أسرة راجاباكسا تعود إلى حكم سريلانكا

أمام خلفية تحديات الداخل والتنافس الصيني الهندي في جنوب آسيا

أسرة راجاباكسا تعود إلى حكم سريلانكا
TT

أسرة راجاباكسا تعود إلى حكم سريلانكا

أسرة راجاباكسا تعود إلى حكم سريلانكا

فاز القائد العسكري الأسبق ووزير الدفاع السابق غوتابايا راجاباكسا في الانتخابات الرئاسية بجمهورية سريلانكا، متغلباً على منافسه ساجيث بريمداسا، مرشح الحزب الوطني المتحد المحافظ، بفارق يزيد على 10 في المائة من مجموع أصوات الناخبين.
راجاباكسا، وهو الشقيق الأصغر للرئيس الأسبق ماهيندا راجاباكسا، كان مرشح حزب «جبهة الشعب السري لانكية»، ولقد اجتذب أصوات الغالبية العرقية الدينية السنهالية في البلاد بجانب تأييد رجال الدين البوذيين الأقوياء. وبعد هذا الفوز أسند الرئيس المنتخب رئاسة الحكومة إلى شقيقه الرئيس الأسبق.
وللعلم، تشكل الأغلبية السنهالية نحو 74.9 في المائة من سكان سريلانكا. في حين تشكل أقلية التاميل - وهم هندوس - أكبر أقليات البلاد من حيث العدد بنحو 11.1 في المائة من تعداد السكان. ويشكل التاميل الهنود طائفة عرقية متميزة بنسبة 4.1 في المائة من سكان سريلانكا. بالإضافة إلى ذلك، تضم الجزيرة نحو 1.97 مليون مواطن من المسلمين، أو ما يمثل نسبة 5 في المائة من تعداد السكان.

حصلت سريلانكا هذا الأسبوع على أول حكومة يديرها شقيقان عندما قرر الرئيس المنتخب - قبل أيام - غوتابايا راجاباكسا تعيين شقيقه الأكبر والرئيس الأسبق للبلاد ماهيندا في منصب رئيس الوزراء البلاد، ما سيعزز قبضة الأسرة على حكم البلاد. كذلك صدرت قرارات رئاسية بتعيين عدد من أفراد الأسرة في مختلف المناصب على رأس المؤسسات الرئيسية في البلاد مثل شركات الطيران الوطنية، والمؤسسات الحكومية. كما جرى تعيين الأقارب الموثوق في ولائهم في المناصب الدبلوماسية الرفيعة في مختلف العواصم الأجنبية.
الاستقطاب السياسي
في الحقيقة، ما كان فوز غوتابايا راجاباكسا الحاسم مفاجئاً، مع أنه شكل صدمة قوية في وجه الليبراليين في العاصمة كولومبو، لكونه يشكل نظام الحكم الأكثر استقطابا من الناحية الإثنية في سريلانكا. ذلك أنه بينما حظي انتخاب الرئيس الجديد بترحاب كبير من جانب الغالبية السنهالية لم تكن الأقليتان التاميلية والمسلمة في حالة مزاجية تسمح لهما بالاحتفال أو الابتهاج. وهنا تقول الكاتبة الصحافية سودها تشانديران موضحة: «ينسجم فوزه الانتخابي مع السرد الشائع إزاء بلدان الجنوب الآسيوي التي تتحول على نحو تدريجي باتجاه الديمقراطية غير الليبرالية».
المعروف على نطاق واسع أن غوتابايا راجاباكسا كان اليد اليمني لشقيقه، منفذا إزاء ما يصفه أنصاره ومؤيدوه بأنها قضايا الحكم الرئيسية التي تعصف بالأوضاع السياسية في البلاد، مثل الإرهاب، والأوضاع الأمنية الداخلية المتفقدة للاستقرار، والمشاكل الاقتصادية المتفاقمة.
ومن جانبها، ترى الصحافية لاكشمي سوبرامانيوم أنه كان «يلعب على أوتار المخاوف التي تؤرق الناس في أعقاب الهجمات الإرهابية المريعة إبان عيد الفصح السابق في أجزاء من العاصمة كولومبو وفي شرق سريلانكا كذلك. ويومذاك قال إن حكومته ستتعامل مع تلك القضايا الأمنية بكل حزم وقوة. وحقاً لقد أطلق عليه أفراد من عائلته وكوادر حزب جبهة الشعب السري لانكية لقب (المدمّر) إثر بدء سريان الحملة الأمنية العدائية. وكانت الحملة تركز بالأساس على الملفات الأمنية، بعدما قامت إحدى الجماعات الإرهابية المدعومة من تنظيم (داعش) الإرهابي بتنفيذ الهجمات الدموية يوم عيد الفصح خلال العام الحالي في سريلانكا».
وتابعت: «لقد يسرت كل هذه الظروف الأوضاع في سريلانكا لإحياء المشاعر السنهالية القومية البوذية القديمة التي طالما لعبت دور الملاذ الآمن الأخير بالنسبة للسواد الأعظم من الطائفة السنهالية في الدولة - الجزيرة على مدار تاريخها، إثر الاستفادة القصوى والذكية من الفشل الاستخباري الذي أسفر عن وقوع هجمات أحد الفصح في البلاد».
أما الصحافي بونسارا أماراسينغي، فرأى في فوز راجاباكسا في الانتخابات الرئاسية مثيلاً عرقياً دينياً شعبوياً لفوز رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الذي حقق زعامته السياسية بفضل تصويت الغالبية الهندوسية له. وأردف: «جاءت فترة الولاية الثانية لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في وقت سابق من العام الحالي نتيجة مباشرة لارتفاع النزعة القومية الهندوسية في أفضل أحوالها. وأسفر التصاعد الأخير للنزعات القومية في جميع أنحاء العالم في الآونة الأخيرة عن إثارة المخاوف الحقيقية مجددا بشأن إعادة الفكرة القديمة بالحكومات السيادية المرتكزة على المشاعر القومية الراسخة».

