الانحناء أمام سلطة الراوي

عن رواة القصص وأساطيرهم الهشة

شارع ديل كورسو في روما (تصوير الكاتب)
شارع ديل كورسو في روما (تصوير الكاتب)
TT

الانحناء أمام سلطة الراوي

شارع ديل كورسو في روما (تصوير الكاتب)
شارع ديل كورسو في روما (تصوير الكاتب)

هناك تواطؤ لا غنى عنه عند قراءة رواية أو مشاهدة فيلم أو مسرحية، وكذلك عند الخروج في رحلة سياحية.
نبدأ القراءة مستريحين في أماكننا أو نرتدي ملابسنا ونتزين ونخرج للمشاهدة رغم أننا نعرف أن الوقائع غير حقيقية، لكننا نتواطأ مع الكاتب لاعتبار ما نقرأه أو نراه حقيقياً. هذا التواطؤ يسميه تيري إيغلتون «الانحناء أمام سلطة الراوي» لا وجود للأدب من دون هذا الانحناء، وهو لحسن الحظ لا ينطوي على إذلال أو مخاطرة كبيرة، ما دمنا غير موقّعين على عقد طويل الأمد مع الراوي. (تيري إيغلتون، كيف نقرأ الأدب، ترجمة محمد درويش، الدار العربية للعلوم، ناشرون - بيروت 2013).
أعتقد أننا كذلك، لا نخاطر بشيء، إذا ما انحنينا أمام سلطة رواة القصص في رحلتنا؛ فزمن الرحلة محدود، والتواطؤ يسعدهم، ويسعدنا على السواء، ويجعل للسفر جدوى.
في كل لحظة من الرحلة هناك قصة تُروى. الدليل السياحي يحكي قصصاً، موظف الاستقبال في الفندق (إذا ما وجد الوقت) سيحكي لك قصص عظماء سبقوك إلى هذا المكان. مسافر تتعرف عليه صدفة يحكي قصة لقائه الأول برفيقته. بائع سلة من البامبو سيحكي لك تاريخ الحرفة اليدوية والتهديد الذي تواجهه وصعوبة حياة صُنَّاعها، ونادل المطعم عندما يجد لحظات يكفّ فيها عن الركض سيهبها لك، ويحكي واقفاً أمام مائدتك، القصة الأسطورية لعائلة المؤسسين، ذلك إن لمس منك معاملة فيها احترام الأصدقاء، وأنت بدورك لا بد أن تكون ممتناً لأنه خصك دون الآخرين بهذا الحديث الودي.
يجب أن تكون جاهزاً لمكافأة كل هؤلاء بشهقات إعجاب تتخطى حواجز اللغة وتقفز على ما لم تفهمه من حكاياتهم.
هناك شيء تافه في جوهر السياحة. والسائح الصالح هو السائح القادر على الاستمتاع بالأشياء الصغيرة، المستعد للاندهاش حتى من طبق كانت أمه تطبخ مثله بجودة أعلى.
في الوقت نفسه علينا ألا نبالغ في الاندهاش إلى الحد الذي يُفسد الأمر؛ فقد حكى لي من أثق في صدقه، أنه ذات رحلة بشمال إيطاليا، توجه مع زوجته وابنتيه ضمن فوج سياحي إلى شرق زيوريخ بسويسرا، حيث قرية ماينفلد التي صارت قرية هايدي بعد شهرة رواية «هايدي» التي كتبتها السويسرية يوهانا شبيري، عام 1880، وأصبحت مشهورة في كثير من لغات العالم، وأُنتجت درامياً، وتحكي عن فتاة تتخلص منها عمتها لتعيش مع جدها المسن في قرية، وتستطيع أن تكسب حبه وحب أهل القرية بعد أن قابلوها بالرفض.
قام صديقي بالرحلة إذن من أجل ابنتيه اللتين استيقظتا مبكراً مفعمتين بالحماسة لزيارة قرية هايدي ورؤية بيت هايدي والتقاط الصور بجوار النافورة التي تقف أمامها هايدي منحنية تتأمل بئرها من خلف الصخرة.
على مشارف البيت، أبدى الدليل السياحي الإيطالي بعض الضجر، أشار إلى البيت القروي للأطفال لكي يدخلوا، ولفت نظر الكبار إلى حانة قريبة يمكن أن يشربوا فيها شيئاً كما سيفعل هو، انتظاراً لعودة الأطفال، لكنّ سائحاً فائق الحماسة أعلن اعتراضه:
