كيف نتعامل مع طغيان الثقافة الرقمية في حياتنا؟

غالباً ما ترسخ جوانب عقلية إجرائية من غير محتوى معرفي ثري

يؤكد غيتس دائماً على أهمية القراءة الورقية وحجم المتعة التي يتحصّلها المرء من التعامل مع الكتاب
يؤكد غيتس دائماً على أهمية القراءة الورقية وحجم المتعة التي يتحصّلها المرء من التعامل مع الكتاب
TT

كيف نتعامل مع طغيان الثقافة الرقمية في حياتنا؟

يؤكد غيتس دائماً على أهمية القراءة الورقية وحجم المتعة التي يتحصّلها المرء من التعامل مع الكتاب
يؤكد غيتس دائماً على أهمية القراءة الورقية وحجم المتعة التي يتحصّلها المرء من التعامل مع الكتاب

ليس ثمة من ينكر - أو حتى يجرؤ على نكران - معالم التغوّل الطاغي الذي صارت تفرضه متطلبات الثقافة الرقمية على حياتنا المعاصرة، فقد بلغ مديات استحالت معها هذه الثقافة حضارة شاملة، ابتداءً من البنى الوظيفية التحتية وحتى أكثر التمثلات المعبّرة عن الرأسماليات الثقافية الرمزية؛ لذا لم يعُد غريباً وصف الثورة الصناعية الثالثة بالثورة المعلوماتية التي تشكّل النظم الرقمية جوهراً أساسياً في هياكلها المعرفية على المستويين الفكري والمادي.
ترافقت كلّ ثورة صناعية بشرية مع نمطية فلسفية تعلي شأن توجّه فكري محدّد بالمقارنة مع الأنماط الفلسفية الأخرى السائدة، ومن المؤكّد أنّ الثورة المعلوماتية القائمة على سيادة النظم الرقمية أعلت شأن الخوارزميات الرقمية، التي تُعدّ الهيكل الأساسي الذي تعمل بموجبه هذه النظم، ومع تقادم الزمن، وترسّخ تطبيقات النظم الرقمية (خصوصاً في حقل الذكاء الاصطناعي) تعاظمت خوارزميات النظم الرقمية، واستحالت فلسفة كاملة منذرة باندثار طيف كامل من القدرات الفكرية البشرية القائمة على المنطق التحليلي.
عادة ما يحصل مع كلّ ثورة صناعية أن تخفت بعض القدرات البشرية لصالح إعلاء شأن قدرات أخرى؛ إنما كانت هناك دوماً إمكانية للتحايل على طغيان القدرات المستجدة، والإبقاء على بعض القدرات السابقة، ومنعها من الأفول؛ لكنّ المعضلة الإشكالية مع الحضارة الرقمية تبدو عسيرة وشديدة الوطأة، لكونها تشمل كلّ جوانب حياتنا في أدق تفصيلاتها، ابتداءً من التفاصيل الشخصية البسيطة، وحتى أعقد الهياكل الإدارية المؤسساتية الوطنية والعالمية، وقد بلغ الأمر مستويات شديدة التداخل مع الحياة الفردية: الهاتف الجوال (الموبايل) على سبيل المثال صار مثالاً (ربما بدائياً بعض الشيء) للآليات اليومية الداعمة للحياة البشرية التي ستكون معلماً أساسياً سائداً في عصر الثورة الصناعية الرابعة، حيث ستكون السيادة معقودة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي العميق والروبوتات فائقة الذكاء.