مزيد من الشعبوية السنهالية

ويساور الكثيرون حالياً القلق من أن راجاباكسا والقوميين السنهاليين، سيعملون من دون كلل أو ملل على تنشيط الحملات الداخلية المعادية للأقلية المسلمة مع زيادة عزلة أقليات التاميل في البلاد. فما الذي يعنيه عودة عائلة راجاباكسا للسلطة في البلاد من زاوية التوترات العرقية المحتدمة والطويلة الأمد في سريلانكا؟
تشير الشخصية القومية السنهالية القوية في حملة غوتابايا راجاباكسا الانتخابية، فضلا عن اعتماده الكامل في الفوز على أصوات الطائفة السنهالية تقريباً دون غيرها، مع سياسات شقيقه الأكبر والرئيس الأسبق في إدارة البلاد إبان السنوات العشر التي أمضاها على رأس السلطة بين عامي 2005 و2015، إلى أن التوترات العرقية والدينية المتفاقمة - والتي تزايدت حدتها كثيرا في أعقاب تفجيرات أحد الفصح الدامية - ستستمر وتتصاعد بصورة خطيرة في ظل حكم الرئيس الجديد.
ويخشى كثيرون أن يجلب المشهد السياسي الجديد في سريلانكا طاقات متجددة للحملة طويلة الأمد المتمثلة في تعزيز خطاب الكراهية المناهض للمسلمين في البلاد، وتصاعد أعمال العنف، والمقاطعات الاقتصادية التي تشرف عليها الميليشيات المسلحة التي تزعم الدفاع عن وحماية الديانة البوذية.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن تلك الميليشيات ازدهرت وترعرعت أول الأمر بين عامي 2013 و2014 إبان فترة ماهيندا راجاباكسا، عندما تلقت الدعم الكامل من الشرطة المحلية والمخابرات العسكرية. ثم مرة أخرى حين تولى غوتابايا راجاباكسا حقيبة وزارة الدفاع. وكانت أعمال العنف الدموية الأخيرة، مع شهود العيان ومقاطع الفيديو الوثائقية التي تشير بوضوح إلى ضلوع أفراد من الحزب الحاكم في الهجوم على المساجد والمنازل والمتاجر والشركات الإسلامية في أعقاب تفجيرات عيد الفصح في مايو (أيار) من عام 2019 الحالي. ومع أن الرئيس المنتخب نفى مراراً وتكراراً توفير أي دعم حكومي أو رسمي للميليشيات البوذية المتطرفة، فإنه صرح قائلاً إن المسلمين يناصبونهم العداء على نطاق واسع ويعتبرونهم خطراً داهماً على أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية.

