«مياه» الاحتجاجات تكذّب «غطّاس» الديمقراطية العراقية

هجمات مسلحة ضد قنوات وإغلاق 17 وسيلة إعلامية واعتداءات تطال 88 صحافياً

لم يسبق أن قامت الحكومات العراقية بعد 2003 بحملة ممنهجة ضد وسائل الإعلام مثلما فعلت الحكومة الحالية رغم خروج كثير من المظاهرات (أ.ب)
لم يسبق أن قامت الحكومات العراقية بعد 2003 بحملة ممنهجة ضد وسائل الإعلام مثلما فعلت الحكومة الحالية رغم خروج كثير من المظاهرات (أ.ب)
TT

«مياه» الاحتجاجات تكذّب «غطّاس» الديمقراطية العراقية

لم يسبق أن قامت الحكومات العراقية بعد 2003 بحملة ممنهجة ضد وسائل الإعلام مثلما فعلت الحكومة الحالية رغم خروج كثير من المظاهرات (أ.ب)
لم يسبق أن قامت الحكومات العراقية بعد 2003 بحملة ممنهجة ضد وسائل الإعلام مثلما فعلت الحكومة الحالية رغم خروج كثير من المظاهرات (أ.ب)

ينظر إلى الإجراءات التي قامت بها السلطات العراقية والفصائل الموالية، وما زالت تقوم بها، ضد وسائل الإعلام المختلفة بهدف ترهيبها وإيقافها عن تغطية المظاهرات التي انطلقت في 1 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وما زالت متواصلة، بوصفها إجراءات خطيرة وتعسفية.
ولم يسبق أن قامت الحكومات العراقية بعد 2003، بحملة ممنهجة ضد وسائل الإعلام مثلما فعلت الحكومة الحالية التي يقودها رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، رغم خروج كثير من المظاهرات الاحتجاجية في السنوات الماضية.
وبنظر شريحة واسعة من الإعلاميين، فإن «مياه» الاحتجاجات الأخيرة، وما جرى فيها من تضييق واسع النطاق على حرية الصحافة والإعلام، كذبت، وبما لا يدع مجالاً للشك، «غطاس» الديمقراطية العراقية المزعومة.
المفارقة أن التضييق والمنع لم يشملا المؤسسات الإعلامية الخاصة فحسب، بل امتدا ليطالا المؤسسات الحكومية، حيث صدرت أوامر مشددة لوزارة الصحة بعدم الإدلاء بأي معلومات حول أعداد الجرحى والقتلى من المتظاهرين والقوات الأمنية.
«جمعية الدفاع عن حقوق الصحافة في العراق»، التي رصدت عشرات الاعتداءات التي طالت وسائل الإعلام والصحافيين، عدّت أن «أكتوبر سجل أسوأ أشهر حرية الصحافة في العراق منذ 2003».
وذكرت الجمعية في تقرير مطول أن «المظاهرات شهدت انتهاكات غير مسبوقة طالت الصحافيين والصحافيات في مجموعة من المحافظات العراقية» وسجلت الجمعية، عبر راصديها الموجودين في مجموعة من المحافظات، 89 حالة انتهاك لوسائل الإعلام والصحافيين.
وتوزعت تلك الانتهاكات على شكل «هجمات مسلحة واقتحام وإغلاق مقار ومكاتب 17 وسيلة إعلامية، وحالات تهديد بالتصفية طالت 33 صحافياً، واعتقال 8 صحافيين دون مذكرات قبض، وإصابة 14 صحافياً بالرصاص الحي وقنابل الغاز المسيل للدموع، و28 اعتداء بالضرب ومنع التغطية». ولفت تقرير «جمعية الدفاع عن الحقوق الصحافية» إلى أن تلك الاعتداءات لم تصدر عن الحكومة أو الفصائل الموالية لها فحسب، بل صدر جزء منها من قبل بعض المتظاهرين.
وبحسب تقرير الجمعية، فإن أول تلك الانتهاكات والاعتداءات، وقع في 4 أكتوبر الماضي، حين قام محتجون بحرق مقر قناة «الأهوار» في محافظة ذي قار الجنوبية.
