شخصيات معذبة بأسئلتها الوجودية

«متسولو الخلود» للفلسطيني أنس إبراهيم

شخصيات معذبة بأسئلتها الوجودية
TT

شخصيات معذبة بأسئلتها الوجودية

شخصيات معذبة بأسئلتها الوجودية

تقدم رواية «متسولو الخلود»، للكاتب الفلسطيني الشاب أنس إبراهيم، الصادرة حديثاً عن دار «هاشيت أنطوان-نوفل»، في 311 صفحة من الحجم المتوسط، نموذجاً هو مزيج من السرد الروائي الذي يشتغلُ على الإنسان بصفتهِ مركزَ النظرْ إلى العالم، بالاستنادِ إلى التحليل النفسي الوجوديّ، الذي يستندُ بدوره إلى أسئلة: الوجود، والكينونة، والجنس، والخلود، والرغبة المجردة.
هي رواية تطرح أسئلة وجودية فلسفية ونفسية من خلال أربع شخصيات، لكل شخصية سؤالها الوجودي، وإشكاليتها النفسية، وماضٍ لا يُمكِنُ الهروب منه. أحد الشخصيات، وهو الشاعر يوسف الراوي، يحاول الوصول إلى تسوية ما بَين وجوده العادي ورغبته الحارقة في اللاعادية، بينما يجد المقاتل، وليد العبد الله، نفسه في مأزق ذهنهِ النقي وواقعهِ القبيح، ورغبته الدائمة بالهرب من المعركة، بانتهاء الحرب، والجلوس في مكان هادئ، وأن يتزوج ويكون عادياً بينما أولاده يحيطونه، بعيداً عن الحرب الدائمة والمعارك المتتالية، ولا يستطيع. وليس بعيداً من يوسف، تجِدُ بلقيس نفسها ترتكب الجرائم العاطفية المتتالية، مدفوعة بشعورٍ دائم بالقلق، والملل، والرغبة في وجودٍ عادي من نوعٍ خاص، لا يتخلى عن المكون الثقافي، ولكن لا يجد في المكون الثقافي للعيش سبباً خالِصاً للعيش. تختفي بلقيس من حياة يوسف في لحظة، وتهرُبُ منهُ إلى غسان، المعالج النفسي، الناجي من مجزرة صبرا وشاتيلا، الذي يحاول جاهداً العيش وفقَ صيغة معقدة، تمكنه من الاحتفاظ بتوازن نفسه، وتُبعِدُ أشبَاح مجزرة صبرا وشاتيلا عن ذهنه، وعن واقعه اليوميّ، ولكنّهما (بلقيس وغسان) يصطدمان ببعضهما، بالعاطفة، وبماضيهما، يوسف ووليد والمجزرة، الذي يحضُرُ بشكلٍ دائمٍ في الحاضر، ولا يترُكُ لهُما أي قدرة على البدء من جديد.
«الماضي لا ينتهي أبداً»، كذلك السؤال الوجوديّ، والفلسفي والنفسيّ، لا يكفُّ عن الحضور أبداً. وفي الرواية، ورغم حضور الانتفاضة الثانية كإحدى أهم ثيمات المكان والزمان في الرواية، فإن الشغل الروائي في «متسولو الخلود» يكمُنُ في الإنسان، وحول الإنسان نفسه. وتحضُرُ الانتفاضة كحدث يؤثّر، ويخلُقُ انعطافات استثنائية في حيوات الشخصيات، ويحضُرُ المكان وإشكالياته التاريخية التي لا تزال امتداداتها في الحاضر قائمة، أيضاً كمكوّن نفسي مهم في بناء الشخصيات. إلا أن الشخصيات، رغم المكان، وإشكاليّات الزمان، تظلُّ مشدودة إلى واقعٍ متخيّل، تحاول خلقه عبر ذواتها الداخليّة، كعالم موازٍ يحضُرُ على هيئة تخيُّلات، كلمات، شهوات جنسيّة غير منضبطة، وتشوّهات نفسيّة غير مفهومة.
يقول الروائي أنس إبراهيم: «الشخصيّات الأربع الرئيسيّة ليست بعيدة عن واقعي الشخصيّ. أمّا عن موضوع الوجود، فيمكِنُ اعتبار الرواية فلسفية، ويمكن بطريقة نظر أخرى اعتبارها رواية سيكولوجيّة، كما يمكن اعتبار الموضوع الفلسفي في الرّواية عارض نتاج أفكار وخيال الشخصيّات الأربع الرئيسيّة».
ويضيف: «شخصيّاً، لم أذهب إلى أي ثيمة معيّنة، ربّما في بداية الكتابة كنت مأخوذاً بأفكار فلسفيّة ونفسيّة، وكنتُ أعتقد أنّني سأعالجها في الرّواية، ولكن لاحقاً، كنتُ كأي قارئ آخر، أكتُبْ ما تلفظهُ الشخصيّات، وما تفكّر به، وأحاول التدخّل بين الحين والآخر، بشكل مفضوح أحياناً، وبشكل سرّي أحياناً أخرى. وفي بعض الأحيان، أعتقد أني كنت أكتُبُ لأعرف حقاً ما سيحدث، وربّما يكون هذا تفسير القلق المُرافق للأحداث والشخصيّات، فلا الشخصيّات ولا الكاتب كانوا يعرفون ما الذي سيحدث حقاً، ولماذا يحدثُ ما يحدثُ حقاً».



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.