غياب المعلومات ونقص المهارات... تحديات تواجه «صحافة البيانات»

مع تطور صناعة الإعلام والصحافة على مستوى العالم، والمنافسة القوية التي تشهدها من جانب وسائل التواصل الاجتماعي، أو ما يسمى بالإعلام الجديد، أصبح الاعتماد على ما يسمى بصحافة العمق أمراً حتمياً، لتحقيق الميزة التنافسية في عصر الانتشار السريع للمعلومات... ومن بين أهم الأدوات الصحافية في هذا المجال، الصحافة المدفوعة بالبيانات أو «صحافة البيانات»، وهي نوع من الصحافة يعتمد على استخدام التكنولوجيا في تحليل قواعد البيانات الضخمة، لتقديم قصص صحافية عميقة.
في كتابه «الحقائق المقدسة» يُعرّف محرر البيانات بشركة «غوغل»، سايمون روجرز، «صحافة البيانات»، بأنها «مجموعة من الأساليب تساعد الصحافيين على تقديم القصة الصحافية في أفضل صورة ممكنة، عبر توظيف قواعد البيانات والأدوات التحليلية». بدأ الاعتماد على التكنولوجيا في الصحافة لتحليل البيانات في أواخر الستينيات، وبداية السبعينيات من القرن الماضي، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية أول مؤسسة على مستوى العالم تتبنى مفهوم «صحافة البيانات»، عندما أطلقت عام 2009، مدونة أطلقت عليها اسم «Data Blog». وذكرت «الغارديان»، في المدونة، أن «(صحافة البيانات) ليست جديدة، وأول تقرير أعدته مدفوعاً بالبيانات كان في مطلع مايو (أيار) عام 1821. عندما أعدت تقريراً صحافياً معتمداً على بيانات المدارس في مانشستر».
ورغم انتشار هذا النوع من الصحافة عالمياً؛ فإن المنطقة العربية ما زالت تخطو خطواتها الأولى في هذا المجال، عبر مبادرات يغلب عليها الطابع الفردي؛ حيث يواجه هذا النوع من الصحافة العديد من التحديات، التي يلخصها العاملون في المجال في غياب المعلومات، ونقص المهارات، ومخاوف من إنتاج غرف الأخبار قصصاً صحافية مدفوعة بالبيانات.
الدكتورة نهى بلعيد، أستاذ الإعلام والاتصال الرقمي بتونس، عضو مجلس إدارة «شبكة صحافيي البيانات العرب»، رئيس تحرير «المرصد العربي» للصحافة، قالت لـ«الشرق الأوسط»، إن «أبرز التحديات التي تواجه (صحافة البيانات) في الوطن العربي، تتمثل في غياب الأدوات اللوجستية المناسبة لممارسة (صحافة البيانات) بمقر الوسيلة الإعلامية مثل الحواسيب، والبرامج المعلوماتية، وعدم وجود مصادر مفتوحة كافية لاستخراج البيانات اللازمة، وصعوبة النفاذ إلى المعلومة بأغلب الدول العربية، إضافة إلى عدم تمكن الصحافيين من المهارات اللازمة لاستخراج البيانات وتحليلها وعرضها».
بينما يرى الصحافي إيهاب الزلاقي، رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة «المصري اليوم» الخاصة بمصر، عضو «شبكة صحافيي البيانات العرب»، أن «التحدي الأكبر الذي يواجه (صحافة البيانات) في الوطن العربي، هو مدى عدم توافر البيانات من مصادرها الأصلية في صورتها الخام». وأضاف: «لا توجد قوانين لحرية تداول المعلومات في كثير من الدول العربية، من بينها مصر».
ووفقاً لاستطلاع أجرته «شبكة صحافيي البيانات العرب» عام 2017، عن «صحافة البيانات» في العالم العربي، شمل 60 صحافياً من 8 دول عربية، فإن «71.9 في المائة من المبحوثين أكدوا صعوبة الحصول على البيانات في بلادهم، بينما وصفها 22.8 في المائة بأنها صعبة جداً، في حين رأى 5.3 في المائة أن الحصول على البيانات في بلادهم أمر سهل». وأشار الاستطلاع إلى أن «هناك 100 دولة حول العالم لديها قوانين تسمح بحرية تداول المعلومات، والحصول على البيانات؛ حيث أقرت الأردن قانوناً لحرية تداول المعلومات عام 2007، وكذا أُقرت قوانين مماثلة في تونس والمغرب عام 2011، وفي اليمن عام 2012»؛ لكن رغم وجود قوانين لحرية المعلومات في بعض الدول العربية، إلا أن 83.1 في المائة ممن شملهم الاستطلاع قالوا إنهم «لم يستخدموا حقهم في الحصول على المعلومات، مقابل 16.9 في المائة فعلوا ذلك».
