صباح الخالد... رجل المرحلة لمكافحة الفساد الذي «لا تحمله الجمال»

رئيس وزراء الكويت الجديد أمضى 40 سنة في العمل الدبلوماسي والسياسي

صباح الخالد... رجل المرحلة  لمكافحة الفساد الذي «لا تحمله الجمال»
TT

صباح الخالد... رجل المرحلة لمكافحة الفساد الذي «لا تحمله الجمال»

صباح الخالد... رجل المرحلة  لمكافحة الفساد الذي «لا تحمله الجمال»

أعلن أخيراً في العاصمة الكويتية عن تعيين الشيخ صباح الأحمد الصباح أمير دولة الكويت، الشيخ صباح الخالد الصباح نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية، رئيساً جديداً للحكومة. ورئيس الحكومة الجديد سياسي مخضرم تقلب في المسؤوليات الوزارية منذ فترة غير قصيرة، وهو معروف بحضوره الكبير على المستويين العربي والدولي. في حين ينظر إليه المتابعون والمحللون داخل الكويت بأنه، لما له من مزايا كالحزم والعمل الصامت، سيكون «رجل المرحلة» المولج بمكافحة ظاهرة الفساد، وكذلك، إراحة الوسط السياسي من التجاذبات التي وترت الساحة الكويتية خلال الأشهر الماضي.

يتميز الشيخ صباح الخالد الحمد الصباح، الذي دخل أخيراً «نادي رؤساء الحكومات في الكويت» كثامن شخصية تتولى منصب رئيس الوزراء منذ عام 1962، بإدارة محافظة وبشخصية كتومة وقليل الكلام.
صباح الخالد، سياسي مخضرم أمضى أكثر من 40 سنة في العمل السياسي والدبلوماسي، يعي جيداً موقع الكويت في الخارطة الإقليمية والدولية. وهو يدرك تماماً أن الكويت تقع في مرمى العواصف الإقليمية، وتتأثر بالصراعات في منطقة الخليج. كذلك يتذكر، وتذكر معه الكويتيون جميعاً، أن البلاد دفعت ثمناً باهظاً نتيجة وقوعها كدولة ثرية وصغيرة في مرمى الدول المحيطة، ولعل أبرز مثال على ذلك تهديدات العراق بضم الكويت في الستينات، واجتياحها بالكامل وتشريد أهلها في عام 1990. وهذا، بطبيعة الحال، دون أن ننسى المناخ الخليجي المتوتر بفعل تنامي الطموحات الإيرانية الإقليمية وتمدداتها في المشرق العربي.
هذا الموقع يمثل تحدياً لراسمي السياسة الخارجية في الكويت، الذين يحرصون على بناء علاقات متوازنة، تحفظ أولاً انتماءهم الخليجي، ثم وضعهم الإقليمي، وتحرص أيضا على بناء «شبكة أمان» دولية تحمي الإمارة الخليجية الصغيرة من التقلبات السياسية العاصفة.
قد لا يختلف اثنان على أن أولى مهام رئيس الوزراء الجديد معالجة ملف الفساد، الذي بلغ ذروته في التراشق الأخير بين أقطاب الحكومة. وهؤلاء هم أيضاً أقطاب بارزون في الأسرة الحاكمة، خاصّة، بعدما اتهم وزير الدفاع في الحكومة المستقيلة الشيخ ناصر صباح الأحمد زميله في الحكومة وزير الداخلية الشيخ خالد الجراح الصباح بتجاوزات مالية. وكشف عما وُصفت بأنها وثائق تظهر الاستيلاء على نحو 800 مليون دولار أميركي من صندوق لمساعدة العسكريين، عندما كان الجراح وزيرا للدفاع. كذلك ذكر الشيخ ناصر أنه أبلغ رئيس الوزراء (المستقيل الآن) جابر المبارك الصباح بهذه التجاوزات وطلب منه تشكيل لجنة للتحقيق منذ سبعة أشهر، إلا أن الشيخ جابر لم يقم بالرد عليه، الأمر الذي جعل الشيخ ناصر يحول القضية إلى النائب العام.
من جانبه، قال رئيس الوزراء السابق جابر المبارك، الذي ترأس ست حكومات في الكويت، بأنه يعتذر عن تشكيل الحكومة بعدما واجه «افتراءات وادعاءات»، ومن ثم أردف «أجد من الواجب علي أولاً أن أثبت براءتي وبراءة ذمّتي».

