الكتب التي تساعدك على حل الأزمات الشخصية قليلة جداً

قراءة في كتاب قديم

غلاف «الاعترافات» بالفرنسية
غلاف «الاعترافات» بالفرنسية
TT

الكتب التي تساعدك على حل الأزمات الشخصية قليلة جداً

غلاف «الاعترافات» بالفرنسية
غلاف «الاعترافات» بالفرنسية

لو سألني أحدهم ما أهم كتاب قرأته طيلة إقامتك الباريسية المديدة، لأجبته على الفور: «اعترافات» جان جاك روسو. وربما كانت هذه القراءة أعظم اكتشاف يحصل لي منذ أن وصلت إلى فرنسا قبل أربعين عاماً بالضبط. ولو أني لم أقرأ غيره لكفاني ذاك فخراً، ولما ذهب مجيئي إلى بلاد موليير وفولتير سدى. لماذا أعطيه كل هذه الأهمية؟ لأنه مفعم بالنزعة الإنسانية.
في الجزء الأول من هذا الكتاب، وفي الصفحة رقم 120 من طبعة «فلاماريون» الفرنسية لعام 1968، يروي روسو قصة صغيرة حصلت له في الطفولة الأولى، وهي التي دفعت به فيما بعد إلى كتابة «اعترافاته» أو مذكراته لتبرير نفسه. أو قل: كانت أحد الأسباب الأساسية.
فقد كان في شبابه الأول، أي في السادسة عشرة، بالكاد قد خرج من مرحلة الطفولة عندما حصلت الحادثة، وملخصها هو التالي: كان يشتغل خادماً لدى إحدى العائلات الإيطالية بعد أن هرب من بيته وعائلته في جنيف وهامَ على وجهه في البراري والقفار كما هو معروف. وفي يوم من الأيام وقع بصره على وشاح جميل فقرر سرقته وإهداءه إلى الخادمة الأخرى التي تشتغل أيضاً في البيت نفسه: ماريون.
ولكن بعدما انكشف أمر السرقة خاف من الفضيحة، فاضطر إلى أن يتهمها بأنها هي التي سرقته. وعندئذ طلب صاحب البيت من الخادمة أن تمثل بين يديه لكي تحصل المواجهة بين الاثنين ويعرف الكاذب من الصادق، وهل هي السارقة أم هو. وبما أنها بريئة كلياً فقد بهتت في البداية ولم تحر جواباً. لم تعد تعرف ماذا تقول، فراحت تتوسل وتستغيث وتحلف بأغلظ الأيمان بأنها ليست هي. وفيما كانت تدافع عن نفسها كانت تشعر غصباً عنها كأنها مهزومة سلفاً. وراحت تنظر إلى روسو نظرة استعطاف وعتاب وملامة ظلت تلاحقه طوال حياته كلها. قالت له: «لا، يا روسو! ما كنت أعتقد أنك هكذا. لا يا روسو هذا لا يليق بك، لا يا روسو... كنت أعتقد أنك شخص طيب. وكل شيء يدل على أنك طيب بالفعل. ولكن لماذا فعلتها معي؟ لقد وضعتني في موقع حرج فعلاً. ولا أحب أن أكون مكانك». ولكنه أصر على الكذب إلى حد الوقاحة بعد أن لم يعد قادراً على التراجع. وهكذا استطاع أن ينتصر عليها في نهاية المطاف، استطاع أن يلصق التهمة بها. وعندئذ طردوهما معاً من البيت. والأنكى من كل ذلك أنه ما سرق الوشاح إلا لكي يهديها إياه تعبيراً عن حبه لها. وهكذا بدلاً من أن يفيدها أضر بها... بدلاً من أن يكحّلها؛ عماها.
عندما كتب روسو قصة «ماريون» هذه في كتاب «الاعترافات»، كان قد مرّ عليها أربعون عاماً أو أكثر. وهو يحلف يميناً بالله أنه لم ينم قرير العين في أحيان كثيرة بسببها. صحيح أنها كانت تغيب عن باله لفترة من الزمن تطول أو تقصر، ولكنها كانت تعود في أوقات الشدة لكي تذكره بنفسها وتؤرقه. فضميره راح يؤنبه ويعذبه إلى درجة أنه كان يراها أحياناً في منامه وهي مقبلة عليه من خلف الضباب وكأنها تقول له: لماذا فعلت بي ذلك يا روسو؟ ألا تعرف أنك شوهت سمعتي في البيوت؟ ألا تعرف أنه لم يعد أحد يشغلني خادمةً عنده. ماذا فعلتُ لك لكي تحطمني؟ كانت تتراءى له بعد أربعين سنة كأن القصة قد حصلت البارحة. وكان يفيق والدموع تنسكب من عينيه فتبلّل خدّيه ووسادتيه.
