«رحَّالة»... تآزر الوثيقة التاريخية مع الخيال

ترجمة عربية لرواية البولونية أولغا توكارتشوك الحائزة نوبل للآداب 2018

أولغا توكارتشوك
أولغا توكارتشوك
TT

«رحَّالة»... تآزر الوثيقة التاريخية مع الخيال

أولغا توكارتشوك
أولغا توكارتشوك

صدرت عن «دار التكوين»، في بيروت، رواية «رحَّالة»، للكاتبة البولندية أولغا توكارتشوك، ترجمة إيهاب عبد الحميد الذي أفلح في التقاط المعنى المجازي لعنوان الرواية بوصفه «عَتَبَة نصيّة» تُمهّد للقارئ الولوج الصحيح إلى الفضاء السردي البعيد عن المعاني الحقيقية لـ«الرحلات الجوية» التي لا تقصدها الروائية، وإنما تذهب أبعد من ذلك، لتناقش فلسفة التنقّل عبر ثنائية الحركة والسكون، والوعي واللاوعي، والحياة والموت.
ولا يُعدّ هذا النص السردي رواية بالمعنى التقليدي، فهو لا يتوفر على الحبكة، ويفتقر إلى الشخصيات التي تُهيمن على المسارات السردية، ولا يعالج ثيمة محددة، فهو خليط من أفكار وشطحات كثيرة تنتظم في 116 فصلاً، يتألف بعضها من جملة طويلة واحدة، فيما يمتدّ البعض الآخر إلى 31 صفحة. وهذه الفصول برمتها تُروى من قبل ساردة عليمة قد تتقنّع بقناع المؤلفة نفسها، أو تحمل القسم الأكبر من رؤاها وقناعاتها الفكرية والثقافية. إذن، نحن أمام رواية متشظيّة (Fragmentary Novel) تتألف من مقالات قصيرة أو مذكرات أو نصوص سردية أو وثائق تاريخية أو خيال مجنّح مُفعَم بالحيوية والجاذبية والسحر، ذلك لأن توكارتشوك قد بدأت حياتها الأدبية شاعرة، قبل أن تنتقل لكتابة القصة والرواية، وتتفرغ لهما كلياً.
ويُفيدنا الفصل الاستهلالي بأنّ أول رحلة قامت بها الراوية في حياتها كانت عبر الحقول سيراً على الأقدام، الأمر الذي يكشف أهمية الحركة التي ورثتها عن أبويها اللذين كانا يتحركان من مكان إلى آخر، ولا يحبذّان الاستقرار مطلقاً. ونتيجة لهذا التجوال المتواصل، فقد اكتسبت الراوية مهارات الاستدلال المكاني، خصوصاً أنها تمتلك ذاكرة فوتوغرافية تنطبع فيها ملامح البنايات والأمكنة والأشخاص، كما أنها درست علم النفس، وتعلّمت الكتابة في القطارات والفنادق وقاعات الانتظار، ورغم قناعتها بأنّ الكتب الإرشادية تتقادم بسرعة ما عدا كتابي «غرب التنوير» لبندكت شميلوفسكي و«موبي ديك» لملفيل.
ولا تعْلق جميع الحكايات في ذهن القارئ، فمنها ما يمرّ مرور الكرام، مثل حكاية السيدة ياسمين التي تشجع الناس في بلدها على الكتابة، ومنها ما يُنقش على شاشة الذاكرة، مثل حكاية الطبيب الهولندي فيليب فيرهاين الذي قام بتشريح ساقه المبتورة، أو حكاية جوزفين سليمان التي تطلب من ملك النمسا أن تدفن أبيها المحنط بطريقة مسيحية تليق به، أو حكاية لودفيكا التي قامت بنقل قلب شقيقها المحنط سراً إلى وارسو، إضافة إلى قصص أخرى بعضها ممتع، وبعضها الآخر مستفز، لكنّ القصص والحكايات برمتها لها وظيفة سردية تتجاوز حدود الإمتاع إلى الفائدة، كما أنها تهز المتلقي من الأعماق.
فمن بين الالتماعات الطريفة الشذرات التي نقرأها على أغلفة الفُوَط الصحيّة، من قبيل أقصر حرب في التاريخ بين زنجبار وإنجلترا عام 1896م التي استمرت 38 دقيقة، أو أقوى عضلة في الجسم هي اللسان؛ معلومات على شكل ومضات تُدهشك قليلاً، ثم تتوارى بسرعة البرق الخاطف، لكن هناك معلومات تستفز الذاكرة وتعلق بها، ومن بينها إصلاحات أتاتورك في العشرينات، هذا الرجل الذي أراد أن يحوّل تركيا إلى بلد متحضر، لكنه لم يلتفت إلى الجوانب الإنسانية، إذ سمح لقواته الخاصة أن تقبض على آلاف الكلاب الضالة وتنقلها إلى جزيرة قاحلة، وبعد عدة أيام بدأت الكلاب يفترس بعضها بعضاً، ولم ينجُ منها الكلب الأخير الذي نفق من الجوع والعطش الشديدين.
