تركيا... شخصنة السلطة ومنحنيات الانحراف نحو الحكم الاستبدادي

كتاب فرنسي عن تحول نظامها السياسي

مظاهرة ضد إردوغان (أ.ف.ب)
مظاهرة ضد إردوغان (أ.ف.ب)
TT

تركيا... شخصنة السلطة ومنحنيات الانحراف نحو الحكم الاستبدادي

مظاهرة ضد إردوغان (أ.ف.ب)
مظاهرة ضد إردوغان (أ.ف.ب)

دفعت وتيرة الاستبداد التركي المتصاعدة على النطاقين المحلي والإقليمي مجلة «ملتقيات متوسطية» الفرنسية الفصلية إلى أن تصدر مؤخراً كتاباً تحت إشرافها وإدارتها بعنوان «تركيا: عودة الاستبداد» عن دار النشر الفرنسية «هرماتون».
يقع الكتاب في مائتي صفحة من القطع المتوسط، ولا تنحصر أهميته فقط في كونه يصدر تحت رعاية واحدة من أهم المجلات الفرنسية الفصلية المتخصصة التي تهتم بالقضايا الثقافية والسياسية المتعلقة بمجتمعات منطقة البحر المتوسط، وإنما أيضاً لأنه نتاج فكري وتحليلي استراتيجي لمجموعة من أهم خبراء الملف التركي.
يرى معدّو هذا الكتاب أن تركيا تشهد منذ بداية عام 2010 سرعة ملحوظة في وتيرة ديناميكيات مركزية استبدادية للنظام السياسي الحاكم، إضافة إلى «شخصنة» متصاعدة للسلطة في شخص رجب طيب إردوغان. وقد شهد هذا النمط الاستبدادي صعوداً واضحاً، خصوصاً بعد محاولة «الانقلاب» التي استهدفت النظام في 15 من يوليو (تموز) 2016، وهو التاريخ الذي يؤرخ بداية فترة جديدة من الرئاسة الاستبدادية مع غياب الحياة الدستورية مصحوبة بانعدام تام للمعارضة.

شخصنة السلطة
يوضح الكتاب أن محاولة الانقلاب التي استهدفت النظام التركي في 15 من يوليو 2016 تمثل نقطة تحول جوهرية في تاريخ تركيا، حيث تشهد البلاد منذ ذلك الحين سلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية مع تزايد نفوذ وقدرة الحزب الحاكم ليس فقط على كبح جماح حشود المعارضة، لكن أيضاً على مجابهة أزمات مؤسسية خطيرة، حيث نجح الحزب في فرض نفسه باستغلال الأزمات التي تعاني منها البلاد، كما أن المجابهة بين الحزب الحاكم «العدالة والتنمية» وأنصار المعارض عبد الله غول تمثل أيضاً مرحلة جديدة في مركزية استبدادية للنظام السياسي الحاكم في تركيا. يؤكد ذلك التحول السياسي الخطير الذي تشهده البلاد الآن والمتمثل في التحول للنظام الرئاسي الذي جعل من إردوغان رئيساً بمقومات وصلاحيات نصف إله. ويشير الكتاب إلى أن إردوغان غذّى هذا التوجه ليحقق أهدافه بالانتقال إلى النظام الرئاسي بموجب استفتاء أبريل (نيسان) 2017 الذي أُجري في مناخ سياسي مشحون قوامه حالة الطوارئ التي أقرها إردوغان في البلاد على خلفية محاولة الانقلاب التي استهدفت نظامه في 2016. ولذلك؛ فقد أضحت البلاد منذ ذلك الحين رهينة لمركزية استبدادية واضحة ليس فقط على المستوى التنفيذي فحسب، لكن أيضاً على مستوى النظام الرئاسي وانعكس ذلك جلياً على أسلوب اتخاذ القرار، سواء على المستوى الداخلي أو الإقليمي أو الدولي.
ويوضح الكتاب، أنه ترتب على هذه السياسة تعميق وزيادة نفوذ العناصر قريبة الصلة ليس فقط من الحزب الحاكم، لكن أيضاً عودة وجوه قديمة وشبكات مصالح خاصة لصدارة المشهد كانت في منطقة المعارضة من قبل، كما أن شخصنة نظام الرئاسة أدى كذلك إلى عودة قوية لديناميكية المركزية الاستبدادية أكثر من أي وقت مضى معتمدة على تحالفات وشراكات هشة إلى حد كبير على المسارين المؤسسي والخاص، أي أننا أمام تحول النظام السياسي في تركيا إلى نظام سياسي مركزي استبدادي حول شخص واحد، وهو رجب طيب إردوغان الذي تُرسم من حوله جميع العلاقات المؤسسية والعسكرية والقضائية في البلاد؛ الأمر الذي دفع خبراء عدة في الشأن التركي إلى أن يؤكدوا على أن لعبة التحالفات في الانتخابات التشريعية الأخيرة 2018 شهدت ليس فقط انتصاراً لحزب الدولة «الحرية والعدالة»، لكن أيضاً مركزية التحالف مع ميليشيا حركة باريتس (MHP)الحزب القومي ذي التوجهات اليمينية المتطرفة الذي تتغذى وتتأسس توجهاته على عسكرة المجتمع وشخصنة السلطة. ونتيجة لهذه التحالفات الهشة أو المزورة، يشهد حزب إردوغان حالة من الضعف البالغ، وتتُرجم هذه التحولات السياسية التي يشهدها المجتمع التركي في جميع قطاعات المجتمع في تعيين أقارب من السلطة في قطاعات كثيرة متميزة بين قضاء وشرطة ووزراء وجامعات... إلخ.