ثم راحت هواجسه تتضخم وأخذ خياله المرضي أو الهوسي يكبّر حجم الخطيئة حتى تحولت إلى جريمة تقريباً. راح يتساءل في لحظات الخلوة والوسوسة بينه وبين نفسه: ماذا حصل لتلك المسكينة ماريون؟ ماذا حصل لتلك الطفلة التي لم تؤذ أحداً في حياتها؟ هل حقاً أن جميع العائلات رفضتها واضطرت إلى ممارسة البغاء مثلاً لكي تعيش؟ أين ذهبت ماريون الفقيرة هذه، وفي أي الدروب ضاعت؟ وهل قضي على مستقبلها يا ترى أم نجت من ذلك العار؟
أسئلة كثيرة مزقت قلبه وعقله على مدار السنوات... وفي خريف العمر أو شتائه عندما كانت هذه الأسئلة تلاحقه كان الأعداء يلاحقونه أيضاً ويطبقون عليه من كل جانب بعد أن أصبح مشهوراً جداً؛ بل وتحول إلى شبه أسطورة. كان ذلك بعدما أصبحت كتبه تُحرق على أيدي الأصوليين في باريس وجنيف وأمستردام دفعة واحدة. كان ذلك بعد أن كبر ذلك الطفل الصغير اللقيط الذي لا يعرفه أحد وأصبح: جان جاك روسو!
في مثل هذه الظروف التراجيدية التي أحاطت به في أواخر عمره كان يعتقد أن العناية الإلهية تنتقم منه بسبب تلك «الخطيئة الأصلية» التي ارتكبها يوماً ما. وكان يشعر بالسعادة تقريباً لأن الآخرين يعذّبونه ويشوهون سمعته مثلما عذّب هو ماريون وشوّه سمعتها. كان يطالب بمزيد من الاضطهاد لكي يتشفّى من نفسه ويكفّر عن ذنوبه.
وبدءاً من تلك اللحظة أصبح يكره الكذب ويتحاشاه ويخشاه كأنه جريمة. وأصبح أصدق كاتب أنجبته أوروبا في تاريخها كله، بالإضافة إلى بعض القلائل بالطبع؛ مثل هولدرلين، أو كانط، أو غوته. ولذلك تجد وراء كل صفحة من الاعترافات كأن صوت الحقيقة هو الذي يتكلم من خلالها وليس هو. لقد أصبح الناطق الرسمي باسم الحقيقة نيابة عن عصر بأسره. لهذا السبب أُعجب به كانط أيما إعجاب ووضع صورته على طاولته لكي يستأنس بها ويكتب ويشتغل باطمئنان وسلام. وكذلك أعجب به هولدرلين وهيغل وتولستوي وديستيوفسكي وآخرون كثيرون من الكبار أو كبار الكبار. لقد أصبح نبي العصور الحديثة.
هكذا قرر روسو أن يعرّي نفسه في هذا الكتاب الشهير «الاعترافات» بكل صراحة أمام القراء والأجيال المقبلة. قرر أن يكشف عن خباياه ويعترف بكل نقاط ضعفه وقصوره. وقسا على نفسه أكثر مما يجب، وعنّفها ووبّخها: بل ومسح بها الأرض! وأسس بذلك محاسبة الضمير في الفكر الأوروبي المعاصر. من هنا جاذبية «اعترافاته» وخلودها على مرّ العصور.
نعم لقد سحقت قصة ماريون هذه قلبه سحقاً ولاحقته على مدار الأيام والسنوات. وكان يتمنى لو أن مصيبة نزلت على رأسه ولم يفعل فعلته تلك. ولو أنهم انتحوا به جانباً وسألوه عن الموضوع على حدة، لاعترف بالحقيقة ولما اتهمها أبداً. ولكن صعب عليه أن يعترف بخطيئته هكذا علناً أمام الجميع.
يقول في تلك الصفحات الثلاث ما معناه: ما كنت أخشاه بعد اندلاع الفضيحة ليس العقاب ولا الضرب أو الطرد من البيت؛ وإنما العار. كنت أخشاه أكثر من أي شيء آخر في العالم. كنت أخشاه أكثر من الموت. كنت أفضل أن تنشق الأرض وتبتلعني على أن أعترف أمام الناس بأني لص أو سارق.