النشأة والخلفية
الشيخ صباح خالد الحمد الصباح، من مواليد 1953 في العاصمة الكويتية الكويت. ونشأ وترعرع فيها، وأنهى دراسته الجامعية بحصوله على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة الكويت عام 1977.
كانت وزارة الخارجية هي الميدان الأول الذي احتضن صباح الخالد كأول وظيفة له بعد تخرّجه في الجامعة، في ظل عميد الدبلوماسيين العرب الأمير الحالي الشيخ صباح الأحمد. إذ أنه التحق بوزارة الخارجية عام 1978 بدرجة مُلحق دبلوماسي، وعمل في الإدارة السياسية بقسم الشؤون العربية في الوزارة خلال الفترة بين 1978 إلى 1983. ثم عمل مع وفد الكويت الدائم لدى الأمم المتحدة بنيويورك خلال الفترة من 1983 إلى 1989.
في أعقاب تلك المرحلة، أسند إلى الشيخ صباح منصب نائب مدير إدارة الوطن العربي في وزارة الخارجية خلال الفترة من 1989 إلى 1992. وأصبح مديرا لإدارة مكتب وكيل وزارة الخارجية خلال الفترة من 1992 إلى 1995.
وبعدها عيّن سفيراً للكويت لدى المملكة العربية السعودية ومندوبا للكويت لدى منظمة المؤتمر الإسلامي من 1995 إلى 1998. وحصل على وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى عام 1998.
خلال نحو عشر سنوات انقطع رئيس الوزراء الكويتي الجديد عن العمل في الخارجية، إذ عيّن رئيساً لجهاز الأمن الوطني بدرجة وزير عام 1998. ثم أسند إليه منصب وزير الشؤون الاجتماعية والعمل في يوليو (تموز) 2006 ومارس 2007، ثم عيّن وزيرا للإعلام في مايو (أيار) 2008، ويناير (كانون الثاني) 2009. قبل أن يعود مجدداً إلى الحكومة ويتسلم حقيبة وزارة الخارجية عام 2011. بعدها، في فبراير (شباط) 2012، عُيّن نائباً لرئيس مجلس الوزراء وزيراً للخارجية ووزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء، وأعيد تعيينه في ديسمبر (كانون الأول) 2012، ويوليو (تموز) 2013. ومجدداً عيّن نائباً لرئيس مجلس الوزراء وزيراً للخارجية، وكذلك في يناير (كانون الثاني) 2014. وتكرر تعيينه نائبا لرئيس مجلس الوزراء وزيرا للخارجية. وفي ديسمبر (كانون الأول) (كانون الأول) 2016 واستمر في المنصبين حتى استقالة حكومة الشيخ جابر المبارك، وتكليفه بتشكيل الحكومة الجديد في وقت سابق من الأسبوع.

