هزيمة «الراديكالية المسلحة»... ضرورة حتمية

لمرحلة ما بعد الإرهاب

مدنيون تم إجلاؤهم من قبضة «داعش» ينتظرون في منطقة فحص تسيطر عليها «قوات سوريا الديمقراطية» (أ.ف.ب)
مدنيون تم إجلاؤهم من قبضة «داعش» ينتظرون في منطقة فحص تسيطر عليها «قوات سوريا الديمقراطية» (أ.ف.ب)
TT

هزيمة «الراديكالية المسلحة»... ضرورة حتمية

مدنيون تم إجلاؤهم من قبضة «داعش» ينتظرون في منطقة فحص تسيطر عليها «قوات سوريا الديمقراطية» (أ.ف.ب)
مدنيون تم إجلاؤهم من قبضة «داعش» ينتظرون في منطقة فحص تسيطر عليها «قوات سوريا الديمقراطية» (أ.ف.ب)

تثير الدراسات والأبحاث المتعلقة بهزيمة الإرهاب انشغال أجهزة الاستخبارات الرسمية. كما انصبت جهود الخبراء ومراكز البحث الدولية، بعد هزيمة «داعش» بداية 2019، على تقديم خبرتهم على مستوى فهم وإنتاج سياسات وطنية ودولية تمكن من الانتصار الشامل على الحركات الإرهابية، المحلية والعالمية. ويمثل التقرير الذي نشرته مؤسسة المعهد الأميركي للمشاريع، في أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، واحدة من أهم الدراسات التي تناولت فيها الباحثة كاثرين زيمرمان، المتخصصة في التهديدات الحرجة والإرهاب، موضوع مواجهة «الراديكالية المسلحة»، بوصفها مرحلة حتمية للقضاء على الإرهاب العالمي.

تنطلق الخبيرة زيمرمان من فكرة أساسية، ترى فيها أن «الولايات المتحدة الأميركية، التي تخوض حرباً ضروساً منذ 20 سنة ضد الإرهاب، قد أساءت فهم طبيعة العدو في هذه الحرب؛ ذلك أن سياسة واشنطن في هذا المجال تركز باستمرار على مجموعات، وأفراد محددين، بدا أنهم يهددون أكثر المصالح الأميركية».
فقد منحت أميركا الأولوية لتدمير «القاعدة» بأفغانستان وباكستان، وبالتالي قامت بجهود جبارة فيما يخص رصد وقتل كل من أسامة بن لادن، وزعيم «القاعدة» في العراق أبو مصعب الزرقاوي، وكذلك أنور العولقي زعيم التنظيم باليمن، وصولاً إلى جهودها غير المتوقفة حالياً التي تهدف لقتل مؤسس «داعش» أبو بكر البغدادي. كما أن سياسة واشنطن في مواجهة الإرهاب ركزت إلى حد كبير على استعادة الأراضي من هذه الجماعات، وحرمانها من الملاذ الآمن، بقصد القضاء على القيادة وغيرها من المتورطين في التخطيط للهجمات. وكانت نتيجة هذه الاستراتيجية سلسلة من الانتصارات العسكرية في ساحة المعركة، لم تولد أثراً حاسماً دائماً في الحد من التهديدات الإرهابية.

