اتّجهت الأزمة في صفوف الكنيسة الأرثوذكسية إلى مزيد من التدهور على خلفية انشقاق الكنيسة الأوكرانية، وخروجها عن سيطرة موسكو. وأعلنت بطريركية موسكو وعموم روسيا قطع علاقاتها مع رئيس الكنيسة اليونانية بسبب اعتراف الأخير بـ«استقلال» الكنيسة الأوكرانية، وجاء التطور بعد مرور أيام على موقف مماثل اتخذته موسكو ضد بطريركية القسطنطينية.
وبدا أن انعكاسات الأزمة السياسية مع أوكرانيا أحدثت هزة كبرى ما زالت تداعياتها تتسع في العالم الأرثوذكسي مع إعادة ترتيب للتحالفات وابتعاد جزء مهم منه عن سيطرة الكنيسة الروسية للمرة الأولى منذ 3 قرون.
وأعلن رئيس قسم العلاقات الخارجية في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، المتروبوليت هيلاريون، قطع بطريركية موسكو علاقات الشراكة مع رئيس الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية، بدءاً من الأحد.
وكان رئيس أساقفة أثينا وسائر اليونان، إيرونيموس الثاني، وجّه، الثلاثاء الماضي، رسالة إلى رئيس الكنيسة الأرثوذكسية المؤسسة حديثاً في أوكرانيا، أبيفانيوس دومينكو، أعلن فيها عن اعتراف الكنيسة اليونانية بالكنيسة الأوكرانية المنشقة.
وحذّرت بطريركية موسكو في وقت سابق من أنها ستقطع الشراكة الكنسية مع كل أسقف يوناني يعترف بـ«التجمعات الانشقاقية» في أوكرانيا. وقال المتروبوليت هيلاريون للصحافيين: «قلنا إنه في حال إقدام رئيس أساقفة أثينا على الاعتراف بالانشقاق الأوكراني، فسيتم حذف اسمه من لوائح الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. ومعنى ذلك أن البطريرك (الروسي) لن يذكر اسم رئيس أساقفة أثينا، أثناء إقامته القداسات، كما لم يعد يذكر خلالها اسم بطريرك القسطنطينية. وأظن أنه سيتوقف عن ذكره بدءاً من يوم الأحد، أثناء إقامة البطريرك القداس. وذلك يعني أننا نوقف الشراكة في الأسرار المقدسة مع رئيس أساقفة أثينا». وأوضح المتروبوليت هيلاريون أن ذلك لا يعني قطع العلاقات مع الكنيسة اليونانية، موضحاً: «سنواصل شراكتنا مع جميع الأساقفة الذين لا يعترفون بالانشقاق الأوكراني، والكنيسة اليونانية لا تخلو منهم».
وكانت الكنيسة الأوكرانية أعلنت أواخر العام الماضي، الانفصال عن الوصاية الدينية الروسية عليها المستمرة منذ 332 سنة. وعقد رجال الدين الأرثوذوكس مجمّعاً واسعاً في كييف لاتخاذ قرار تاريخي بإقامة كنيسة مستقلة عن الروس بدعم من بطريركية القسطنطينية التي اعترفت بإقامة الكنيسة الجديدة وأثارت غضباً واسعاً ضدها في روسيا.
وبدا أن الروابط التاريخية التي جمعت الشعبين في البلدين الجارين، تعرضت لضربة موجعة بسبب التأثيرات الاجتماعية والثقافية الكبرى التي سيتركها انشقاق الكنيسة. وترافق الحدث مع مظاهرة سياسية ودينية كبرى؛ إذ تجمّع آلاف الأوكرانيين للتعبير عن دعمهم إقامة كنيسة مستقلة عن موسكو، في ساحة القديسة صوفيا أمام الكاتدرائية التي تحمل الاسم نفسه وتعود إلى القرن الحادي عشر. فيما حضر الرئيس الأوكراني السابق بيترو بوروشينكو افتتاح اللقاء، علماً بأن مطلب «الانفصال عن الهيمنة الروسية» كان بين أبرز عناوين حملاته الانتخابية، وقال عندما أعلن عن انعقاد المجمع: «يسرّني أن أعلن موعد المجمع الذي يعلن تأسيس الكنيسة الأرثوذوكسية الأوكرانية المستقلة». وأضاف أنّ «المجمع يقرّ شرعية كنيستنا الجديدة وله الحق في انتخاب بطريرك أوكراني».