- أريد أن أرى البيت من الداخل.
- تفضل اذهب. قال الدليل.
- أنت ستأتي معنا، لقد دفعنا لك من أجل هذا. أريد أن أعرف أين كانت تنام، وأين كانت تلعب وكيف كانت تجلب المياه من البئر.
- أين كانت تنام؟! هذه شخصية خيالية، والبيت أُقيم محاكاة للبيت الخيالي الموصوف في الرواية.
لكنّ السائح الذي لم يأبه لخضرة الوهاد وتموجات الأزرق النيلي والبنفسجي المنعكسة من السماء على الجليد فوق قمم الألب القريبة، لم يكن مستعداً للتنازل، وجعل الدليل يخرج عن تهذيبه السياحي، صارخاً:
- مصطنع، مصطنااااع، كل شيء مصطنع، البيت والأثاث والفساتين، وهايدي، كل شيء زائف في هذا البيت.
جرى كل هذا أمام الأطفال ففقدوا حماسهم. وهكذا أفسد راشد واحد متعة أكثر من عشرة صغار، لأنه استعدى الدليل السياحي على أسطورة هشة!
وليس أسوأ من السائح بالغ السذاجة إلا السائح المُفرِط في التفكير. الذي يرى محكمة روما القديمة فيفكر في الظلم الذي اكتنف بناء صرح العدالة الساحق. نعم لقد جرى العمل تحت ظروف قاسية؛ نحت للصخور ونقلها من أجل بناء غابة من الأعمدة في الواجهة الممتدة أمام النهر. لكن العمال والأباطرة وقضاة ذلك المبنى القاسي ماتوا، ولم يعد إلا هذا الصرح لنتأمله ونشكر من يروي لنا أساطيره! إذا كنت مصرياً، عليك أن تقنع بهديل الحمام المطمئن حول قواعد المسلات التي تزين ساحات روما. لا تفكر في رحلة المسلات من بلدك إلى هناك، أو لماذا لا تحظى الميادين المصرية بمسلات كميادين الآخرين، ولا تبدِ أي تذمر من احتكار الأقوياء لرمز فالوسي نحن اخترعناه. وإن كان لا بد من التفكير؛ فلتفكر بالمصادفة الحسنة التي جعلت العثمانيين يغفلون عن اعتماد الخوزقة وسيلة لعقاب المصريين كما كانوا يفعلون في بلاد البلقان، وإلا لكانت القمم المدببة للمسلات وسيلتهم لتنفيذ تلك العقوبة المرعبة.
التفكير ليس ممنوعاً بالمطلق عليك كسائح. لديك الكثير من الأشياء البسيطة التي يمكن أن تفكر فيها حفاظاً على لياقة عقلك في أثناء رحلة سياحية: هل تأخذ استراحة في أحد البارات بين السُيَّاح المسنين الذين أكسبتهم الأيام المال وأفقدتهم المرح، أم تشتري شطيرة تقضمها جالساً على درج الكنيسة بين الشباب المبتهج؟ هل تعود إلى غرفتك فترة القيلولة أم أن موعد العشاء الذي اقترب لا يسمح بهذه العودة، أجهد ذهنك في فك أسرار شبكة الشوارع المعقدة، وصولاً إلى مكتبة لا تقرأ لغة كتبها.
في الحقيقة، هناك الكثير لتفكر فيه عندما تكون سائحاً. تستطيع قضاء ما شئت من الوقت في تذكر اسم جيلاتيريا أحببت مذاق الجيلاتي فيها، أن تقطع كيلومترات على قدميك للوصول إلى مطعم يقدم البيتزا المخبوزة على نار الخشب، أن تتأمل مراراً وتكراراً هندياً يجلس في الهواء بردائه الذهبي، وتدقق النظر لاكتشاف الذراع اللامرئية التي ترفعه عن الأرض.
باختصار، لا تخرج من بيتك إذا لم تكن متأكداً من مهارتك في العودة إلى الطفولة. وإلا فإنك لا تهدد سعادتك الشخصية في الرحلة فحسب؛ بل مستقبل صناعة السياحة التي توفر مائة مليون وظيفة في العالم، ونحو ثلاثة تريليونات دولار.
- كاتب مصري



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.