جو سوينسون تراهن على سقوط «الثنائية الحزبية» في بريطانيا

هل تصبح «صغيرة البرلمان» الليبرالية صانعة القادة في «انتخابات بريكست»؟

جو سوينسون تراهن على سقوط «الثنائية الحزبية» في بريطانيا
TT

جو سوينسون تراهن على سقوط «الثنائية الحزبية» في بريطانيا

جو سوينسون تراهن على سقوط «الثنائية الحزبية» في بريطانيا

كانوا حتى أمس القريب يسمونها «صغيرة المجلس»، لكنها أصبحت اليوم من أهم وجوه السياسة البريطانية.
إنها جو سوينسون، زعيمة حزب الديمقراطيين الأحرار، التي كانت أصغر نواب مجلس العموم سنّا عندما انتخبت عن دائرة شرق دونبارتون شير، في وسط أسكوتلندا، عام 2005، وهي لا تزال في الـ25. لكنها اليوم، وهي تقترب من الـ40، تجد سوينسون نفسها في واجهة الساحة السياسية البريطانية، وقد رفعت شعاراً مثيراً للجدل كان شبه محرّم في أروقة «قصر ويسمنستر» (حيث مقر مجلسي العموم واللوردات) في لندن قبل أسابيع. ألا وهو شعار «البقاء في الاتحاد الأوروبي»، وعكس نتيجة استفتاء يونيو (حزيران) 2016، الذي قرّر خلاله نحو 52 في المائة من الناخبين وضع حد لعقود من عضوية بريطانيا في الأسرة الأوروبية.

قد يبدو رهان جو سوينسون، زعيمة حزب الديمقراطيين الأحرار، وحزبها، مخاطرة كبيرة، إلا أنه يعيد تعريف ذلك الحزب الليبرالي الذي لطالما كان متأرجحاً بين اليمين واليسار، فاتّهمته المعارضة «العمالية» بأنه «مُسهّل» للمحافظين، بينما اتّهمه المحافظون بأنه أوروبي أكثر منه بريطاني. وفي وقت تزداد الثنائية الحزبية المهيمنة على السياسة البريطانية هشاشة، قد تنجح سوينسون في انتزاع أصوات «عمالية»، أو حتى «محافظة» داعمة لمعسكر البقاء في الاتحاد الأوروبي. فمن هي جو سوينسون؟ وهل تنجح استراتيجيتها الانتخابية المعتمدة على «عكس بريكست» في تغيير الخريطة السياسية البريطانية كما نعرفها؟

طموح سياسي مبكر
جوان كيت سوينسون، سياسية بريطانية وُلدت في مدينة غلاسغو كبرى مدن أسكوتلندا يوم 5 فبراير (شباط) من عام 1980، ودرست الإدارة في كلية لندن للاقتصاد - إحدى أعرق وأرقى جامعات بريطانيا وأوروبا. وبعد التخرّج عملت لفترة قصيرة في مجال العلاقات العامة، قبل أن تُنتخب لعضوية مجلس العموم عن دائرة شرق دونبارتون شير عام 2005، لتصبح أصغر أعضاء البرلمان سناً في ذلك الوقت.
ومع أن سوينسون خسرت مقعدها في عام 2015 أمام جون نيكلسون، مرشح «الحزب القومي الأسكوتلندي»، فإنها استرجعته في الانتخابات المبكرة عام 2017. ثم شغلت سوينسون خلال عملها نائبة منصب الناطقة بلسان «الديمقراطيين الأحرار»، وغطّت قضايا مختلفة شملت أسكوتلندا والمساواة بين الجنسين، وشؤون الخارجية و«الكومنولث».
عام 2010، بعدما دخل «الديمقراطيون الأحرار» في حكومة ائتلافية مع حزب المحافظين، برئاسة ديفيد كاميرون، شغلت سوينسون منصب السكرتير البرلماني الخاص لنائب رئيس الوزراء نيك كليغ، وعُينت لاحقاً وكيلة وزارة الدولة لعلاقات التوظيف.
وبعد وقت قصير من عودتها إلى البرلمان عام 2017، لمع نجم سوينسون، وبدأ أعضاء في الحزب يرونها «وريثة» طبيعية لزعيمه آنذاك فينس كايبل، وبالفعل، انتخبت بالإجماع نائبة لزعيم «الديمقراطيين الأحرار». ثم، خلال شهر مايو (أيار) عام 2019، أعلنت سوينسون نيّتها خلافة كايبل، متحدّية الوزير والمرشح البارز السير إد دايفي. وفي انتخابات الزعامة، فازت بالمنصب في يوليو (تموز) الماضي متغلبة على دايفي، لتصبح أول امرأة وأصغر زعيم لحزب الديمقراطيين الأحرار.
ما يذكر، أنه إلى جانب نشاط سوينسون السياسي، حازت مواقفها الداعمة لحقوق الآباء الجدد، وساعات العمل المرنة، والمعارضة لتخصيص حصص لتوظيف النساء، الكثير من الاهتمام في الأوساط الاقتصادية. كما اختارتها صحيفة «الإيفنينغ ستاندرد»، واسعة الانتشار، إحدى أكثر 1000 شخصية تأثيراً في لندن، خلال أعوام 2011 و2012 و2013 و2014.