الدبلوماسية الكويتية: شبكة أمان
في الحقيقة، علاقات الكويت الخليجية هي مدماك أمنها القومي، كما يجمع المحلِّلون وكبار الساسة الكويتيون. وهنا تحتل مكانة خاصة العلاقة مع المملكة العربية السعودية التي هبّت في 1990 لإدارة أكبر عملية عسكرية شهدتها المنطقة والشرق الأوسط، من أجل تحرير البلاد ودحر الاحتلال العراقي وإعادة الشرعية إلى نصابها.
كذلك سعت الكويت لعلاقات متوازنة مع العراق الجديد، واستضافت في فبراير (شباط) 2018 مؤتمر إعمار العراق، وهو المؤتمر الذي اجتذب أكثر من 76 دولة وأكثر من 2100 شركة تمثل القطاع الخاص من مختلف دول العالم للمشاركة في خطط إعمار العراق، بعد دحر تنظيم داعش الإرهابي.
ورأى المراقبون، في حينه، أن الخطوة الكويتية اجتذبت احترام العالم، كونها مثلت تعبيراً رمزياً عن طي صفحة الماضي، ولعب دور فاعل في ترسيخ الاستقرار الإقليمي ومنع عودة التوتر إلى المنطقة.
وعلى الصعيد الدولي، افتتحت الكويت في 24 يناير (كانون الثاني) 2017 المركز الإقليمي لمنظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) و«مبادرة إسطنبول للتعاون»، وذلك عندما أطلق «ناتو» من الكويت شراكة مع دول الخليج للتصدي للإرهاب.
ومن ثم، ظلّت علاقات الكويت القائمة على حفظ التوازن الإقليمي ومنع التدخلات الأجنبية، وتقديم حزم المساعدات المتكررة للدول الأقل نمواً وسيلة لإمداد البلاد بشبكة أمان دبلوماسي.
وفي حوارٍ له حدد الشيخ صباح الخالد الحمد الصباح، عندما كان يتولى حقيبة وزارة الخارجية، ملامح المكانة الدولية والتاريخية لدولة الكويت بالقول: «لا توجد دولة بمنأى عن المخاطر والتهديدات والتحديات من حولها، والدول الإقليمية هي دول مؤثرة ومتأثرة أيضاً بهذا المخاض». وأضاف «وسط هذه المخاض الدولي والإقليمي تختار الأمم المتحدة تكريم أمير البلاد كقائد للعمل الإنساني، لتؤكد مكانة الكويت كمركز للعمل الإنساني»». ومما يُذكر في هذا السياق أن الصندوق الكويتي للتنمية قدم 7.18 مليار دولار أميركي لـ105 دول حول العالم.

قضية الفساد

من جهة ثانية، على صعيد مكافحة الفساد، تنسب للأمير الشيخ صباح الأحمد، عبارة قالها حين كان رئيساً للوزراء، هي «فساد البلدية ما تشيله البعارين»، أي أن حجم الفساد في بلدية الكويت، لا تقوى على حمله الجِمال. هذه عبارة تختصر حجم المعاناة من تفشي ظاهرة الفساد في بلد ثري لكنه يشهد تراجعاً واضحاً في موقعه المالي سنة بعد سنة، مع تآكل أصول الصندوق السيادي. وللعلم، في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أصدر ديوان المحاسبة الكويتي تحذيراً من استنزاف احتياطيات الدولة التي قدّرها بـ75 مليار دولار، وقال الديوان في تقرير بأن أصول صندوق الاحتياطي العام تراجعت 5.4 في المائة إلى 22.88 مليار دينار كويتي (75.45 مليار دولار) في الربع الثاني من 2019.
وفي السياق ذاته، تضمنت آخر ميزانية للدولة، التي أقرها مجلس الأمة الكويتي (البرلمان)، في بداية يوليو (تموز) 2019 عجزاً يُتوقع أن يبلغ 22 مليار دولار، إذ قُدّرت الإيرادات في موازنة 2019 – 2020 بنحو 53 مليار دولار، والنفقات بنحو 74 مليار دولار. ويوازي العجز المتوقع في هذه الموازنة نحو 15.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وهذه السنة الخامسة على التوالي التي تشهد فيها موازنة الدولة الخليجية عجزاً في موازنتها.
ما يستحق الإشارة أن الكويت أحرزت العام الماضي تقدّماً مقداره 7 مراكز في مؤشر مدركات الفساد وفق تقرير «منظمة الشفافية الدولية» للعام 2018، حيث احتلت الكويت المركز 78 بعدما كانت في المركز الـ85 من أصل 180 دولة مدرجة في المؤشر العام 2017. وفي العام (2017) تخلفت الكويت 10 مراكز أخرى إلى المركز 85، محققة 39 نقطة من أصل 100. لتصبح الخامسة في مستوى الفساد على نطاق دول الخليج، والثانية على المستوى العربي، وذلك أيضاً وفقاً لتقرير «منظمة الشفافية الدولية» الصادر في 22 فبراير- شباط 2018. وكان تقرير «الشال» الاقتصادي، قد أشار إلى أنه في عام 2016. تخلفت الكويت 20 مركزاً على مؤشر مدركات الفساد، من المركز الـ55 إلى المركز الـ75.
على صعيد متصل، بحسب تقارير إعلامية، توجد في الكويت اليوم 42 ألف قضية خاصة لسرقات المال العام. وقبل أن يفجّر وزير الدفاع السابق قضية (صندوق الجيش) وصفقة اليوروفايتر، مرّت عشرات القضايا الكبيرة التي لم تحسم بعد، أبرزها قضية الناقلات وقضية هاليبرتون، والجدل بشأن مصفاة فيتنام، وصندوق الاستثمارات في إسبانيا، وقضية داو كميكال، ثم قضية التأمينات، وقضية ضيافة الداخلية، مروراً بالجدل بشأن قضايا تنموية مثل المطار ومشروع استاد جابر... وغيرها.
وللعلم، كان رئيس مجلس الوزراء السابق الشيخ جابر المبارك الصباح قد عبّر صراحة عن صدمته و«استيائه» من تراجع مركز الكويت في مؤشر مدركات الفساد العالمي لعام 2017. «نظراً لما يمثله هذا الأمر من إساءة لمكانة الكويت وسمعتها»، حسبما قال.
ومن أجل معالجة هذا الوضع، قرر مجلس الوزراء الكويتي تشكيل لجنة برئاسة الهيئة العامة لمكافحة الفساد، بعضوية ممثلين عن وزارة الخارجية، ووزارة المالية، ووزارة العدل، ووزارة الشؤون الاجتماعية، ووزارة التجارة والصناعة، ووزارة الإعلام، وكذلك، الأمانة العامة للمجلس الأعلى للتخطيط والتنمية، والجهاز المركزي للمناقصات العامة، ووحدة التحريات المالية والجهات الأخرى ذات الصلة. وستتولى هذه اللجنة «مراجعة تلك المؤشرات وإعداد الآليات والتدابير اللازمة لتعديل ترتيب دولة الكويت على مؤشر مدركات الفساد العالمي، وفق معايير الشفافية والنزاهة واحترام القانون والحريات».