تأثيرات على الدماغ البشري
يمتلك الدماغ البشري خاصية عجائبية يعبّرُ عنها بمفردة «اللدونة الدماغية»؛ تلك الخاصية الفريدة التي تجعل الدماغ البشري قادراً على تعلّم قدرات جديدة غير متاحة من قبلُ من خلال تخليق اشتباكات عصبية دماغية بتشكّلات لا نهاية لإمكاناتها المتاحة على مستوى البيولوجيا الجزيئية للمادة الدماغية، وليست العبقرية البشرية في نهاية الأمر سوى نتاج لهذه التشكّلات اللانهائية التي قد يحدث أن تظهر بطريقة شديدة الفرادة؛ غير أنّ هذه التشكلات لا تحصل إلا من خلال الجهد البشري المنظّم والمنضبط والمتّسم بالمجالدة والشغف.
إنّ شيوع النظم الرقمية وخوارزمياتها المتغولة، على مدار الوقت في حياتنا اليومية، أمر كفيل بكبح ممكنات «اللدونة الدماغية»، وجعلها تنكفئ في نمطية موحّدة ستطفئ جذوة الفكر التحليلي والقدرة الفلسفية، وكلّ القدرات العقلية المتفردة التي كانت معالم جوهرية للارتقاء البشري في عصوره المتعاقبة.
يطيب للبعض رؤية الأجيال الشابة (خصوصاً الأطفال واليافعون منهم)، وهم مستغرقون في عالمهم الرقمي، وقد يحسبون هذا النمط من الانهماك دليلاً على قدرة مبكرة في التواصل مع أحدث المبتكرات التقنية الرقمية؛ غير أنّ هذه الرؤية خاطئة تماماً لأسباب عدة منها: أنّ التعامل مع المبتكرات التقنية شيء، وامتلاك القدرة على تخليقها شيء آخر، تماماً مثلما هو الفرق بين قارئ الكتاب العادي والمؤلّف، ثم إن الاستغراق الإدماني في العوالم الرقمية غالباً ما يكون في الألعاب والتطبيقات التي ترسّخ جوانب عقلية إجرائية من غير محتوى معرفي ثري، فضلاً عن ترسيخها لأنماط أدائية محددة تنعدم فيها الخبرات المشتبكة، والألوان المعرفية المتداخلة؛ الأمر الذي ينجم عنه - بالتأكيد - إفقار عقلي شديد الوطأة سيطيح بكلّ الخبرات البشرية على نحو سيجعل الدماغ البشري محض جهاز أدائي خوارزمي مفتقد للقدرات التحليلية الثمينة.

تجربة بل غيتس مثالاً
معظمنا يعرف من هو بل غيتس: أحد صانعي الثورة المعلوماتية المعاصرة، والرجل الذي جعل نظام التشغيل «ويندوز» متاحاً بالمجان للجميع، وعلى نحو شبيه بما فعله هنري فورد الذي جعل أميركا «أمة تسير على عجلات»، في إشارة إلى السيارة التي صارت رمزاً للثورة الصناعية الثانية (إلى جانب القطار)، ولكن مع فارق أن فورد كان يبيع منتجاته لمن هو قادر على تحمّل تكاليفها. لست أسعى هنا للقول إن غيتس لا يبيع مبتكراته التقنية، ويطرحها كلها بالمجان، وإلا ما صار أحد أبرز مليارديرات العالم؛ لكني أريد تأكيد حقيقة أن نظام التشغيل «وندوز»، على وجه التحديد، مجاني متاح للجميع بمثل ما أتاح تيم بيرنرز لي الشبكة العالمية (الإنترنت) مجاناً أمام الجميع.
سيجد كلّ من يتابع بل غيتس على موقعه المعنون «gatesnotes»، أنه قلّما يتناول موضوعات ذات تفاصيل تقنية بعكس الموضوعات الإنسانية الخيرية والثقافية التي تشغل معظم حيّز مدوّنته الإلكترونية، وقد دأب غيتس منذ سنوات عدّة على ترشيح قائمة بعناوين كتب منتخبة للقراءة، خصوصاً قبل العطلات المعروفة في أميركا - وأهمها العطلة الصيفية -، والكتب المنتخبة هي كتب ورقية عددها خمسة في العادة، ويحرص غيتس على الظهور معها في صورة تكشف عن مقدار الحميمية التي يكنّها لتلك الكتب.
إنّ تأكيد غيتس على أهمية القراءة الورقية، وحجم المتعة التي يتحصّلها المرء من التعامل مع الكتاب، باعتباره كينونة مادية مشخصنة ومنجماً للأفكار المنعشة، هو تأكيد لأهمية منح النفس فرصة للانفكاك من إدمان العالم الرقمي، وعدم خسارة المزايا العظيمة التي اكتسبها الكائن البشري على الصعيد الرمزي في سلسلة تطوره الارتقائي البيولوجي، وما تأكيد غيتس - وهو القطب الرأسمالي الضارب في الصناعة المعلوماتية - على أهمية هذه المزايا الرمزية سوى خبرة مؤكدة ناجمة عن معرفة مسبقة بالأضرار الفادحة التي يمكن أن تنشأ عن التعامل الرقمي الإدماني المُفرّغ من الخبرات المعرفية الجادة.
قد يكون فرض نوع من التعتيم الرقمي (الاختياري أو الإجباري) الموسمي أو اليومي شكلاً من أشكال العلاجات المسوّغة للتغول الرقمي؛ لكن الأمر منوط بصدق الرغبة والمعرفة الدقيقة بالخسارة الكبرى التي تترتب على فقدان مزايانا الرأسمالية الرمزية تحت ضربات الطاحونة الرقمية.