حزب الوسط؟
«بلادنا تستحق أفضل مما يُقدّمه الحزبان المحافظ والعمالي المتقادمان والمتعبان، كلاهما يريد (بريكست). (...) لن أضع حدًا لطموحي وطموح (الديمقراطيين الأحرار) لبناء مستقبل أفضل (...)، أستطيع أن أكون رئيسة وزرائكم»، تكرّر سوينسون هذه الشعارات في التجمعات الانتخابية، والقنوات التلفزيونية، وربما الأهم منهما، في منصّات التواصل الاجتماعي، بلا كلل.
ومع اقتراب موعد الانتخابات العامة المبكرة في 12 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، ينتهج حزب سوينسون استراتيجية مختلفة عن حزبي اليمين واليسار. إذ جعل حزب المحافظين بقيادة رئيس الوزراء بوريس جونسون - المحسوب على يمين حزبه - «تحقيق الخروج من الاتحاد الأوروبي الشعار الرئيسي لحملته الانتخابية»، في حين تعهد منافسه المباشر، حزب العمال، للناخبين بإجراء استفتاء جديد بشأن «بريكست»، مرسلاً إشارات خجولة إلى أنه يفضّل البقاء في الاتحاد.
من ناحية أخرى، تسعى سوينسون إلى تقديم نفسها للناخبين كوجهٍ جديد، غير معروف لدى كثيرين، يطرح نهجاً وسطياً وعقلانياً مختلفاً عن الحزبين التقليديين في وضوحه تجاه قضايا مثل «بريكست»، ونظام الرعاية الصحية، ومواجهة تحديات التغيّر المناخي.
وتوافقاً مع هذا النهج، اعترفت سوينسون بما اعتبرته «أخطاء» الحزب السابقة، خصوصاً تلك التي ارتكبها بمشاركته في حكومة المحافظين برئاسة كاميرون عام 2010. ولقد أدت مشاركته تلك إلى تعرّض الحزب لهزيمة قاسية في انتخابات 2015، تراجع معها عدد مقاعد الحزب من 57 إلى 8 مقاعد فقط. كذلك، عبّرت عن أسفها لدعم الحزب سياسات اعتبرها البعض تقشّفية، وتغييرات في نظام الرعاية الصحية، وضريبة إضافية على السكن.
واليوم، تأمل سوينسون في إحداث قطيعة مع أخطاء الماضي، وإعادة تعريف الحزب وتوجّهاته ومبادئه، واختارت قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كقضية محورية لتحقيق ذلك.
وفي دعوة حزبها إلى إلغاء مادة 50 من «معاهدة لشبونة»، التي أطلقت عملية «بريكست» رسمياً، تضاعف عدد «الديمقراطيين الأحرار» في الساحة السياسية، وأصبحوا فعلياً «حزب البقاء في أوروبا». وبذا، نجح الحزب حيث فشل آخرون، مثل حزب «التغيير» الذي وُلد من رحم انشقاقات من الحزبين الأساسيين (المحافظون والعمال) لكنه لم يستمرّ سوى بضعة أشهر، ليعلن غالبية أعضائه الانضمام إلى «الديمقراطيين الأحرار».
وفي حين يُحسب هذا الإنجاز لحزب سوينسون، الذي نال المرتبة الثالثة في استطلاعات رأي حديثة، فإن فوزه بغالبية المقاعد مستبعد للغاية، إن لم يكن مستحيلاً. ونقلت صحيفة «الفاينانشال تايمز» أخيراً عن مصادر مقرّبة من دوائر القرار في الحزب، أن قيادييه يُدركون أن الفوز بـ45 مقعداً سيُعدّ انتصاراً بارزاً، يعيد الحزب إلى الحسابات السياسية الدائرة في مجلس العموم. خصوصاً وأن الحزب، رغم تعافيه النسبي من نتيجة تحالفه الكارثي مع المحافظين، لم يحصل إلا على 12 مقعداً في انتخابات 2017 المبكّرة التي دعت إليها تيريزا ماي.
في أي حال، في حال أفضت الانتخابات المبكرة إلى «سيناريو» البرلمان المعلّق - أي من دون غالبية مطلق لأي حزب - كما تتوقع استطلاعات الرأي، واستعاد «الديمقراطيون الأحرار» المقاعد التي خسروها بعد 2010، فإن سوينسون قد تصبح «صانعة القادة» الجديدة... وتحدّد هوية ساكن «10 داونينغ ستريت» الجديد.