الكويت في سطور

> دولة الكويت، تحتل رقعة أرض تبلغ مساحتها 17818 كيلومترا مربعاً في الجهة الغربية عند أقصى شمال الخليج العربي، وتحدها شمالاً وغرباً العراق، وجنوباً وغرباً المملكة العربية السعودية، وشرقاً الخليج العربي، وتقابل ساحلها عدة جزر أهمها فيلكا وبوبيان.
> استقلت الكويت رسمياً عام 1961 في عهد أميرها الشيخ عبد الله السالم الصباح، ويقدّر عدد سكانها اليوم بأكثر من 4 ملايين و600 ألف نسمة نحو 75 في المائة منهم مسلمون.
> تعاقب على حكم الكويت من آل الصباح منذ مطلع القرن الـ20 كل من: الشيخ مبارك (الكبير) الصباح (1896 – 1915)، ثم الشيخ جابر المبارك -الابن الأكبر للشيخ مبارك- (1915 – 1917)، فالشيخ سالم المبارك -الابن الأصغر للشيخ مبارك- (1917 – 1921)، الشيخ أحمد الجابر -ابن الشيخ جابر المبارك- (1921 – 1951)، الشيخ عبد الله السالم - ابن الشيخ سالم- (1951 – 1965)، الشيخ صباح السالم -أخو الشيخ عبد الله السالم- (1965 – 1977)، الشيخ جابر الأحمد -ابن الشيخ أحمد الجابر- (1977 – 2006)، الشيخ سعد العبد الله السالم -ابن الشيخ عبد الله السالم- (2006)، الشيخ صباح الأحمد -ابن الشيخ أحمد الجابر وأخو الشيخ جابر الأحمد- (منذ 2006 وحتى الآن).
> يتركز معظم سكان الكويت في العاصمة الكويت وضواحيها من الجهراء غرباً إلى الفحيحيل جنوباً.
> يقدر الناتج القومي الإجمالي-القدرة الشرائية (2018) بنحو 303 مليارات دولار أميركي، ومعدل دخل الفرد نحو 70 ألف دولار.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.