لكن عمرو العراقي، مؤسس «شبكة صحافيي البيانات العرب»، وموقع «إنفو تايمز»، يرى أن «غياب البيانات معوق غير حقيقي»، مضيفاً أن «هناك الكثير من البيانات الرسمية والحكومية المتاحة، التي يمكن الحصول عليها من مؤسسات دولية، أو مؤسسات مجتمع مدني، أو عبر استطلاعات الرأي، التي تشكل مادة خاماً كافية للبدء في عمل موضوعات صحافية مدفوعة بالبيانات»، ضارباً المثل بالبيانات التي يصدرها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في مصر مثلاً.
وقال العراقي لـ«الشرق الأوسط»، إن «المشكلة هنا ليست في غياب البيانات؛ بل في إقدام الصحافي على الاشتباك مع قواعد البيانات، فبعض الصحافيين يرون أن قصتهم الأولى المدفوعة بالبيانات يجب أن تكون كبيرة على غرار (أوراق بنما)، وبالتالي فهم ينتظرون تسريبات كبيرة، بينما يمكن البدء في عمل قصص جيدة من البيانات المتاحة، التي تساعد في الكشف عن معلومات تساعد صناع القرار، وتفيد المجتمع».
التحدي الثاني الذي يواجه الصحافة المدفوعة بالبيانات هو المهارات؛ حيث يشير استطلاع شبكة صحافيي البيانات العرب إلى «تساوي نسبة من يستخدمون برنامج (الإكسل) مع من لا يستخدمونه من بين المبحوثين، وهي 22 في المائة لكل منهم، في حين يستخدم 20.3 في المائة البرنامج أحياناً»، و«هناك 18.6 في المائة يريدون تعلم استخدام (الإكسل) في تحليل البيانات، و16.9 في المائة يريدون تطوير مهاراتهم في استخدام البرنامج».
بدوره، أكد العراقي أن «برامج تحليل البيانات هي مجرد أدوات، والأهم هو امتلاك الصحافي للمهارات الصحافية، وقدرته على طرح الأسئلة الصحيحة على جداول البيانات، واختيار الموضوعات والربط بين المعلومات»، مضيفاً أن «إتقان برامج متطورة لا يساعد على إنتاج قصص مختلفة؛ بل يقلص الوقت للحصول على الإجابة».
لكن الزلاقي قال إن «صحافة البيانات تحتاج مهارات مختلفة، من بينها الإحصاء، والتعامل مع برنامج (إكسل)، وعمل تصورات بصرية لعرض البيانات... فطريقة العرض جزء أساسي من نجاح القصة، وهنا تبرز أهمية الاهتمام بتدريب الصحافيين».
وهو ما تؤكده نهى بلعيد بقولها إن «تدريب الصحافيين ومدرسي الإعلام بصفة مستمرة، وإضافة مادة (صحافة البيانات) إلى برنامج الصحافة بالجامعات، ونشر دراسات وكتب حول (صحافة البيانات)، وتنظيم لقاءات مع خبراء دوليين بصفة مستمرة، هو السبيل لتطوير الأداء الصحافي العربي في هذا المجال».
ووفقاً لاستطلاع «شبكة صحافيي البيانات»، فإن «55.9 في المائة من المبحوثين قالوا إن البيانات تصلهم في صورة ملفات (بي دي إف)، بينما قال 22 في المائة إنهم يتلقون البيانات في صورة ملفات (وُرد)، و20.3 في المائة يتلقونها في صورة ملفات (إكسل)، بينما يحصل الباقي وهم نحو 1.7 في المائة على البيانات في شكل صور».
ويشير الزلاقي إلى أن «المؤسسات الصحافية في العالم أصبحت توظف فرق عمل لإنتاج قصص مدفوعة بالبيانات، تضم مبرمجين ومحللي بيانات ومصممين، وهذا تحدٍ آخر يواجه الصحافة في الوطن العربي».