في اليوم التالي الموافق 5 أكتوبر، تعرض مقر قناة «دجلة» الفضائية ببغداد إلى الاقتحام من قبل جهة مسلحة، قامت بإضرام النار في أجزاء منه، بعد أن اعتدت بالضرب على العاملين، ومصادرة هواتفهم الجوالة. وبقت «دجلة» مغلقة حتى عاودت البث من العاصمة الأردنية عمّان بعد نحو أسبوعين من الحادثة.
كذلك، قام في اليوم نفسه المسلحون ذاتهم باقتحام مقر قناة (NRT) عربية وحطموا معدات التصوير وأجهزة الكومبيوتر ومركز البث، ما أدى إلى إيقاف إشارة الفضائية بالكامل، ثم اعتدوا على العاملين بالضرب والشتم، وحذروا العاملين من إعادة افتتاح القناة. ولم تعاود الفضائية بثها المنتظم حتى اللحظة.
وفي اليوم ذاته أيضاً، هاجمت القوة المسلحة ذاتها شركة إعلامية تضم مكاتب فضائيات «العربية» و«العربية الحدث»، و«الغد»، TRTالتركية).
المفارقة أن السلطات لم تتمكن إلا من اعتقال 5 أشخاص متورطين في تلك الحوادث، أفرج عنهم بكفالة قضائية في اليوم نفسه، بحسب تقرير الحكومة المتعلق بتقصي الحقائق عن تلك الاعتداءات، الذي صدر الأسبوع الماضي.
في يوم 6 أكتوبر، تعرض مقر قناة «الفرات» التابعة لـ«تيار الحكمة الوطني» المعارض، لهجوم من قبل طائرة مسيرة «درون»، استهدف أحد مباني الفضائية، وأدى إلى إصابة أحد العاملين فيها بجروح، كما خلف القصف أضراراً مادية ومالية جسيمة. وفي اليوم ذاته، أوقفت فضائية «الرشيد» إشارتها بأمر من مديرها، بعد تعرضها لتهديدات وضغوط سياسية.
كان المعول عليه أن تتوقف حملة التضييق على الفضائيات مع انطلاق الموجة الثانية من المظاهرات في 25 أكتوبر الماضي، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وتعرضت مرة أخرى قنوات ووسائل إعلام إلى الحرق والترويع والإيقاف؛ حيث قامت مجموعة مجهولة بحرق مقر إذاعة «الفرات» ومكتب إذاعة «الأمل» في محافظة الديوانية، كما أحرق مجهولون مكتب إذاعة «الأمر» في محافظة ميسان، وتعرض غير هذه المحطات والاذاعات إلى التضييق والإيقاف.
وأوقفت «هيئة الإعلام والاتصالات» شبه الحكومية بثّ قناتي «العربية» و«العربية الحدث» في بغداد، لادعائها مخالفة ضوابط ولائحة البث، كما قامت رسمياً بغلق مكتب قناة «الحرة» الأميركية في بغداد تنفيذاً لقرار سابق بغلقه.
وتقول «جمعية الدفاع عن حرية الصحافة في العراق» إنها سجلت حالة إصابة طالت الصحافيين والصحافيات بواسطة الإطلاقات النارية والمطاطية والقنابل المسيلة للدموع التي توجهها القوات الأمنية على جموع المتظاهرين.
على سبيل المثال لا الحصر، أصيب في 1 أكتوبر كادر قناة (NRTعربية) المكون من مصورين اثنين بقنابل الغاز المسيل للدموع أثناء تغطيتهم المظاهرات في ساحة التحرير وسط العاصمة بغداد، كما تعرض عمر فالح مصور قناة «هنا بغداد» إلى إصابة خطيرة بقنابل الغاز المسيل للدموع نقل على أثرها إلى المستشفى.
وفي يوم 2 أكتوبر، أصيب مراسل قناة «أهل البيت» محمد الغزالي بطلق ناري أثناء تغطيته مظاهرات محافظة بابل.
ومع تجدد المظاهرات في 25 أكتوبر، أصيب مراسل قناة «السومرية» في بغداد هشام وسيم إصابة مباشرة وخطيرة في وجهة بقنبلة غاز مسيل للدموع أثناء تغطيته مظاهرات ساحة التحرير في بغداد، أدت إلى تشوهات خطيرة في أنفه ووجهه. كما أصيب مراسل وكالة (AP) خالد محمد باختناق وإصابات طفيفة أثناء تغطيته مظاهرات وسط العاصمة بغداد.