وعكست كلمات بوروشينكو في ذلك الحين، مدى تأثير الأزمة السياسية القائمة بين روسيا وأوكرانيا على وضع الكنيسة؛ إذ رأى أن «استقلال الكنيسة الأوكرانية مسألة تتعلق بأمننا وقيام دولتنا وكل الجغرافيا السياسية في العالم، وهذا هو سقوط روما الثالثة كمفهوم قدم أقدم فكرة للهيمنة على العالم». مؤكداً على أن خطوة الكنيسة «تعكس القيم التي قمنا بتنفيذها في السنوات الأربع الأخيرة، وسوف نستمر في متابعتها».
وشكل التجمع الخطوة العملية لتنفيذ قرار بطريركية القسطنطينية في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي حول الاعتراف بكنيسة أرثوذوكسيّة مستقلّة في أوكرانيا، منهياً بذلك 332 عاماً من الوصاية الدينيّة الروسيّة.
ورفض بطريرك موسكو وعموم روسيا كيريل في ذلك الوقت الاعتراف بهذا القرار، مندّداً ببطريركية القسطنطينية التي وصفها بأنها «انشقاقيّة». وردّت الكنيسة الروسية، التي تضمّ أكبر عدد من المؤمنين في العالم الأرثوذكسي بغضب وقررت قطع جميع علاقاتها مع القسطنطينية، أقدم البطريركيات الأرثوذوكسية.
وأدان البطريرك الأرثوذكسي الروسي كيريل في رسالة وجهها إلى البابا فرنسيس والأمم المتحدة، «الاضطهاد» الذي يتعرض له رجال الدين والمؤمنون الأرثوذوكس الأوكرانيون الذين ظلوا تحت وصاية موسكو.
ووجه البطريرك كيريل رسالته إلى البابا فرنسيس وأسقف كانتربري جاستن ويلبي، والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، إضافة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بحسب بيان للكنيسة الروسية. وأفاد بأن رسائله تضمنت تفاصيل حول انتهاك حقوق القائمين على التسلسل الهرمي والمؤمنين من أعضاء الكنيسة.
ورغم أن التطورات المتعلقة بالأزمة الروسية - الأوكرانية سرعت من خطوات انفصال الكنيسة في كييف، فإن الخلاف بين الكنيستين له جذور قديمة؛ إذ جرت أولى محاولات التخلص من هيمنة الكنيسة الروسية في عام 1992 مباشرة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي؛ اذ أعلن بطريرك كييف فيلاريت الانشقاق في ذلك الوقت، لكنه قوبل بقرارات حازمة، وصدر ضده قرار بالحرمان الكنسي، ظل سارياً حتى اتخذت كنيسة القسطنطينية في أكتوبر 2018 قرارها برفع الحرمان.
وفي عام 1997 أعلنت بطريركية موسكو الحرم الأكبر (أناثيما) بحق الكنيسة المنشقة. وأعلن بطريرك كييف في أغسطس (آب) من العام الماضي عن عزم بطريركيته على مصادرة جميع ممتلكات الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو، بما فيها دير الكهوف في كييف؛ من أهم المقدسات الأرثوذكسية.
وتعد التطورات الجارية حالياً، أكبر هزة عنيفة تضرب الكيانات الكنسية الأرثوذكسية وتنسف التفاهمات التي ظلت قائمة فيما بينها منذ عام 1686. خصوصا أن تداعيات الخطوة لم تعد تقتصر على روسيا وأوكرانيا؛ بل امتدت لتحدث انشقاقاً تاريخياً واسعاً في الكنيسة الأرثوذكسية عموماً.
وكان المتحدث باسم بطريرك موسكو وسائر روسيا، الأب ألكسندر فولكوف، قال إن ما حدث شرعنة للانقسام، محذراً من «تدمير وحدة الأرثوذكسية في العالم بشكل كارثي».
المواجهة الروسية ـ الأوكرانية تعمق الشرخ في الكنيسة الأرثوذكسية
بطريركية موسكو تقطع العلاقات مع الكنيسة اليونانية
المواجهة الروسية ـ الأوكرانية تعمق الشرخ في الكنيسة الأرثوذكسية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة