«الداعشيات» بين القضاء على الإرهاب ومكافحة الإسلاموفوبيا

قلق من تسلل هؤلاء النساء وأسرهن إلى العواصم الأوروبية

داعشيات في مخيم الهول بالحسكة تحت حراسة مشددة (أ.ف.ب)
داعشيات في مخيم الهول بالحسكة تحت حراسة مشددة (أ.ف.ب)
TT

«الداعشيات» بين القضاء على الإرهاب ومكافحة الإسلاموفوبيا

داعشيات في مخيم الهول بالحسكة تحت حراسة مشددة (أ.ف.ب)
داعشيات في مخيم الهول بالحسكة تحت حراسة مشددة (أ.ف.ب)

مع توالي الأنباء عن هرب «داعشيات» من مخيمات عدة في سوريا جراء العمليات العسكرية التي شنتها تركيا على شمال سوريا أكتوبر (تشرين الأول) 2019 وانسحاب عناصر حراسة المخيمات للانضمام إلى ساحات القتال، تزايد القلق في الدول الغربية من تسلل هؤلاء النساء وأسرهن إليها.

وفي ظل تصاعد النبرات المعادية للإسلام والمسلمين في الغرب، أصبحت قضية «الداعشيات» ورقة أخرى تستغلها الأحزاب اليمينية المتطرفة للتضييق على المسلمين والمطالبة بإغلاق باب الهجرة أمامهم.
وقد أشارت التقارير إلى أن المئات من زوجات مقاتلي التنظيم المتطرف في مخيم عين عيسى الواقع في ريف الرقة الشمالي، تمكنّ من الفرار مع أطفالهن، وأنهن ينحدرن من جنسيات أجنبية عربية وغربية. وأوضح مسؤول في المخيم، أن بعضهن توجه نحو الحدود التركية، وغادر بعضهن إلى وجهة غير معلومة، بينما تم التمكن من إلقاء القبض على البعض الآخر.
من جهة أخرى، ونتيجة للهجوم التركي، علّقت غالبية المنظمات الإنسانية الدولية عملها في ثلاثة مخيمات تعيش فيها «داعشيات» مع أطفالهن إلى جانب نازحين سوريين وعراقيين. وهذه المخيمات بقي منها اثنان - بعد إجلاء الداعشيات اللواتي لم يتمكنّ من الهرب من مخيم عيسى إلى مخيمات أخرى - وهما مخيم الهول الواقع بريف الحسكة، ومخيم آخر يقع بريف المالكية على المثلث الحدودي السوري - العراقي - التركي. وبحسب مسؤولين، فإن هناك 10500 داعشية مع أطفالهن في مخيم الهول و1500 في المخيم الآخر.
وقد حذّر المجتمع الدولي أنقرة من أن هجومها العسكري على المقاتلين الأكراد شرق الفرات سيمهّد لعودة تنظيم «داعش» مرة أخرى مع وجود آلاف الجهاديات في هذه المخيمات، إلى جانب أزواجهن المعتقلين في سجون «الإدارة الذاتية» واستمرار القلق من وجود خلايا نائمة للتنظيم؛ مما قد يعرّض أمن المنطقة للخطر.
وباستثناء تسلم عدد قليل من الأيتام، ترفض معظم الدول الأوروبية عودة رعاياها إليها، ولجأ بعضهم إلى سحب الجنسية لمنعهم من العودة، إلا أن بعض الجهات ترى أنه من الأفضل استعادتهم، مثل وكالة الأمن ومكافحة الإرهاب في هولندا التي نبهت الحكومة إلى أن استعادة النساء المنتميات إلى «داعش» وأطفالهن يُعَد أفضل بالنسبة للأمن القومي للبلاد؛ نظراً لأن عدم استعادتهم في الوقت الراهن من شأنه أن يكون مشكلة بعد أن يكبروا.