الرواية علاجاً
لا يخفى أن خفوت الشغف التحليلي والفلسفي ينطوي على مخاطر عدة، من بينها تراخي النزعة الإنسانية، وفقدان التواصل الحي مع الإرث الإنساني في شتى حقوله المعرفية، وشيوع نوع مستحدث من العبودية الرقمية، التي يسهل توظيفها لخلق نوع من ديكتاتوريات رقمية شديدة الوطأة. في مواجهة هذه المثلبة الرقمية يمكن للقراءة المنتظمة للرواية أن تحافظ على التراث الإنساني، وتعمل على الارتقاء المتواصل في المناطق الدماغية الخاصة بالقدرات التحليلية والإبداعية، وتجنّب الانكفاء في لجّة الخبرات المنمّطة.
قد يتساءل البعض: لِم التركيز على الرواية بين كلّ أشكال القراءة المتاحة؟ الجواب يكمن في طبيعة الرواية ذاتها؛ فقد صارت الرواية في عصرنا هذا خزاناً معرفياً يعجّ بشتى صنوف المعرفة، فضلاً عن توفّره على عناصر تخييلية تقرن الخبرة بالمتعة، وتجعل القراءة فعالية شبيهة بأحلام اليقظة القادرة على فكّ ارتباط الفرد مع العالم الرقمي، وكسر الأغلال الخوارزمية التي تشدّه إلى ذلك العالم.
- كاتبة وروائية ومترجمة عراقية مقيمة في الأردن



مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟
TT

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

صدر العدد الجديد من مجلة الفيصل وتضمن العديد من الموضوعات والمواد المهمة. وكرست المجلة ملف العدد لموضوع إقصاء المرأة من حقل الفلسفة، وعدم وجود فيلسوفات. شارك في الملف: كل من رسلان عامر: «غياب المرأة الفلسفي بين التاريخ والتأريخ». خديجة زتيلي: «هل بالإمكان الحديث عن مساهمة نسائية في الفلسفة العربية المعاصرة؟» فرانك درويش: «المرأة في محيط الفلسفة». أحمد برقاوي: «ما الذي حال بين المرأة والتفلسف؟» ريتا فرج: «الفيلسوفات وتطور الأبحاث الحديثة من اليونان القديمة إلى التاريخ المعاصر». يمنى طريف الخولي: «النساء حين يتفلسفن». نذير الماجد: «الفلسفة نتاج هيمنة ذكورية أم نشاط إنساني محايد؟» كلير مثاك كومهيل، راشيل وايزمان: «كيف أعادت أربع نساء الفلسفة إلى الحياة؟» (ترجمة: سماح ممدوح حسن).

أما الحوار فكان مع المفكر التونسي فتحي التريكي (حاوره: مرزوق العمري)، وفيه يؤكد على أن الدين لا يعوض الفلسفة، وأن الفلسفة لا تحل محل الدين، وأن المفكرين الدينيين الحقيقيين يرفضون التفلسف لتنشيط نظرياتهم وآرائهم. وكذلك تضمن العدد حواراً مع الروائي العربي إبراهيم عبد المجيد الذي يرى أن الحزن والفقد ليس مصدرهما التقدم في العمر فقط... ولكن أن تنظر حولك فترى وطناً لم يعد وطناً (حاوره: حسين عبد الرحيم).