فساد البلديات
ويشرح الكتاب أنه بعد تنظيم البلاد في شكل بلديات في سبعينات القرن الماضي واختصار طبيعة عمل هذه البلديات في تقديم الخدمات للمواطنين، إلا أن دورها قد شهد هو الآخر تحولاً ملحوظاً خلال الفترة الأخيرة على خلفية اهتمام العمد بالولاء للرئيس على حساب خدمات الموطنين تنفيذاً لسياسة إردوغان الرامية إلى شخصنة جميع السلطات في البلاد بين يديه؛ الأمر الذي انعكس سلباً على المواطن بشكل مباشر بسبب تغير طبيعة وأولويات اهتمام البلديات من خدمة المواطن لخدمة النظام في شخص الرئيس. إضافة إلى ذلك، فإن البلديات ذات الأغلبية الكردية كانت في صدارة البلديات التي عانت بشكل واضح وتضررت كثيراً، ولا سيما مع انطلاق الحرب السورية في 2011. ويلفت الكتاب إلى أعباء جديدة وقعت على هذه البلديات، فعلاوة على ما عانته من ويلات الصراعات المجاورة، وعمليات النزوح الكبيرة.

تحالفات هشة
ثم يتحدث الكتاب عن حالة الغباء السياسي التي يتسم بها رجب طيب إردوغان بسبب إصراره على تنفيذ أهدافه وبلوغ غاياته دون أدنى تفكير، مشيراً إلى أنه لجأ إلى تحالفات هشة وضعيفة للغاية ومحدودة الفاعلية والتأثير إلى حد كبير، وتجلى ذلك بوضوح في انتخابات 2014، حيث تحالف حزب اليمين المتطرف مع الحزب الكمالي، وهو ما يؤكد غياب اتساق هذا الحزب واستعداده لإبرام تحالفات مع قوى سياسية مختلفة ومتنوعة فيما بينها، أي أننا أمام نظام تحالفات سمح بعودة بعض وجوه ورموز اليمين المتطرف، وهو ما يؤكد حالة من عدم الاتساق أو التناغم في قلب البرلمان الحالي الذي يسمع هو الآخر أصواتاً لم يعتد على سماعها منذ أمد بعيد؛ الأمر الذي يكشف عن حالة من التراجع والانحدار الشديد في قلب الحياة السياسية، تنعكس بدورها سلباً وبشكل واضح في الخطاب السياسي، وكذلك على الصورة الذهنية لرئيس الدولة.
على ضوء ذلك، يرسم الكتاب خريطة تحليلية للمشهد التركي، توضح منحنيات الانحراف نحو الحكم الاستبدادي في خمس مراحل: الأولى من 2003 إلى 2007، ويشير الخبراء إلى أن هذه المرحلة، ومنذ وصول إردوغان لرئاسة الحكومة التركية في 2003، فقد شرع في تنفيذ إصلاحات اقتصادية كثيرة انعكست إيجاباً على تقدم البلاد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وقضائياً؛ الأمر الذي شجع أنقرة على المضي قدماً نحو