تهديد للمقاعد «العمالية»
على مدار الأسابيع الخمسة المقبلة، يأمل «الديمقراطيون الأحرار» في الفوز بأصوات ناخبين يبحثون عن الوسطية، وسط أجواء سياسية مشحونة بين سعي جونسون إلى خروج «قاسٍ» لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبرنامج غريمه العمالي جيريمي كوربن، الذي يوازيه وربما يبزّه في «راديكاليته»... ولكن يساراً.
وعلى الرغم من أن التوقعات، حتى اللحظة، لا ترقى لطموح سوينسون بالفوز برئاسة الوزراء، فإن «الديمقراطيين الأحرار» قد يجدون أنفسهم في موقع قوة في 12 ديسمبر (كانون الأول) المقبل (تاريخ الانتخابات التشريعية المقبلة). والواضح أن حملة سوينسون تركّز على انتزاع مقاعد «عمالية» في المناطق التي صوّتت للبقاء في الاتحاد الأوروبي، واستغلال غضب بعض المعاقل «العمالية» التقليدية من نهج كوربن المتردد حيال «بريكست». ومعلوم أنه منذ أصبح كوربن داعماً لتنظيم استفتاء ثانٍ على الخروج من الاتحاد الأوروبي، تحت ضغوط من داخل حزبه، فإنه رفض تحديد ما إذا كان سيدعم الخروج أو البقاء.
في المقابل، فإن سوينسون تراهن على أن موقف حزبها كان متماسكاً منذ البداية، وأنه لم يتخلَّ أبداً عن تأييده للاستفتاء وللبقاء في الاتحاد الأوروبي. إلى ذلك، فإن «الديمقراطيين الأحرار» يراهنون على الفوز بتأييد بعض المحافظين، المعارضين لـ«بريكست»، إلا أن فرص حصول ذلك تبقى ضئيلة.
وفي مقابل هذا التفاؤل، اعتبر أنتوني ويلز، مدير الأبحاث في مؤسسة الاستطلاعات «يوغوف»، أن تحقيق «تقدم حقيقي» يشكل تحدياً كبيراً لـ«الديمقراطيين الأحرار». وهو رأي كرّره بعض المراقبين السياسيين، الذين أعربوا عن مخاوف من أن الحزب حدّ من جاذبيته لناخبي المناطق خارج العاصمة لندن (التي صوتت لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي)، بدعوته الصريحة لنقض الخروج من الاتحاد الأوروبي.
في المقابل، يشكك البعض الآخر في معارضة «الديمقراطيين الأحرار» للحكومة الحالية، ومن هؤلاء نيكولا ستورجن، وزيرة أسكوتلندا الأولى والزعيمة القومية الأسكوتلندية، التي وصفتهم أمس بـ«حزب ويسمنستر»، لا حزب «معارضة بريكست».
بدوره، قال نيل باريش، وهو نائب محافظ، إن مواقف «الديمقراطيين الأحرار» ضمنت له مقعده في البرلمان. وتابع في تصريحات صحافية: «قد تنجح (استراتيجيتهم) في أجزاء من لندن، لكنها لن تنجح خارجها»، في إشارة إلى أجزاء كثيرة جنوب غربي إنجلترا. ثم أردف: «إن الناس يريدون فقط الخروج من الاتحاد الأوروبي».