وتقول نهى إنه «من الصعب الحديث اليوم عن وجود فريق كامل لـ(صحافة البيانات) بمؤسسة إعلامية عربية؛ لكن وجود صحافي على الأقل بهذه المؤسسة، هو دليل على أن (صحافة البيانات) في طور الانتشار، كما أن بعض الجامعات أصبحت تدرس هذا النوع الصحافي كمادة ضمن البرنامج التدريسي، ما ساهم في نشأة جيل جديد من طلاب الإعلام، خلال السنتين الأخيرتين، الذين لديهم مهارات متطورة في هذا الاختصاص».
ويرى العراقي أن «التحدي الأكبر الذي يواجه الصحافة المدفوعة بالبيانات هو رغبة غرف الأخبار والمؤسسات الصحافية في إنتاج صحافة جيدة، وقدرتها على خوض غمار المخاطرة، وإنتاج قصص عميقة، قد يراها البعض مزعجة، أو تتسبب في مشكلات تتعلق بالأمن القومي... إضافة إلى أن غرف الأخبار تعامل الصحافي بالإنتاج، وتركز على الخبر، رغم أنه اندثر، وبالتالي فهي لا تتيح له استثمار شهر من وقته لإنتاج قصة مدفوعة بالبيانات».
و«رغم أهمية صحافة البيانات في مساعدة صانع القرار؛ إلا أن الوضع المجتمعي، يجعل العمل في صحافة تعمل في العمق، أمراً يحتاج إلى حسابات خاصة، فبعض الموضوعات، قد لا تجد قبولاً سياسيا»، حسب الزلاقي.
وما زالت التجارب العربية في صحافة البيانات محدودة بسبب التحديات والمشكلات التي تواجهها. وترى نهى بلعيد أن «(صحافة البيانات) في طور التطور والانتشار بتونس ومصر ولبنان وبقية الدول العربية، بفضل جهود صحافيين مدربين يعملون على نشر المعرفة، ويبقى على الصحافي أن يطور مهاراته من ناحية، ويقنع مديره بالعمل بأهمية صحافة البيانات».
ومن بين الأمثلة العربية في «صحافة البيانات»، موقع «إنكفاضة» التونسي، وإن كان يركز أكثر على الصحافة الاستقصائية، حسب عمرو العراقي؛ لكن إيهاب الزلاقي يرى بدوره، أن «هناك ارتباطاً وثيقاً بين (صحافة البيانات) والصحافة الاستقصائية»، وإن كان يعتبر أن «التجارب العربية في (صحافة البيانات) تجارب ضعيفة، ومعظمها بدأت من مصر».
وفي دراسة أعدها الصحافيون التونسيون صابر الفريحة، وهلي البهلول، ومحمد بسام بوشعالة، تحت عنوان «تطور صحافة البيانات في تونس والعالم العربي»، وصفوا تجربة الصحافة المدفوعة بالبيانات في الوطن العربي بأنها «تجربة محتشمة ما زالت تلتمس خطواتها الأولى». وقالوا إن «التجربة المصرية، تحديداً موقع (إنفو تايمز)، تعد التجربة الرائدة في الشرق الأوسط»، لافتين إلى «تجربة مصرية أخرى من خلال موقع (Open MEN)، إضافة إلى موقع (خلاصة) في اليمن». أما تونس، فقالت الدراسة إنه «لا يمكن الحديث عن تجربة تونسية مستقلة بذاتها في مجال (صحافة البيانات)»، مشيرين إلى أن «موقع (إنكفاضة) باعتباره موقعاً للصحافة الاستقصائية، يقدم بعض التقارير التي تحتوي على رسوم بيانية».
وتعتبر تجربة «بيانات بوكس» على «فيسبوك» من أبرز تجارب «صحافة البيانات» في لبنان، وهو مشروع أطلقته منظمة «حلول الأهلية» في لبنان، ويعرض الموضوعات الاجتماعية والاقتصادية في صورة رسوم بيانية و«إنفوغراف»... وفي الأردن تقتصر «صحافة البيانات» على المبادرات الفردية، والدورات التدريبية التي ينظمها «معهد الإعلام الأردني».