لا يزال مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين جنوب دمشق غارقاً في الدمار، ولم تظهر مؤشرات على إعادة إعماره وعودة سكانه، رغم مضي نحو عام ونصف العام على سيطرة الحكومة السورية عليه، الأمر الذي يثير مخاوف لدى الأهالي من نيات مبيتة حول مصير المنطقة.
«مخيم اليرموك» الواقع على بعد أكثر من سبعة كيلومترات جنوب العاصمة، وتصل مساحته إلى كيلومترين مربعين، يتبع إدارياً لمحافظة دمشق، لكنه كان منذ ستينات القرن الماضي يتمتع بخصوصية إدارية مُنِحت له بقرار رسمي بأن تديره «لجنة محلية» بشكل مستقل. ويحده من الجهة الجنوبية «الحجر الأسود»، ومن الجهة الغربية حي «القدم»، بينما يحده من الشرق حي «التضامن» ومن الشمال منطقة «الزاهرة». وتم وضع اللبنات الأولى لإقامة «مخيم اليرموك» عام 1957، عندما كان بقعة صغيرة، قبل أن تتوسع دمشق ويصبح المخيم جزءاً أساسياً من مكوناتها الجغرافية والديموغرافية وأكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين في كل من سوريا ولبنان والأردن، ورمزاً لحق العودة. كما غدا يُعرف بـ«عاصمة الشتات الفلسطيني» كونه يضم 36 في المائة من اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، البالغ عددهم قبل الحرب أكثر من 450 ألف لاجئ، علماً بأنه يوجد في سوريا وحدها خمسة عشر مخيماً تتوزع على ست مدن.
وفي بدايات القرن العشرين، تسارع التطور العمراني في المخيم، وتحسنت الخدمات بشكل ملحوظ فيه، وتم افتتاح كثير من المراكز والمؤسسات الحكومية والأسواق التجارية لدرجة بات منطقة حيوية جداً أكثر من أحياء وسط العاصمة التي استقطب تجارها لفتح فروع لمحالهم التجارية فيه للاستفادة من الكثافة السكانية وجني أكبر قدر ممكن من الأرباح في أسواق (الألبسة والأحذية والصاغة والمفروشات والمأكولات الجاهزة)، باتت الأكبر والأكثر حيوية في العاصمة السورية.
وقبل اندلاع الحرب في سوريا المستمرة منذ سنوات، كان المرء وبمجرد وصوله إلى «مخيم اليرموك»، يدرك تماماً أن لقبه لا ينطبق عليه، ذلك أنه ومع دخوله في شارع اليرموك الرئيسي من مدخله الشمالي، يواجه سيلاً بشرياً تتزاحم أقدامه على الأرصفة لإيجاد مكان لها وتتقدم ببطء كالسلحفاة، في وقت لا يختلف المشهد في باقي أسواقه.
لكن ما حل بـ«مخيم اليرموك» خلال سنوات الحرب تسبب بنكبة لسكانه تجاوزت في مآسيها نكبة عام 1948 ونكسة 1967، حيث قُتِل وأُصِيب المئات، ونزح أغلب سكانه الذين كان يبلغ عددهم ما بين 500 و600 ألف نسمة من بينهم أكثر من 160 ألف لاجئ فلسطيني.
وفي مايو (أيار) 2018، شنّ الجيش الحكومي وفصائل فلسطينية موالية له عملية عسكرية عنيفة في المخيم، أنهت سيطرة فصائل معارضة وتنظيمي «داعش» و«جبهة النصرة» على المنطقة لفترة استمرت نحو ست أعوام، وتسببت بحجم دمار في المخيم يتجاوز نسبة 60 في المائة من الأبنية والمؤسسات والأسواق والبنى التحتية، بينما النسبة المتبقية تحتاج إلى ترميم كبير يكلف مبالغ مالية باهظة للغاية.