وسبق للاستخبارات الأميركية أن حذرت من أن مخيم الهول قد بات يتطور ليصبح بؤرة جديدة لآيديولوجية تنظيم «داعش»، وأصبح يشكل تربة خصبة هائلة لتفريخ الإرهابيين في المستقبل. وهو التقييم نفسه الذي توصل إليه تقرير حديث للأمم المتحدة، حيث أكد أن الأشخاص الذين يعيشون في الهول «قد يشكلون تهديداً إذا لم يتم التعامل معهم على نحو مناسب».
وتفيد معلومات من داخل المخيم، بأن زوجات مقاتلي تنظيم «داعش» الأجانب قمن بتشكيل حسبة خاصة للنساء تقوم بمعاقبة «مرتكبات المنكرات» وطعن الحراس وحرق للخيام وتحريض فلول المقاتلين ضد عناصر قوات الأمن ومطالبتهم بشن الهجمات على المخيم لتحريرهن والعودة بهن إلى «أرض الخلافة» وهتافات ورفع لراية التنظيم، إضافة إلى ما يقوم به الأطفال من رشق لعناصر قوات الأمن وموظفي الإغاثة بالحجارة. وقد حولت مجموعة نساء من الدواعش المخيم إلى «إمارة» بدلاً من إبدائهن الندم على المجيء إلى «أرض الخلافة» المزعومة وإعلان براءتهن من العقيدة التكفيرية. وفي مثل هذه الظروف المعيشية الصعبة في المخيم من نقص في الغذاء ومياه الشرب والرعاية الصحية والتعليم وانقطاع التيار الكهربائي، وما يقابله من رفض تام لخروج النساء والأطفال من هذا السجن الكبير، إضافة إلى تشبعهم بالعنف والتطرف ونبذهم من قبل المجتمع، من المنطقي توقع نمو جيل جديد من الإرهابيين الحاقدين على كل شيء والراغبين في الانتقام.
وتهدد تركيا بترحيل عناصر التنظيم الأجانب المحتجزين في سجونها بتركيا وسوريا، البالغ عددهم نحو 1200 سجين في تركيا و278 آخرين تم اعتقالهم مؤخراً خلال عمليتها العسكرية في شمال سوريا، بينما تفضل الدول الأوروبية أن تتم محاكمتهم في الدول المحتجزين فيها.
إن التعامل مع «الداعشيات» الأوروبيات يحتاج إلى برامج غير تقليدية لتأهيلهن، وخاصة بعد السنوات التي أمضينها في ظل تنظيم «داعش» والمهام التي تقلدنها، فقد مارسن أدواراً تنظيمية وعسكرية وقمن بعمليات تجنيد للشباب، وشاركن في العمليات الإرهابية. وقد يرفض بعضهن التخلي عن معتقداتهن التكفيرية والمتطرفة وولائهن للتنظيم، وكذلك بالنسبة لأطفالهن، حيث لا يمكن التجاوز أو التغاضي عما رأينه وعاشوه وتأثروا به من تجارب قاسية وأفكار متطرفة، وهي عوامل بالتأكيد ستكون أساسية في تشكيل شخصيتهم ورؤيتهم للأمور. لذلك؛ تعتبر النساء التحدي الأهم والأكبر في مواجهة تنظيم «داعش» حتى بعد سقوط دولته، ويحذر البعض من أن غياب رؤية للمواجهة والتعامل معهن ربما يضع احتمالية عودة التنظيم من خلال المرأة. فالمرأة هي أيضاً المفتاح الرئيسي ضد الإرهاب؛ لأنها هي التي تُعلِّم المجتمع وتتولى مهمة تنشئة الأجيال القادمة، كما أنها تَعلم جيداً آلام الصراعات ومرارة الجوع والاضطراب.