التصويت التكتيكي
ولكن، في محاولة لمواجهة نقاط ضعفهم، يدعو مرشحون من «الديمقراطيين الأحرار»، الناخبين، إلى «التصويت تكتيكياً» لقطع الطريق أمام عودة المحافظين، مع أن معارضة سوينسون الشديدة والصريحة لزعيم حزب العمال كوربن، وسياساته، قد تعيق نجاح هذه الاستراتيجية.
ويرى الكاتب السياسي مارتن كيتل، في هذا السياق، أن حزب سوينسون لن ينجح في تعزيز عودته إلى الساحة السياسية سوى عن طريق انتخاب المزيد من نواب داخل البرلمان. ولن يحدث ذلك في نظره، إلا إذا كان هناك «نوع من الاقتراع التكتيكي في الانتخابات العامة المقبلة، شبيه بالذي ساعد بادي آشداون، الزعيم الأسبق للحزب، على زيادة عدد النواب الديمقراطيين الأحرار عام 1997 بأكثر من الضعفين». ويضيف: «أدرك الناخبون التقدميون آنذاك أنه قاد حزباً يمكنه العمل مع حزب توني بلير». بيد أن كيتل استدرك في مقال رأي نشره في صحيفة «الغارديان» فقال: «على النقيض من ذلك، تواجه سوينسون حالياً علاقة أكثر صعوبة مع قيادة حزب العمال الحالية التي لا يدعمها الكثير من مؤيدي الديمقراطيين الأحرار. ومع ذلك، ما لم تتمكن من جعل هذه العلاقة ناجحة، سيكون هناك فائز واحد فقط، ولن يكون الحزب الديمقراطي الحر».
في المقابل، وبينما ترفض سوينسون دعم كوربن، فإنها تسعى إلى التقرّب من الأحزاب المعارضة الأخرى. وحقاً، أعلنت أصغر ثلاثة أحزاب في بريطانيا، أول من أمس، اتفاقاً انتخابياً في محاولة لجذب المزيد من النواب البرلمانيين الذين يفضلون البقاء في الاتحاد الأوروبي.
وانضم «الديمقراطيون الأحرار» إلى حزب «الخضر» البيئي و«الحزب القومي الويلزي»، في اتفاق تعاون للحصول على 60 مقعداً من أصل الـ650 مقعداً في البرلمان في الانتخابات المقبلة، ما يعني أن مرشحاً واحداً فقط سيمثل الأحزاب الثلاثة عن كل دائرة انتخابية تخوضها، كما نقلت وكالة الأنباء الألمانية.
وعلقت جو سوينسون، في تغريدة، على الاتفاق بالقول «أنا سعيدة لأننا استطعنا إعلان هذا الترتيب للتأكد من أننا سنحصل على أكبر عدد ممكن من النواب المؤيدين للبقاء في الاتحاد الأوروبي».
وأضافت: «مستقبلنا الأكثر إشراقاً سنصنعه بالعمل معاً، وبالتالي، يمكننا الاتحاد للبقاء (في التكتل الأوروبي)».
بدوره، قال حزب «الخضر» إن الاتفاقية ستسمح له «بالتنافس على 10 مقاعد في إنجلترا وويلز». وأفاد الزعيم المشارك للحزب جوناثان بارتلي، في بيان، بأن «هذا يتمحور حول إدراك كم سيكون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مضراً - للأفراد وللبيئة - وضمان أن يكون هناك أكبر عدد ممكن من الأحزاب المنادية بالبقاء في البرلمان المقبل قدر المستطاع». ومن جهته، أكد آدم برايس زعيم «القوميين الويلزيين»، أن حزبه «سيولي أولوية لمصلحة ويلز الوطنية، وينحي السياسات الحزبية جانباً، للحصول على دعم أكبر عدد ممكن من النواب من الأحزاب المؤيدة للبقاء في الاتحاد الأوروبي في هذه الانتخابات الحاسمة».
وعلى أي حال، ستكشف الأسابيع القليلة المقبلة ما إذا كان رهان سوينسون ناجحاً، وما إذا كان حزبها سينهي عقوداً من «الثنائية الحزبية»، ويرجح كفة البرلمان لصالح دعم استفتاء جديد يفضي إلى البقاء في الاتحاد الأوروبي.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.