طغيان متواصل للدمار
الآن وبعد عام ونصف العام على استعادة الحكومة السيطرة عليه، لا يزال مشهد الدمار هو الطاغي على المنطقة، فقبل عشرات الأمتار من الوصول إلى مدخله الشمالي، يبدو بوضوح لـ«الشرق الأوسط»، أن المشهد في الجهة الشرقية من «شارع الـ30» من منازل سويت بالأرض وأخرى متهاوية وخراب كبير لا يزال على حاله، من دون أن تجري عملية إزالة أكوام الردم من الساحة المقابلة لشوارع «اليرموك الرئيسي»، و«فلسطين»، و«الثلاثين» المؤدية إلى داخله، من مشهد النكبة التي حلَّت بـ«عاصمة الشتات» الفلسطيني من جراء الحرب. وفي ظل الإجراءات المشددة التي تقوم بها عناصر من الجيش والفصائل الموالية لها المنتشرة على حواجز أقامتها على مداخل المخيم من تدقيق كبير في هويات الداخلين والخارجين من المخيم، يتحدث شهود عيان، لـ«الشرق الأوسط»، بأن المشهد في المدخل الجنوبي للمخيم لم يتغير أيضاً، فالدمار والخراب ما زالا يعمان معظم المنطقة، كما هو الحال في المدخل الشمالي، الذي يتزايد فيه مشهد الشاحنات الكبيرة الخارجة منه إلى العاصمة وهي محملة بأبواب ونوافذ والأثاث المنزلي يجري تعفيشها من المنازل، إضافة إلى قضبان الحديد المستخرجة من الأسقف المدمرة. كما لم تؤدّ عملية فتح الطرق الرئيسية الثلاثة على نفقة منظمة التحرير الفلسطينية، وكذلك بعض الشوارع من قبل فرق تطوعية إلى تحسن في أوضاع المقيمين حالياً في المخيم، حسب المصادر.
اللافت على ما تذكر المصادر، أن عمليات «التعفيش» وسرقة قضبان الحديد تجري تحت أعين عناصر الجيش والفصائل الموالية لها المنتشرة على الحواجز.
فضلت بضع عائلات تُعدّ على أصابع اليد البقاء في منازلها رغم الأحداث التي جرت في المخيم والنكبة التي حلّت به، لتدفع عن نفسها مأساة التشرد والنزوح والغلاء، لكن النازحين من الأهالي الذين يعيشون في دمشق ومحافظات أخرى، ما زالوا يعيشون على أمل وفاء الحكومة السورية بوعود أطلقها مسؤولون فيها منذ أشهر طويلة بإعادة أهالي المخيم إلى منازلهم التي بنوها حجراً حجراً بتعبهم وكدّهم على مدى سنوات طويلة على حساب لقمة عيشهم وصحتهم.
عجوز في العقد السادس من العمر، كان يسير بخطا متثاقلة للغاية بعد خروجه من المخيم إلى المناطق المجاورة لشراء بعض الحاجيات، ويردد بشكل متواصل عبارة «لا حول ولا قوة إلا بالله».
وبعد إلقاء التحية عليه، رفض العجوز لعدة مرات الإجابة عن سؤال لـ«الشرق الأوسط» حول أحوال القاطنين في المخيم، ومع الإلحاح عليه رد بعصبية وبلهجة فلسطينية بالقول: «بالله عليك تحل عنا... حل عنا يا زلمة... بكفينا يلي فينا».
وبعد أن استشعر العجوز الذي رفض مع زوجته الخروج من مسقط رأسهما رغم ضراوة وعنف المعارك التي حصلت في المخيم، أن رده حمل كثيراً من العصبية والفجاجة، أضاف بهدوء ممزوج بالحسرة: «يا ابني حياتنا مرة كتير... لا في دكان. لا في فرن... عم نموت ستين موتة حتى نجيب ربطة خبر. كيلو بندورة. كيلو خيار... خليها لله... الله يفرج ويرجع المخيم متل ما كان».
ويوضح العجوز، أن «المنظر» في شارع اليرموك الرئيسي: «ببكي. الشارع فاضي ما في إلا الدمار والخراب، والمحلات (التجارية) مدمرة بعضها وبعضها نهب ما فيها، والبيوت الواقفة (القائمة) صارت على العظم (قيد الإنشاء) بسبب السرقة».