وفي 28 أكتوبر الماضي، تعرض 4 من الإعلاميين في محافظة كربلاء لإصابات نتيجة إطلاق القوات الأمنية قنابل غاز مسيل للدموع بكثافة عالية في ساحات التظاهر.
وحيال ما جرى من انتهاكات صارخة لطيف واسع من الصحافيين ووسائل الإعلام، لفت انتباه قطاع واسع من الصحافيين الصمت الذي مارسته «نقابة الصحافيين العراقيين» ورئيسها مؤيد اللامي، التي لم تصدر أي بيان حول الأحداث أو يعترض على طريقة تعاطي القوات الأمنية مع وسائل الإعلام. لكن «النقابة الوطنية للصحافيين العراقيين» أدانت ما تعرضت له المؤسسات الإعلامية والصحافيين خلال تغطية الاحتجاجات السلمية في بغداد والمحافظات الجنوبية.
وقال «المرصد العراقي للحريات الصحافية» في بيان إنه سجل «واقعاً مؤلماً لحرية التعبير وحق الوصول إلى المعلومة والحصول عليها بسبب الضغط الشديد من السلطات وجهات أخرى مارست دوراً تعسفياً في التعامل مع الصحافيين ووسائل الإعلام خلال المظاهرات».
بدوره، يرى رئيس تحرير «جريدة العالم الإلكترونية» منتظر ناصر، أن «ما جرى بعد 1 أكتوبر الماضي، أمر غير مسبوق في التعدي على الحريات العامة وحرية الصحافة والإعلام».
ويقول ناصر لـ«الشرق الأوسط»: «قامت جهة مجهولة ظلامية بغارات على عدد من الفضائيات المحلية والعربية ومكاتبها بالعاصمة بغداد، وتهشيم ونهب محتوياتها، وضرب موظفيها وغلق أبوابها». ويؤكد أن الهدف كان «تكميم الأفواه وترهيب الصحافيين والإعلاميين وإخفاء الحقيقة عن متناول الناس».
ويضيف ناصر أن «ما جرى من تجاوز على وسائل الإعلام، إضافة إلى القطع الكامل أو الجزئي لخدمة الإنترنت، يشكل عودة قسرية إلى عهود الديكتاتورية السحيقة، وتراجعاً مخيفاً في سقف الحريات لولا شجاعة بعض الصحافيين والمدونين وصمودهم في وجه تلك الهجمة وفضحها دولياً».
وبرأي عميد كلية الإعلام في جامعة بغداد هاشم حسن، فإن «ما حدث من تضييق على وسائل الإعلام خلال المظاهرات يبرز الحاجة لمنظمات ونقابات مهنية مؤثرة وليست واجهات للسلطة، كما تأكدت الحاجة الماسة لإعلام وطني مستقل ينقل بأمانة وجرأة ما يجري في ساحات الاحتجاج».
ويضيف أن «مهاجمة المؤسسات الإعلامية المحلية والدولية من عناصر مسلحة مع بدء الحراك الشعبي، وضعف دور الحكومة في توفير الحماية، قمعا حرية التعبير، واستكمل ذلك بحجب الإنترنت ومحاولة إجهاض الثورة. للأسف لم يكن لنقابة الصحافيين موقف صريح وفعال لتأمين حرية التغطيات الإخبارية الميدانية وأمن المؤسسات الإعلامية وحماية العاملين فيها».
ويرى الصحافي ورئيس التحرير السابق لجريدة «الصباح» شبه الرسمية فلاح المشعل، أن «سلوك السلطات العراقية امتاز بتوجهات وممارسات غير مسبوقة مع وسائل الإعلام تجاوزت ما يحدث في الأنظمة الديكتاتورية والدول الشمولية».
ويقول المشعل لـ«الشرق الأوسط» إن «الاعتداء بالضرب المبرح على العاملين في القنوات وتكسير الكاميرات والمعدات وسرقة بعضها وتهديد العاملين فيها، يعني رسالة تهديد لبقية القنوات ونوافذ الإعلام من إذاعات وصحف ومواقع وصفحات الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي».