تحقيق الحلم الكبير بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. لكن بداية عام 2007، بدأت تتلاشى الروح الحماسية للإصلاح الأمر الذي انعكس سلباً على ملف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. هذا بالإضافة إلى الملف الكردي الذي يطل برأسه من آن إلى آخر على النظام التركي، مع حالة من السخط داخل الجيش وصلت إلى التهديد بالانقلاب على إردوغان.
وتبدأ المرحلة الثانية مع بداية عام 2010 في التحول من الديمقراطية الإسلامية إلى الاستبداد، حيث بدأت تنهار صورة إردوغان كديمقراطي إسلامي على خلفية مراجعته للدستور والقوانين بهدف إحكام سيطرته على أجهزة الدولة الرئيسية، من قضاء وشرطة وجيش وجامعات مع سياسة ومع استفتاء 2010، بدأت السلطة لا تحتمل أي انتقاد والنيل من وسائل الإعلام؛ إذ وصل عدد الصحافيين المحبوسين عام 2012 فقط 76 صحافياً، وهو رقم قياسي إلى حد كبير.
وتكشف المرحلة الثالثة المعنونة بـ«أزمات الشرق الأوسط» عن الوجه الحقيقي لإردوغان. ويشير الكتاب إلى أنه مع تصاعد وتيرة أزمات الشرق الأوسط بدأ إردوغان في التراجع عن الانضمام للاتحاد الأوروبي لصعوبة تحقيق ذلك على أرض الواقع، ووجد ضالته في أزمات الشرق الأوسط للعب دور أوسع من خلالها يلبي طموحاته القديمة عن طريق مساندة ودعم جماعات التمرد والمعارضة بين ليبيا وسوريا واليمن والسودان.
وتركز المرحلة الرابعة على موجة الاعتراضات الشعبية في متنزه جيزي، ويذكر الكتاب أنه منذ يونيو (حزيران) 2013 بدأت تركيا تشهد موجة من الاعتراضات الشعبية تجاه إردوغان قادها في البداية أنصار البيئة على خلفية تدمير متنزه «جيزي» بميدان تقسيم بإسطنبول لصالح مشروع معماري كبير، وهي حركة اعتراض شعبية هزت صورة ومكانة إردوغان، ولا سيما فيما يتعلق بأسلوب تعامله معها.
ويخلص الكتاب إلى المرحلة الخامسة بعد محاولة «انقلاب 15 يوليو 2016»، مؤكداً أنه يمثل تأصيلاً للنظام الاستبدادي التركي، حيث استغل إردوغان ما حدث وألقى القبض على أكثر من 6 آلاف عسكري و104 من قيادات الجيش، وعزل 2745 قاضياً، إضافة إلى أساتذة الجامعات؛ الأمر الذي عزز من شأن قبضته الحديدية على البلاد، وبدأ في إحاطة نفسه بطبقة الموالين له وأصحاب المصالح.



لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».