الهند والصين وسريلانكا

على صعيد آخر، أدى فوز غوتابايا راجاباكسا في الانتخابات الرئاسية وعودة شقيقه الأكبر الرئيس الأسبق ماهيندا إلى الحلبة ليشغل منصب رئيس الحكومة، إلى دق نواقيس الخطر لدى جانب كبير من محللي السياسات الخارجية في الهند بشأن التداعيات السلبية المحتملة لذلك على العلاقات الثنائية بين الهند وسري لانكا.
إذ تساور كل من الهند واليابان والحكومات الغربية المحتملة المخاوف بشأن احتمالات تعزيز أسرة راجاباكسا الحاكمة علاقاتها الثنائية مع الصين، التي أوضحت خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة تفضيلها للرئيس المنتخب ولحزبه. ولقد تطورت العلاقات الاقتصادية والسياسية ما بين كولومبو وبكين خلال فترة رئاسة شقيقه ماهيندا السابقة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك بناء ثم تأجير الصين الميناء الجديد في مدينة هامبانتوتا السري لانكي.
أيضاً، يشعر منافسو الصين بالقلق بشأن إمكانية استغلال الصين للميناء الجديد في خدمة الأغراض العسكرية الصينية في خاتمة المطاف. وحول هذا الأمر يقول جابين جاكوب، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة شيف نادار الهندية: «ستتمحور الجولة القادمة حول انخفاض وتيرة اللعب السياسي من جانب الصين، مع استمرار اللعب على كل الأحوال. وأتوقع أن يقوم الرئيس السري لانكي الجديد بزيارة الهند عقب زيارته المرتقبة إلى الصين خلال المائة يوم الأولى من ولايته الجديدة. ولكن من المرجح أن الصين، وليست الهند، هي التي ستنال القدر الأكبر من اهتمام الرئيس السري لانكي الجديد». وأردف البروفسور جاكوب: «ربما تعلمت أسرة راجاباكسا الدرس، وأدركت أن هناك عواقب وتداعيات لازمة لرفع البطاقة الصينية في وجه الهند؛ ولذا ليس من المرجح أن يقوم الرئيس السري لانكي الجديد بتغييرات جذرية عاجلة في السياسات الخارجية في الوقت الذي يسعى فيه لاستئناف العلاقات الودية مع الصين».
وفي ظل هذه الخلفية، كان التساؤل المتشكّك الذي يطرح نفسه هو هل ستتخذ سريلانكا المسار الصيني مرة أخرى، وهل ستفعل ذلك على حساب الهند؟
المحلل الأمني آشوك ميثا الذي قال «بدأت مديونية أسرة راجاباكسا لبكين إبان الحرب الماضية عندما رفضت نيودلهي الموافقة على الطلبات المتكرّرة من حكومة كولومبو بالحصول على المعدات العسكرية لمحاربة جبهة نمور التاميل الانفصالية، وكانت الصين وباكستان قد تدخلتا لإنقاذ الموقف لدى حكومة سريلانكا، ويومذاك تهكمت الحكومة الهندية من تقارب سريلانكا مع الصين وباكستان، بينما كانت نيودلهي على استعداد لتوفير الأسلحة غير الفتاكة لحكومة كولومبو من واقع احترامها للدوافع السياسية لدى قيادة ولاية تاميل نادو الهندية ذات الغالبية التاميلية. وكانت التداعيات الاستراتيجية على التحفظ الحكومي الهندي لا تزال قائمة رغم تلاشي تلك القيود. بيد أن القرار الهندي وقتها لم يرق كثيرا لماهيندا راجاباكسا إبان رئاسته، فاتخذ منه ذريعة سياسية لتحويل دفة السياسات الاقتصادية والأمنية في بلاده صوب بكين، متجاهلا عن عمد الحساسيات الهندية المتنامية. وبالفعل، منحت سلطات كولومبو حينذاك العديد من تعاقدات تطوير البنية التحتية إلى الصين، من شاكلة ميناء هامبانتوتا وميناء مدينة كولومبو، ما شكل تحديات جديدة أمام نيودلهي من زاوية تصاعد الشواغل الأمنية في المحيط الهندي».

