفادت وزيرة الدفاع فلورانس بارلي بأن تحقيقا قد فتح لجلاء أسباب «المأساة» التي تعد الخسارة الكبرى التي حلت بالقوة الفرنسية العاملة في مالي منذ عام 2013، وفي عام 2014 تحول اسم العملية الفرنسية من «سيرفال» التي كانت مهمتها، بداية، إنقاذ العاصمة المالية «باماكو» من هجوم مجموعات إرهابية كانت تحاول الوصول إلى العاصمة، إلى «برخان» وهو اسم تلة في مالي. وتنشر فرنسا، في إطار هذه القوة العسكرية التي مهمتها محاربة الإرهاب ليس في مالي وحدها بل أيضا فيما يسمى «دول الساحل» الممتدة من موريتانيا إلى التشاد، نحو 4500 جندي إضافة إلى قوة جوية. لكن هذه القوة تعمل بشكل أساسي في مالي التي يبدو وضعها الأمني الأكثر هشاشة من بين دول المنطقة كافة.

كان من الطبيعي أن تجمع الطبقة السياسية الفرنسية رئاسة وحكومة ومعارضة وأحزابا على التعبير عن تضامنها مع قوة «برخان» وعن تقديرها للدور الذي تقوم به دفاعا أولا عن فرنسا ومصالحها وفي محاربة الإرهاب المتنامي في كل دول المنطقة. ووصف الرئيس إيمانويل ماكرون في تغريدة العسكريين القتلى بـ«الأبطال الذين لم يكن لهم سوى هدف واحد هو حمايتنا». كذلك أشاد بـ«شجاعة» العسكريين وبـ«عزمهم الذي لا يلين» في إنجاز المهمة الموكلة إليهم. واستخدم رئيس الحكومة الكلمات الرئاسية نفسها في التعبير عن «العرفان الكبير لهؤلاء الأبطال» فيما أشار الرئيس الأسبق فرنسوا هولاند الذي اتخذ قرار إرسال القوات الفرنسية للقتال في مالي عام 2013 إلى أن فرنسا كلها تبكي قتلاها الذين كانوا «يحاربون الإرهاب بشجاعة».
ومع القتلى الـ13 الذين ينتمون إلى نخبة القوات الفرنسية، إذ إن بينهم 12 ضابطا وصف ضابط، تكون فرنسا قد خسرت في مالي وحدها 38 قتيلا يضاف إليهم ثلاثة سقطوا في أماكن أخرى في المنطقة. وينتظر أن يقام لهم في الأيام القليلة القادمة احتفال تكريمي، كما أن الجمعية الوطنية «البرلمان» التزم دقيقة صمت بعد ظهر أمس حدادا وتكريما. ومن بين القتلى، ابن أحد أعضاء مجلس الشيوخ «جان ماري بوكل» وهو طيار لمروحية. ولم ينج أحد من راكبي المروحيتين. وخلال أمس، ركزت عمليات الإنقاذ على استعادة جثث القتلى وتجميع ما أمكن من تسليح المروحيتين اللتين ارتطمتا على ارتفاع منخفض. والغالب أن العواصف الرملية والغبار لعبتا دورا في حصول الحادثة حينما كانت الطوافتان تحلق كل منهما على مسافة قريبة من الأخرى. ولا يخفي المسؤولون الفرنسيون قلقهم من الوضع الأمني في مالي وفي بقية بلدان الساحل رغم الجهود المبذولة، ليس فقط فرنسيا، وإنما أيضا على المستوى الأوروبي والدولي. ذلك أنه إلى جانب قوة «برخان»، توجد في مالي القوة الدولية العاملة تحت علم الأمم المتحدة والمسماة «مينوسما» «القوة الدولية متعددة المهام الخاصة باستقرار مالي» التي تعد الأكبر من بين مهمات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة؛ إذ إنها تضم 13 ألف رجل. وغالبية القوة الساحقة تأتي من الأفارقة أنفسهم وتحديدا من «المجموعة الاقتصادية لبلدان غرب أفريقيا». وهذه القوة المنتشرة منذ عام 2013 خسرت نحو 200 رجل في مالي في عمليات إرهابية. لكن انتشارها في مالي رغم عددها الكبير لا يبدو مؤثرا كثيرا على الوضع الأمني كما أنها لا تحظى بتقدير واحترام السكان بسبب الاتهامات العديدة التي وجهت لبعض وحداتها ومنها الاغتصاب والتحرش. ويضاف إلى القوة الدولية «البعثة الأوروبية لتأهيل الجيش المالي» التي تضم نحو 700 جندي ينتمون إلى 28 بلدا أوروبيا وهم منخرطون في مهماتهم منذ ست سنوات. وعمد الاتحاد الأوروبي إلى تمديد مهمتها في 2018 لعامين إضافيين مع مضاعفة ميزانيتها لتقترب من 60 مليون يورو بسبب توسيع مهماتها لأنها أخذت تشمل تدريب ما يسمى «قوة مجموعة الـ5 في الساحل».