الاستراتيجية الجديدة
وبعد نحو 20 سنة من المواجهة العالمية مع الإرهاب، أصبح من اللازم إعادة تحديد العدو الحقيقي، ووضع سياسة واستراتيجية جديدة شاملة تعد الحركة «الراديكالية المسلحة» العدو الأساسي. ويعد تنظيم «القاعدة» و«داعش»، وغيرهما من الجماعات، جزءاً من الجماعات المتطرفة. وعليه، فإن السياسة الجديدة يجب أن تنطلق من منطلق مركزي، يضع الحركة والجماعات والمنظمات التي تلتزم بآيديولوجية المتشددين في صلب المواجهة الشاملة.
وتمكّن هذه الآيديولوجية المجموعات من إعادة البناء، وتوحيد جهود الأتباع في إطار هدف مشترك، حتى بعد معاناتها من الهزائم العسكرية الرهيبة. كما أن التصورات والأفكار القتالية المتطرفة، التي تأخذ طابعاً آيديولوجياً، تخلق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية الموسعة التي تتجاوز الهجمات الإرهابية، وتهديد الأمن القومي الأميركي.
وعليه، فإن كاثرين زيمرمان، المتخصصة في التهديدات الحرجة، ترى أن الاستراتيجية والسياسة الجديدة لمرحلة ما بعد الإرهاب يجب أن تركز على مهاجمة هذه الآيديولوجية وتشويه سمعتها لإضعافها. فإذا كان من المستحيل تدمير آيديولوجية المتطرفين تدميراً كلياً، ولا يمكن القضاء على جميع أو معظم أتباع هذه الأفكار المتطرفة، فإن الواقع والتاريخ يثبتان أن المسلمين رفضوا لقرون الفكر المتطرف، وهو ما يفسر ظهور تنظيماتها في أطراف المجتمع العربي والإسلامي المعاصر، وسعي هذه التنظيمات المستمر لتجميع نخبة تمثل الآيديولوجية الحربية وغطاءً ودعماً شعبياً بين المسلمين، مستغلة بذلك حالة عدم الاستقرار التي تعيشها الجغرافية العربية بعد 2011.
وفي هذا السياق، أعادت جماعات «الراديكالية المسلحة» تغيير اسمها، وهيكلة تنظيماتها، للاحتفاظ بالدعم المحلي، وإخفاء صلاتها بالجماعات التي تستهدفها أعمال مكافحة الإرهاب الأميركية. وبهذه السياسة، فصلت التنظيمات الإرهابية جهود «الجهاد» العالمية عن «القتال» المحلي، مما جعل هذه المجموعات المتطرفة أكثر قبولاً لدى بعض المجتمعات، مع ما وفرته هذه السياسة من حماية الطليعة المحلية من الجهود العالمية لمكافحة الإرهاب.
ويمكن الحديث في هذا الإطار عما أتاحته النزاعات المحلية في بعض الأماكن، مثل مالي والصومال وسوريا، حيث ظهرت طليعة المتشددين بوصفها قوة محلية لحماية المجتمعات المحلية، مما أدى بدوره لانتشار آيديولوجية الإرهاب في واقع متشابك دينياً وعرقياً، وغير مستقر اجتماعياً وسياسياً.
والأخطر مما سبقت الإشارة إليه أن السياسة التي اتبعتها «الراديكالية المسلحة» مكنت نخبها من اختراق الحكم والمؤسسات المحلية في بعض المجتمعات. ويمكن الاستدلال على ذلك بدور تنظيمات «الراديكالية المسلحة» في شمال غربي سوريا، وكذلك تلك المجموعات التي عززت علاقاتها مع المجتمعات المحلية، وتوسعت بشكل كبير في جميع أنحاء أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا. وقد طورت «الراديكالية المسلحة» هذه العلاقات، من خلال تقديم السلع الأساسية أو خدمات الدفاع عن السكان. وتمكنت بفضل هذه العلاقات من خلق تأثيرها داخل المجتمعات المحلية، وبالتالي استطاعت التنظيمات الإرهابية تحقيق أهدافها الاستراتيجية، المتمثلة في فرض حكمها في بعض المناطق من العالم الإسلامي. وفي سياق هذه الاستراتيجية، قامت «القاعدة» بإصلاح شبكات الصرف الصحي، وتوصيل المياه والوقود للسكان في اليمن. كما أن محاكم هذا التنظيم الإرهابي، في الصومال ومالي، تقدم حلاً عادلاً للنزاعات المحلية، وتقوي نفسها من خلال تأمين الموارد. كل هذا يمكّن طليعة «الراديكالية المسلحة» من استخدام روابطها المحلية مع المجتمعات للبدء في إعادة تشكيلها وفق آيديولوجيتها المتطرفة، وتوسيع أتباعها مع مرور الوقت، مما يشكل تحدياً حقيقياً للحكومات والدول القائمة.
ويتضح إذن أن الحركات الأصولية المسلحة تستهدف من استراتيجيتها الناجحة خلق علاقات صلبة وطيدة مع المجتمعات المحلية. وجعل هذه الأخيرة عرضة للافتراس من الآيديولوجية الإرهابية التي تنشرها الطليعة المتحكمة في المؤسسات المحلية. وعليه، يجب على الولايات المتحدة مهاجمة الوسائل التي بنت بها الطليعة القتالية علاقاتها مع المجتمعات المحلية.
ومن شأن اتباع هذه السياسة الجديدة إضعاف التنظيمات الإرهابية، وإرجاعها مرة أخرى إلى هامش المجتمع العربي الإسلامي، خصوصاً إذا ما كانت الجهود الأميركية تهدف لحل النزاعات المحلية، وتقديم بديل سياسي قابل للتطبيق، بعيداً عن الصراعات الدينية والعرقية القائمة.

هزيمة المتطرفين
ولا يمكن لهذه الجهود أن تنجح إلا في ظل سياسة شاملة مندمجة لإدارة ترمب، تستحضر واقع المنافسة مع القوى العظمى. ذلك أن الاستراتيجية الأميركية الحالية تعتمد على جهودها الاستخباراتية، في مواجهة روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية، مما يدعم الاستراتيجية الحالية لمكافحة الإرهاب، ويطرح مسألة قابليتها للاستمرار مع تخفيض للموارد المالية.
وفي هذا الإطار، وفي ظل هذا الواقع الدولي، أمام الولايات المتحدة فرصة لمواجهة الجهود الروسية والإيرانية، التي سهلت توسيع نطاق «الحركة الراديكالية المسلحة»، وبالتالي إعادة صياغة استراتيجية جديدة تراعي تحولات آيديولوجية للمتطرفين، واستفادتهم من الموارد المختلفة. وكل هذا يعني أن على الولايات المتحدة تطوير وتنفيذ استراتيجية لهزيمة «الراديكالية المسلحة» التي تتجاوز مكافحة الإرهاب. ومن الناحية التفصيلية، يمكن للسياسة الأميركية الجديدة أن تتضمن خطة دقيقة تعمل بداية على عزل الجماعات «الراديكالية المسلحة» عن السكان المحليين. وسيتم تحقيق هذه الأهداف الاستراتيجية من خلال إنجاز كثير من المهام الرئيسية، وهي: أولاً، قطع العلاقات بين المجتمعات وجماعات التطرف، من خلال دعم حل النزاعات المحلية ومعالجة المظالم، وتعزيز الحكم المحلي والوطني المقبول، وتزويد المجتمعات ببديل للسلع أو الخدمات؛ وثانياً، عرقلة جهود الطليعة لاختراق المجتمعات وبناء علاقات جديدة؛ وثالثاً، دعم أو تمكين أشكال مقبولة من الحكم؛ ورابعاً، تمكين وتطوير الهياكل الأمنية التي يمكن أن تعمل بدعم خارجي محدود، ولا تؤدي إلى مزيد من الصراع وتنفير السكان على المستويين المركزي والمحلي.
إن المعنى العام للسياسة الجديدة هو مهاجمة تأثير هذه الجماعات داخل المجتمعات السنية، من خلال استعادة قدرة المجتمعات على رفض جهود المتشددين لاختراقها. والهدف من ذلك هو ضمان عزل الطليعة المتطرفة، والقضاء على نفوذها في المجتمعات، والحد من تهديداتها الإرهابية.
وفي هذا السياق، يجب أن تكون السياسة الجديدة هي المعتمدة في برامج وزارة الخارجية، فيما يتعلق بترتيب الأولويات، وتكثيف الجهود، وتشكيل برامج المساعدات الخارجية والأمنية الأميركية. كما يجب أن يكون سفراء الولايات المتحدة، كرؤساء للبعثة الدبلوماسية، أصحاب مصلحة في نجاح هذه السياسة الجدية في مواجهة «الراديكالية المسلحة»، وأخيراً يجب التأكد من أن الشركاء الأميركيين يقبلون ويدعمون هذا النهج الجديد الشامل، وأن تدعم مؤسساتهم القطرية تنفيذه.
إن التغيير الرئيسي هو إعادة توجيه برامج المساعدات الخارجية والأمنية الأميركية إلى إطار استراتيجي، يهدف إلى الحد من تأثير «الحركة الراديكالية المسلحة». ورغم أن الولايات المتحدة تبنت سابقاً هذا النهج في نطاق محدود، فإن الخبرة والتجربة موجودة بالفعل داخل الوكالات المدنية والعسكرية الأميركية، فيما يخص كيفية تخطيط وتنفيذ البرامج التي من شأنها تعزيز هياكل الحكم والأمن المحلي، وتقليل مساحة عمل الجماعات المتطرفة. ومن دون شك، سيتطلب النجاح في هذا النهج أن تعمل الولايات المتحدة مع شركاء محليين وإقليميين وعالميين. ولا بد أن تضع إدارة ترمب الإطار العالمي الذي يعمل من خلاله شركاؤها، وضمان أن يتم إشراك الشركاء في الأماكن التي تطبق فيها هذه السياسة الجديدة. ويمكن التأكيد على أن هذا النوع من الاستراتيجيات التي يقودها المدنيون سوف يسفر عن نتائج طويلة الأمد. كما أنها تدعم وتمكن من رفع فعالية الشركاء للقيام بما يجب عليهم، مع تجاوز خطر تعذر تنفيذ بعض جوانب السياسة الجديدة من طرف بعض الشركاء. وعلى الولايات المتحدة أيضاً أن تتأكد من أن شركاءها يتعاونون، ولهم تعريف موحد للعدو. بشكل مركز، تحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة صياغة سياسة جديدة للتعامل مع الجماعات «الراديكالية المسلحة» ودورها الإرهابي.

* أستاذ العلوم السياسية - جامعة سيدي محمد بن عبد الله (المغرب)



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.