شركات التكنولوجيا ووسائل الإعلام الليبرالية تتجه يميناً

إيلون ماسك (رويترز)
إيلون ماسك (رويترز)
TT

شركات التكنولوجيا ووسائل الإعلام الليبرالية تتجه يميناً

إيلون ماسك (رويترز)
إيلون ماسك (رويترز)

استقالت رسامة الكاريكاتير الأميركية -السويدية الأصل- آن تيلنيس، الحائزة على جائزة «بوليتزر»، من عملها في صحيفة «واشنطن بوست» خلال الأسبوع الماضي، بعد رفض قسم الآراء في الصحيفة رسماً كاريكاتيرياً يصوّر مالك الصحيفة، الملياردير جيف بيزوس مع مليارديرات آخرين من عمالقة التكنولوجيا، وهم ينحنون أمام تمثال للرئيس المنتخب دونالد ترمب. وفور إعلان الخبر رأى كثيرون أن الواقعة الجديدة تختصر صورة المرحلة المقبلة في الولايات المتحدة.

مارك زوكربيرغ (آ ب)

إعادة تموضع

خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، بعدما بدا أن ترمب يتجه إلى العودة مجدداً إلى البيت الأبيض، بدأ الكثير من مسؤولي الشركات الكبرى ووسائل الإعلام الأميركية، رحلة «إعادة تموضع» تماشياً مع العهد الثاني لترمب. وهو ما تُرجم بداية بامتناع وسائل إعلام كانت دائماً تُعد رمزاً لليبرالية، مثل: «واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز»، عن تأييد أي من المرشحين الرئاسيين، فضلاً عن تغيير غرف التحرير في محطات تلفزيونية عدة، ومراجعة الكثير من سياسات الرقابة والإشراف والمعايير الناظمة لعملها، إلى إعادة النظر في تركيبة مجالس إدارات بعض شركات التكنولوجيا.

وبعيداً عن انحياز الملياردير إيلون ماسك، مالك تطبيق «إكس»، المبكر لترمب، واتجاهه للعب دور كبير في إدارته المقبلة، كانت الاستدارة التي طرأت على باقي المنصات الاجتماعية والإعلامية مفاجئة وأكثر إثارة للجدل.

ان تيلنيس (جائزة بوليتزر)

خضوع سياسي أم تغيير أعمق؟

البعض قال إنه «خضوع» سياسي للرئيس العائد، في حين عدّه آخرون تعبيراً عن تغيير أعمق تشهده سياسات واشنطن، لا يُختصر في ترمب، بل يشمل أيضاً كل الطبقة السياسية في الحزبَيْن الجمهوري والديمقراطي، وحتى المزاج الشعبي الذي أظهرته نتائج الانتخابات.

في بيانها الموجز، قالت تيلنيس التي تعمل في «واشنطن بوست» منذ عام 2008، إن قرار الصحيفة رفض رسمها الكاريكاتيري «مغيّر لقواعد اللعبة» و«خطير على الصحافة الحرة». وكتبت: «طوال ذلك الوقت لم يُمنع رسم كاريكاتيري قط بسبب مَن أو ما اخترت أن أوجّه قلمي إليه حتى الآن». وأدرجت تيلنيس مسوّدة من رسمها الكاريكاتيري في منشور على موقع «سبستاك»، يظهر بيزوس، مؤسس «أمازون» ومالك الصحيفة، مع مؤسس شركة «ميتا» مارك زوكربيرغ، وسام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي»، وباتريك سون شيونغ مالك صحيفة «لوس أنجليس تايمز»، و«ميكي ماوس» التميمة المؤسسية لشركة «والت ديزني»، ينحنون أمام تمثال ترمب.

وطبعاً كان من الطبيعي أن «يختلف» ديفيد شيبلي، محرّر الآراء في الصحيفة، مع تقييم تيلنيس، وبالفعل قال في بيان إنه يحترم كل ما قدمته للصحيفة، «لكن يجب أن يختلف مع تفسيرها للأحداث»، معتبراً قرار منع نشر رسم الكاريكاتير «تفادياً للتكرار»، بعدما نشرت الصحيفة مقالات عن الموضوع.