ومنذ عام 2013 وبداية عملياتها في مالي، تدعو فرنسا شركاءها الأوروبيين إلى توفير الدعم لها. وهذا الدعم رغم وجوده بأشكال مختلفة «لوجيستي، مالي - استخباري» لا يبدو كافيا بالنسبة لباريس التي تستفيد أيضا من الدعم الأميركي خصوصا الاستخباري؛ لذا، دفعت باريس باتجاه تشكيل قوة أفريقية مشتركة لبلدان الساحل الخمسة «موريتانيا، ومالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وتشاد». وأسفرت الجهود الفرنسية عن إطلاق قوة «جي 5 ساحل» أواخر عام 2015 والغرض منها التضامن والعمل المشترك في محاربة الإرهاب. لكن هذه القوة لم تنطلق حقيقة حتى اليوم لعدة أسباب أولها فقدان التمويل الكافي وثانيها الحساسيات القائمة بين بعضها. وحتى اليوم، لم تقم تلك القوة إلا بعمليات محدودة للغاية ويسعى الأوروبيون، في إطار بعثتهم المشار إليها سابقا، جاهدين إلى تسهيل العمل المشترك بين أفراد القوة التي تحتاج للتسليح والتمويل والتأطير، وبالتالي فإن خطة نقل مهمة محاربة الإرهاب والمحافظة على استقرار المنطقة إلى الأفارقة أنفسهم تحتاج إلى كثير من الجهود حتى تتحول إلى واقع.
ويطرح هذا الوضع تحديات عديدة على السلطات الفرنسية وأولها التساؤل حول المدة الزمنية التي ستبقى خلالها «برخان» فاعلة في أفريقيا. ذلك أن ستة أعوام لم تكن كافية لجبه التنظيمات الإرهابية، وأهمها «القاعدة» و«داعش» بأسماء مختلفة، إضافة إلى مجموعات أخرى أقل أهمية تدور حولهما. وفي زمن عصر النفقات، تبدو كلفة «برخان» مرتفعة إذ تبلغ سنويا 700 مليون يورو. وثمة قناعة مترسخة قوامها أن مهمة «برخان» ستدوم أيضا لسنوات وسنوات؛ لأن المجموعات الإرهابية توسع عملها في السنوات الأخيرة وسيطرت على مناطق واسعة كما هي الحال في المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو. ولا يمر أسبوع واحد من غير أن تقوم بعمليات إرهابية في هذا البلد أو ذاك.
ولعل أبرز اعتراف بالعجز عن التغلب على الإرهاب في المدى القريب ما جاء على لسان رئيس الأركان الفرنسي الذي أكد أكثر من مرة أن «توفير الأمن على مجرى نهر النيجر الذي يقسم مالي قسمين ويمر في بوركينا فاسو قبل أن يصب في خليج غينيا سيحتاج إلى العديد من السنين ولن يتحقق إلا بتصاعد التعاون مع القوى الشريكة لنا ومع الفاعلين في توفير الاستقرار». تحديات كبيرة تواجهها فرنسا التي بدأت بسحب قواتها من أفغانستان عقب الهجوم الذي استهدفها في أوزبين عام 2008.
لكن أفغانستان شيء وبلدان الساحل شيء آخر؛ إذ لفرنسا مصالح استراتيجية واقتصادية وسياسية كبيرة؛ وهي ملاصقة لبلدان شمال أفريقيا، حيث الملف الليبي يشكل مصدر قلق كبير لفرنسا ولكل الأوروبيين؛ ولذا سيكون من الصعب على أي رئيس فرنسي أن يفكر في الانسحاب من هذه المنطقة وبالتالي سيتعين على باريس أن تضاعف جهودها الدبلوماسية والسياسية والأمنية والعسكرية حتى لا يكون العبء الأكبر من نصيبها وحدها.