ونطالع مقالات لكل من المفكر المغربي عبد العزيز بومسهولي «الفلسفة وإعادة التفكير في الممارسات الثقافية»، والكاتب والأكاديمي السعودي عبد الله البريدي «اللغة والقيم العابرة... مقاربة لفك الرموز»، وضمنه يقول إننا مطالبون بتطوير مناهج بحثية لتحليل تورط اللغة بتمرير أفكار معطوبة وقيم عدمية وهويات رديئة. ويذهب الناقد سعيد بنكراد في مقال «الصورة من المحاكاة إلى البناء الجمالي» إلى أن الصورة ليست محاكاة ولا تنقل بحياد أو صدق ما تمثله، لكنها على العكس من ذلك تتصرف في ممكنات موضوعاتها. وترجم ميلود عرنيبة مقال الفرنسي ميشال لوبغي «من أجل محبة الكتب إمبراطورية الغيوم».

ونقرأ مقالاً للأنثروبولوجي الفرنسي فرانك ميرمييه بعنوان «مسار أنثربولوجي فرنسي في اليمن». ومقال «لا تحرر الحرية» (أريانا ماركيتي، ترجمة إسماعيل نسيم). و«فوزية أبو خالد... لم يزل الماء الطين طرياً بين أصابع اللغة» (أحمد بوقري). «أعباء الذاكرة ومسؤولية الكتابة» (هيثم حسين). «العمى العالمي: غزة بين فوضى الحرب واستعادة الإنسانية» (يوسف القدرة). «الطيور على أشكالها تقع: سوسيولوجيا شبكة العلاقات الاجتماعية» (نادية سروجي). «هومي بابا: درس في الشغف» (لطفية الدليمي).

ويطالع القارئ في مختلف أبواب المجلة عدداً من الموضوعات المهمة. وهي كالتالي: قضايا: سقوط التماثيل... إزاحة للفضاء السيميائي وإعادة ترتيب للهياكل والأجساد والأصوات (نزار أغري). ثقافات: «هل يمكن أن تحب الفن وتكره الفنان؟» ميليسا فيبوس (ترجمة خولة سليمان). بورتريه: محمد خضر... المؤلف وسرديات الأسلوب المتأخر (علي حسن الفواز). عمارة: إعادة تشكيل الفضاءات العامة والخاصة في جدة بين التراث والحداثة (بدر الدين مصطفى). حكايتي مع الكتب: الكتب صحبة رائعة وجميلة الهمس (فيصل دراج). فضاءات: «11 رصيف برنلي»... الابنة غير الشرعية لفرنسوا ميتران تواجه أشباح الحياة السرية (ترجمة جمال الجلاصي). تحقيقات: الترفيه قوة ناعمة في بناء المستقبل وتنمية ثقافية مؤثرة في المجتمع السعودي (هدى الدغفق). جوائز: جوائز الترجمة العربية بين المنجز والمأمول (الزواوي بغورة). المسرح: الكاتبة ملحة عبد الله: لا أكتب من أجل جائزة أو أن يصفق لي الجمهور، إنما كي أسجل اسمي في تاريخ الفن (حوار: صبحي موسى).

وفي باب القراءات: نجوان درويش... تجربة فلسطينية جسورة تليق بالشعر الجديد (محمد عبيد الله). جماليات البيت وسردية الخواء... قراءة في روايات علاء الديب (عمر شهريار). «أغنية للعتمة» ماتروشكا الحكايات والأنساب تشطر التاريخ في صعودها نحو الأغنية (سمية عزام). تشكيل: مهدية آل طالب: دور الفن لا يتحقق سوى من خلال الفنان (هدى الدغفق). مسرح: المنظومة المسرحية الألمانية يؤرقها سوء الإدارة والتمييز (عبد السلام إبراهيم)

ونقرأ مراجعات لكتب: «وجه صغير يتكدس في كل ظهيرة» (عماد الدين موسى)، «مروة» (نشوة أحمد)، «خاتم سليمي» (نور السيد)، «غراميات استثنائية فادحة» (معتصم الشاعر)، «أبناء الطين» (حسام الأحمد)، «حساء بمذاق الورد» (جميلة عمايرة).

وفي العدد نطالع نصوص: «مارتن هيدغر يصحو من نومه» (سيف الرحبي)، «مختارات من الشعر الكوري» (محمد خطاب)، «سحر الأزرق» (مشاعل عبد الله)، «معرض وجوه» (طاهر آل سيف)، «سارقة الذكريات» (وجدي الأهدل)، «أوهام الشجر» (منصور الجهني).