سياسة نيو دلهي إزاء كولومبو

أخيراً، على مدار العامين الماضيين، واصلت الهند في هدوء مطبق بناء الجسور مع مختلف مكونات موجة الطائفة الشعبية السنهالية في سريلانكا. وتؤكد الاجتماعات المتعددة التي جمعت بين الزعيمين ناريندرا مودي وماهيندا راجاباكسا، وكان آخرها في يونيو (حزيران) من العام الحالي، على عدم اضطرار الهند إلى البدء من المربع الأول. وهنا يقول الدبلوماسي الأسبق آتشال مالهوترا «لا بد أن نأخذ في الاعتبار أيضا التصريحات العلنية التي صرح بها غوتابايا راجاباكسا (الرئيس المنتخب) في أعقاب فوزه بالانتخابات حين أوحى بانطباع مفاده أن سريلانكا ستواصل التزام الخط المحايد في صراع القوى الإقليمية وتحافظ على مسافة واحدة بين الهند والصين. وبعبارة أخرى، إن سريلانكا سوف تتعامل وتتفاعل مع كل من نيو دلهي وبكين. إن الأزمان دائمة التغير، ومن شأن المصالح البراغماتية أن تحدد أنه رغم العلاقات التكافلية، فلا يمكن للهند انتظار أن الجارة الصغيرة تظل تشكل مجالا حصريا لنفوذها في المحيط الهندي. وما ينسحب على سريلانكا ينسحب أيضا على نيبال وعلى جزر المالديف وغيرها من البلدان. ويبقى أن ننتظر لنرى كيف ستتصرف سريلانكا خلال السنوات المقبلة. مع ذلك، يبدو أن هناك فصلا جديدا في العلاقات بين الهند وسري لانكا قد نشأ على خلفية جيدة، والزيارة المرتقبة للرئيس السري لانكي إلى الهند نأمل بأن تعتبر فرصة للتفهم الواضح أن سريلانكا ستواصل احترامها للحساسيات الهندية أثناء تعاملها مع بلدان أخرى في المنطقة».
أخيراً، علق كونستانتينو خافيير، الزميل البارز في «معهد بروكينغز - إنديا» - ومقره في نيودلهي – قائلا: «على الهند تعميق التعاون الأمني مع سريلانكا من دون المزيد من التنافس الجيو استراتيجي في المحيط الهندي. ورغم القدرات العسكرية المستمرة، في جزيرة دييغو غارسيا على سبيل المثال، لا تزال الولايات المتحدة تعتبر قوة كبيرة خارج المنطقة الإقليمية، الأمر الذي ربما يفسر مخاوف نيودلهي من الاتفاق الدفاعي الذي أبرم مؤخراً بين واشنطن وكولومبو.
لكن الفوز بسري لانكا يستلزم من الهند الاستثمار في التعاون الدفاعي والأمني بصورة أكبر مع دول المحيط الهندي والهادي المماثلة، بما في ذلك اليابان وأستراليا وفرنسا والاتحاد الأوروبي. وفي الأثناء ذاتها، يجب على الهند فتح قنوات الاتصال مع الصين للتخفيف من مغريات سريلانكا للتلاعب من وراء الهند ووضع بكين ونيودلهي على مسار التصادم في مواجهة بعضهما».


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.