وضع صعب
شهود عيان يتحدثون عن أن هناك «مؤشرات بسيطة للغاية على وجود حياة في وسط المخيم» أو ما يُطلق عليه «المخيم القديم» الممتد بين شارعي اليرموك الرئيسي غرباً وفلسطين شرقاً، ومن مدخل المخيم الشمالي شمالاً وشارع المدارس جنوباً، مشيرين إلى العائلات التي لم تخرج من منازلها أثناء الحرب. وتبدي المصادر استياء كبيراً من الوضع في المخيم. وتشير إلى مماطلة كبيرة من قبل الحكومة من أجل إعادة الأهالي إلى منازلهم رغم صدور قرار بإعادتهم من مسؤولين كبار، وتوضح: «المسؤولين رايحين جايين على أساس عم يعملوا دراسات لإعادة الماء والكهرباء والصرف الصحي. بس الشغلة طالت والحالة صعبة كتير»، وتضيف: «الناس خايفه، لأنو مرة (المسؤولين) بيحكوا رح ترجع الناس، ومرة بيحكوا في تنظيم، ومرة بيحكوا الرجعة بس (فقط) على البيوت بأرض المؤسسة (المخيم القديم)، والناس لعب الفأر بعبها».
وبعد أن تلفت المصادر إلى أن مخاوف الأهالي زادت أكثر على مصير أملاكهم مع إصدار الحكومة قراراً بحل «اللجنة المحلية»، وإدارته بشكل كلي من قبل محافظة دمشق، تقول: «أهالي المخيم هم مَن بنوه، وصار من أهم مناطق دمشق وسوريا»، وتضيف: «الكل بيعرف أن الحكومة تعاني من أزمة مالية كبيرة. إذا ما عندها مقدرة تترك الناس تعمر بيوتها».
وتشير إلى أن عائلات قاطنة في المخيم حاليا تعاني كثيراً في سبيل متابعة أطفالهم لدراستهم بعد تعطل جميع المدارس (التابعة لـ«الأنروا» والحكومة السورية) بسبب دمار غالبيتها وأضرار أصابت الأخرى.
ومع عدم تنفيذ الحكومة لقرارها بإعادة الأهالي النازحين من المخيم إلى منازلهم تزايد عدد العائلات في المخيم مؤخراً، حسب شهود العيان الذين يتحدث أحدهم عن عودة عائلات «بشكل مفاجئ» بين الحين والآخر، ويقول: «الرجعة لكل الأهالي ما صارت، بس كل يومين ثلاثة نرى عائلة أو عائلتين رجعت. كيف؟ ما حدا بيعرف»، في حين يصف شاهد عيان آخر طريقة عودة تلك العائلات بـ«الغامضة»، ويقول: «أغلبهم من المالكين الأساسيين ومقاتلون في الفصائل (الفلسطينية) ويدبرون أمرهم»، في إشارة إلى حصول هؤلاء على موافقات من الأجهزة الأمنية السورية بالعودة. وإذا كان يصعب الحصول على أرقام دقيقة للعائلات التي تعيش حالياً في المخيم، فإن تقديرات شهود العيان تشير إلى وجود أكثر من 2000 شخص، منهم مَن يعيش ضمن عائلاتهم، ومنهم شباب يعيشون بمفردهم.
واللافت أنه رغم عدم إعادة الخدمات من كهرباء ومياه وهاتف إلى المخيم، يلفت أحد شهود العيان إلى وجود تيار كهربائي ومياه في الجادات المأهولة، ويوضح أنه بالنسبة لتأمين المياه يتم من الآبار الموجودة في المنطقة، بينما الكهرباء فقد تم بجهود أهلية إيصال التيار الكهربائي إلى الجادات المسكونة من حواجز الجيش القريبة، أما بالنسبة لشبكة الهاتف الجوال فهناك صعوبة في إتمام الاتصالات بسبب تدمير الغالبية العظمى من أبراج التغطية.