وتنطوي رسالة جوزفين سليمان الثاني التي وجهتها إلى فرانسيس الأول على حكاية مأساوية، مفادها أن أباها المحنّط بأمر من جلالة الملك يُعرض أمام العيون الفضولية في «خِزانة الأعاجيب» الخاصة بالأمير، وتطالب بدفن أبيها بطريقة مسيحية لائقة، لا أن يظل رُفاته المحنّط رفقة الأجنّة والعلاجيم التي تسبح في الكحول، وهي تؤمن كامرأة كاثوليكية أنّ والدها الراحل لن يُبعث من دون جسده يوم الدينونة. ربما يكون تشريح المرأة الشابة هي الحكاية الصادمة التي تسبب فزعاً للمتلقي وهو يتخيّل مشرط الجرّاح يفتح جسدها المكتمل بضربة واحدة لكي يُرينا الطريقة التي صنعتنا بها يدُ الخالق. ثم يواصل الحكاية، فنفهم أن هذا الجسد الذي كان راقداً في ثلاجة الموتى عمره سنتان، وأن صاحبته قد شُنقت بدلالة الأثر الأفقي الذي يظهر على رقبتها، ثم انتقل من الجهاز الهضمي إلى القلب، مُذكراً بأن البشر لا يستأثرون بالخلود مثل الآلهة. وفي أثناء التشريح، نسمعُ همساً يدور بين الراوية وعمّها الذي يؤكد أن الضحية قد قتلت طفلها الوحيد، وأنها كانت مومساً.
ولا يقتصر الانتحار على الإنسان فحسب، بل يتعداه إلى بعض الحيوانات، وربما تكون حكاية الحوت الذي جنح إلى الشاطئ الأسترالي خير مثال لما نذهب إليه، وهكذا تمضي الحكاية، لنُدرك أنّ الحوت يستغرق بضعة أيام لكي يموت، وأنّ مخ الإنسان لا يختلف كثيراً عن مخ الحوت.
ويشتمل النص السردي على أكثر من عائلة، بعضها يظهر ويتلاشى ما إن تنتهي حكايته، لكن البعض الآخر يعاود الظهور ثانية مثل عائلة كونيكي، وزوجته وابنه اللذين اختفيا في جزيرة «فيس» لـ49 ساعة، وعندما بدأ الابن يعاني من اضطرابات في النوم أخذه إلى طبيبة نفسانية، وطلب منها أن تنوّمه مغناطيسياً، وتعرف ماذا حصل له بالضبط في تلك الساعات.
لا يمكن الإحاطة بكل القصص والحكايات التي وردت في متن هذه الرواية المتشظية التي تَمثلتها لجنة تحكيم جائزة «نوبل» طويلاً، وقالت إنه «الخيال السردي الذي يصوّر بشغفٍ موسوعي عبور الحدود بصفته شكلاً من أشكال الحياة»، أي أن أعضاء اللجنة، أو بعضهم في الأقل، قد انتبه إلى ثنائية الإقامة والرحيل، وهذا هو جوهر الرواية العميق وروحها النابضة، وقد أعلن القساوسة في الكنائس الدنماركية: «إن منْ يشاركون في الحملات الاستكشافية للقطب الشمالي سوف يضمنون عملياً الخلاص لأرواحهم»، وكأنّ النجاة أو النهاية السعيدة مقرونة بالحركة، ولهذا السبب فإن الطُغاة يكرهون الرّحالة، سواء أكانوا غجراً أم بدواً متنقّلين، ولذلك يريدون إبطال حركة الزمن. وبما أنّ الكاتبة تميل إلى المنحى الفلسفي، كما أسلفنا، فلا غرابة أن تضعنا في قلب العاصفة الفكرية، فتصفنا جميعاً بأننا «مثل السلحْفاة في مفارقة زينو، لا نتجه إلى أي مكان، وإنما نتسكع في داخل لحظة ما لا تنتهي».
تخلص الكاتبة إلى القول إننا نكتب بعضنا بعضاً في أثناء تجوالنا المتواصل، وعندما «نتوقف عن الترحال، نصبح أصناماً» مسمّرين: و«منْ يتوقف، يُصبح مثل حشرة مثبّتة بدبّوس، يخترق قلبه مسمار خشبي، تثقب أقدامه ويداه، ويتم ربطه بالسقف وعتبة البيت». ووفق هذه الرؤية، ينبغي التأمل في ثنائية الإقامة والاغتراب، من دون أن ننسى علم نفس السفر الذي يدرس المعاني المجازية للأماكن التي يمرّ بها الكائن البشري الذي يترفّع عن الصغائر، ويتوغل في أسئلة الكون الكبرى، عسى أن يجد فيها بعض الإجابات المُقنعة أو التطمينات التي تخفّف عنه وطأة الحياة التي لا تخلو من المشقّة الفكرية والقلق الوجودي.
جدير بالذكر أن توكارتشوك قد أصدرت حتى الآن 16 كتاباً، أبرزها: «منزل النهار.. منزل الليل»، و«الخِزانة»، و«كتب يعقوب»، و«سِرْ بمحراثك على عظام الموتى»، وغيرها من الروايات التي تجاوزت حدودها المحلية، لتصبح جزءاً حيوياً من الثقافة العالمية.


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».