... وزوكربيرغ يعود إلى أصوله

بيد أن تزامن منع الكاريكاتير مع الخطوة الكبيرة التي اتخذتها شركة «ميتا» يوم الثلاثاء، عندما أعلن مارك زوكربيرغ أن «فيسبوك» و«إنستغرام» و«ثريدز» ستُنهي عملية التدقيق في الحقائق من قِبل أطراف ثالثة، قرأها العالم السياسي بوصفها نوعاً من الاستسلام؛ إذ قال زوكربيرغ في مقطع فيديو نشره على «فيسبوك» إن «(ميتا) ستتخلّص من مدقّقي الحقائق، وستستعيض عنهم بملاحظات مجتمعية مشابهة لمنصة (إكس)»، وهو ما رآه البعض «تضحية بقيم الشركة على (مذبح) دونالد ترمب وسياسة (حرية التعبير)» للحزب الجمهوري الجديد. بالنسبة إلى المحافظين اليمينيين، الذين يعتقدون أن المشرفين ومدققي الحقائق ليبراليون بشكل شبه موحّد، واثقون بأن النهج الأكثر تساهلاً في تعديل المحتوى سيعكس الواقع بشكل أكثر دقة، من خلال السماح بمجموعة أوسع من وجهات النظر. وعدّ هؤلاء، ومنهم بريندان كار الذي اختاره ترمب لإدارة لجنة الاتصالات الفيدرالية، قرار «ميتا» انتصاراً.

في المقابل، أعرب الليبراليون عن «فزعهم»، وعدّوه «هدية لترمب والمتطرّفين في جميع أنحاء العالم». وقال معلقون ليبراليون إن من شأن خفض معايير التأكد من الحقائق من قِبل أكبر منصة في العالم يُنذر بمجال رقمي أكثر غرقاً بالمعلومات الكاذبة أو المضللة عمداً مما هو عليه اليوم.

ابتعاد عن الليبرالية

هذا، ومع أنه من غير المتوقع أن يؤدي قرار زوكربيرغ بالضرورة إلى تحويل الإنترنت إلى «مستنقع للأكاذيب أو الحقائق»؛ لأن الخوارزميات هي التي تتحكم بما يُنشر في نهاية المطاف. فإن قراره يعكس، في الواقع، ابتعاد شركات التكنولوجيا عن الرؤية الليبرالية لمحاربة «المعلومات المضلّلة». وهذه مسيرة بدأت منذ سنوات، حين تراجعت «ميتا» عام 2019 عن التحقق من صحة الإعلانات من السياسيين، وعام 2023 عن تعديل الادعاءات الكاذبة حول انتخابات 2020.

وحقاً، كان إعلان يوم الثلاثاء هو الأحدث في سلسلة من تراجعات الشركة، واتجاهها نحو اليمين منذ إعادة انتخاب ترمب. ففي الأسبوع الماضي، عيّنت الشركة الجمهوري جويل كابلان رئيساً عالمياً للسياسة، وعيّنت، يوم الاثنين، دانا وايت، حليفة ترمب التي لعبت دوراً رئيساً خلال المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، في مجلس إدارة الشركة. وفي السياق نفسه تضمّن إعلان يوم الثلاثاء نقل فريق الثقة والسلامة في الشركة من ولاية كاليفورنيا «الليبرالية»، إلى ولاية تكساس «الجمهورية»؛ مما يعكس دعوات من قادة التكنولوجيا اليمينيين مثل إيلون ماسك إلى تركيز الصناعة في بيئات «أقل ليبرالية» من «وادي السيليكون».

ترمب ممثلاً للأكثرية

في مطلق الأحوال، مع أن كثيرين من النقاد والخبراء يرون أن هذا التغيير يعكس بالفعل حقيقة ابتعاد شركة «ميتا» وغيرها من شركات ومواقع التواصل الاجتماعي عن الرؤية الليبرالية للحوكمة الرقمية، لكنهم يشيرون إلى أنه ابتعاد مدفوع أيضاً بالقيم الأساسية للصناعة التي جرى تبنيها إلى حد كبير، تحت الإكراه، استجابة للحظات سياسية مشحونة.

ومع تحوّل ترمب تدريجياً من كونه متطفلاً دخيلاً على الحياة السياسية الأميركية، إلى الممثل الأبرز للأكثرية التي باتت تخترق كل الأعراق -وليس فقط البيض- فقد بدا أن هذا النهج الذي يشبه نظام المناعة بات أقل ملاءمة، وربما، بالنسبة إلى شركات مثل «ميتا»، أكثر ضرراً سياسياً وأقل ربحية.