وفي اجتماع وزاري تشاوري ضم خبراء من الدول الأعضاء في منظمة «التعاون الإسلامي» ومنظمات دولية أخرى، استضافته مصر في يونيو (حزيران) 2019، وكان الهدف منه بلورة ما يمكن أن تضطلع به منظمة تنمية المرأة التابعة لمنظمة «التعاون الإسلامي» من دور فور بدء نشاطاتها، ناقش المشاركون خطر «الإرهاب النسائي» وأهمية أن تؤدي المرأة دورها في مواجهة هذا الخطر. وأكد الخبراء الحاجة الملحة إلى اتباع نهج شامل متعدد الأبعاد لمعالجة قضايا الإرهاب، حيث ينبغي أن يكون للمرأة دور نشط ورئيسي تؤديه في إطار هذا النهج، فهي تمثل الوعاء الذي يحمل القيم الثقافية والاجتماعية والدينية للمجتمعات، وهي من موقعها الفريد يمكنها نقل هذه القيم إلى الأجيال القادمة. كما أن المرأة يمكن أن تكون سداً منيعاً وتشارك في جهود تشكيل وتنفيذ سياسات وبرامج للتخفيف من أثر الإرهاب والتطرف. ومن دون انخراط المرأة النشط، ستصبح المجتمعات غير مستقرة.
من جهة أخرى، لا يمكن استبعاد عدم قدرة المجتمعات الأوروبية على قبول واستيعاب عودة الداعشيات من جديد إليها، وخاصة في ظل التداعيات التي فرضتها العمليات الإرهابية التي قام بها التنظيم داخل الكثير من العواصم والمدن الأوروبية خلال السنوات الماضية، وكذلك تنامي مشاعر وملامح العداء والعنصرية ضد المسلمين، وهو ما تؤكده الدراسات والاستطلاعات، حيث يشير أحدها مؤخراً إلى أن أكثر من 40 في المائة من المسلمين في فرنسا كانوا ضحايا سلوك عنصري خلال السنوات الخمس الماضية، وأن حالات التمييز تمس النساء أكثر من الرجال، وخصوصاً إذا كنً يرتدين الحجاب أو النقاب، وهناك تشويه متعمد لمكانة المرأة في الإسلام. كما أن تصاعد نفوذ الحركات اليمينية المتطرفة زاد من حوادث العنصرية ضد المسلمين عبر نشر خطاب الكراهية في الإعلام والإنترنت وفي خطابات كبار السياسيين الأوروبيين الذين يستغلونها لتحقيق مآرب وأغراض سياسية. ويبدو أنه أسلوب نجح في منحهم مقاعد حزبية أكثر في البرلمان والمجلس الأوروبي في كل الدول الأوروبية تقريباً، وآخرها في نتائج الانتخابات في إسبانيا.
كما استغلت تيارات الأحزاب اليمينية المتطرفة خطابات تنظيم «داعش» وغيره من المنظمات الإرهابية الناشطة باسم الإسلام، وما قام به من أعمال إرهابية في الربط بين الإرهاب والإسلام وتهييج المشاعر ضد المسلمين واللاجئين والمهاجرين من الدول الإسلامية؛ مما يؤثر على أنماط التعامل المجتمعي مع المسلمين هناك، وبالتالي ستعاني أيضاً الداعشيات العائدات حتى من قبل أسرهن، على نحو ربما يدفع بعضهن إلى العودة من جديد لتبني الأفكار المتطرفة.
وفي الحقيقة، فإنه من الصعب التعاطف مع الداعشيات، ولا يمكن التعامل مع الداعشيات الأجنبيات على أنهن ضحايا أو بريئات حتى وإن ادعين أنهن خُدعن وتم استدراجهن. لكن لا يمكن تركهن مع أطفالهن في مخيمات ليس فيها أدنى مقومات العيش وغير قابلة للاستمرار وفي منطقة غير مستقرة، بل تنذر بمزيد من الاضطرابات في ظل وضع اقتصادي وأمني مختلّ.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.