ولذلك اضطر إلى الكذب واتهامها غصباً عنه.
يخطر على بالي أحياناً أن أتساءل وأقول ما يلي: ألا توجد علاقة بين موقف روسو هذا وبين استقامة السلوك التي نلاحظها في البلدان الحضارية جداً مثل سويسرا مثلاً، وهي بلده الأصلي بالمناسبة؟ ألم يؤسس للضمير الأخلاقي أو لمحاسبة الضمير في كل أنحاء أوروبا؟ لماذا تكون العلاقات الاجتماعية دقيقة ومنتظمة في البلدان المتقدمة؟ ولماذا يشيع الغش والكذب والاحتيال في بلداننا نحن الذين ندعي الإيمان والتقى والورع؟ لماذا كلما صلينا وصمنا وركعنا أكثر زاد غشنا أكثر؟ هناك استثناءات كثيرة بالطبع وأكاد أعتذر من هذا الكلام... ولكن ما أقصده هو أنك تستطيع في سويسرا أو ألمانيا أو الدنمارك أو النرويج أو السويد أو سواها من البلدان الأوروبية أن تشتري الجرائد والكتب أو تركب الحافلات من دون أن تدفع فلساً واحداً إذا شئت لأنه لا يوجد أحد لكي يراقبك. يراقبك ضميرك فقط. وهي بلدان علمانية لا أثر للدين فيها ولا تصوم ولا تصلي إلا نادراً. ومع ذلك، فهي أخلاقية مائة في المائة. كيف يمكن تفسير ذلك؟ أعترف بأن هذا الأمر حيرني. وقد رأيت ذلك بأمّ عيني عندما زرت سويسرا وألمانيا وهولندا وأدهشني الوضع. رأيت جميع المواطنين يدفعون ثمن المشتريات عدّاً ونقداً ولا أحد يفكر في الغش أو مخالفة القانون مطلقاً. هناك شيء اسمه ضمير إذن، وهو أهم من أي شرطي! هناك وازع داخلي يردعك إذا ما همّت نفسك بالسوء أو بالانحراف والإخلال بالواجب أو التقصير في العمل. فكيف يمكن أن تخشى على بلاد من هذا النوع؟ كيف لا تزدهر وتتطور ويطيب فيها العيش؟ ومَن الذي أسس الضمير الأخلاقي الصارم في الثقافة الأوروبية؟ إنهم مصلحوها الدينيون وفلاسفتها الكبار وعلماؤها... العلماء ورثة الأنبياء.
هل سمعتم بحضارة نهضت على قدميها من دون شخصيات كبرى تثبت على الحق والمبدأ وتحترق لكي تضيء للآخرين الطريق؟ هل سمعتم بحضارة نشأت على عادات غير الصدق والدقة في المعاملة؟ هل سمعتم بحضارة نشأت وازدهرت على شيء آخر غير مكارم الأخلاق؟
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
هناك أسباب أخرى تدفعني للإعجاب باعترافات جان جاك روسو ولا أستطيع البوح بها كلها هنا. ولكن ربما كان أهمها هو أنه قربني من أمي وطفولتي الأولى وذلك الحدث الصاعق الذي أسس وجودي. على أي حال؛ فحكايتي مع هذا الكتاب تطول منذ أن أضاء الدياجير المظلمة لحياتي الداخلية بعدما ابتدأت بقراءته لأول مرة في قرية شاتني مالبري بضواحي باريس. وهي ذاتها قرية الفيلسوف الكبير بول ريكور. كما أنها قرية فولتير لأنه ولد فيها وتمثاله يتصدرها. وقد شاء لي الحظ أن أقيم فيها بمحض الصدفة لبضع سنوات في أواخر القرن الماضي. وبعدئذ لم يفارقني الكتاب، خصوصاً في لحظات الشدة. وقد ساعدني على تعميق بعض الأسئلة الشخصية، والقبول بما لا يحتمل ولا يطاق. والواقع أن الكتب التي تساعدك على حل تأزماتك الشخصية قليلة جداً. إنها عبارة عن انفراجات مضيئة داخل الانسدادات.



فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.