بعد أن نفضت الشابّة رانا الرملاوي ملابسها من حبات التراب، وقفت تتأمل طويلاً تلك اللوحة التي صارت أخيراً واقعاً ملموساً، قرّرت أن ترسم بالرّمل مشهد الغروبِ وفَعلت. عادت بها الذاكرة لتلك الأيام التي قضتها في التفكير بكيفية الانطلاق في طريق هذا الفن الغريب بالنسبة لسكان غزة، وأهل فلسطين عموماً.
راحت تنادي يميناً ويساراً على ذويها تطلب منهم القدوم لساحة المنزل الخارجية من أجل مشاهدة اللوحة، ردّدت بصوتٍ عالٍ: «أنا انتهيت، تعالوا شاهدوا واستمتعوا». وقف والدها برهة يتأمل أمواج البحر، وأطلق بدهشة كلمة «واااو» متسائلاً: «كيف تمكنتِ من صنعها بهذا الإتقان؟»، ضحِكَ وربت على كتف ابنته مشجعاً، وتمتم: «الله يعطيكي العافية يا بابا».
تقول الشابّة، التي تبلغ من العمر «24 عاماً» في حديثٍ لـ«الشرق الأوسط»، إنّ «الفن لا حدود أمامه، وكلّ شخص يختار الطريقة المناسبة للتعبير عمّا في داخله، وأنا رأيت بالرمل مصدراً لإلهامي، كونه من الأشياء الثابتة في غزة ولم تغيره السياسة ولا الحرب»، موضحة أنّها درست التعليم الأساسي في المرحلة الجامعية، لكنّ هذا الأمر لم يقف حائلاً أمام موهبتها الفنية التي اكتشفتها في عمرٍ مبكر.
قصّة رانا الفنية بدأت برسم كلّ التفاصيل التي تقع عينها عليها، في دفترها الصغير، وتطور بها الأمر، وصارت تستخدم أدوات أكثر تطوراً من القلم والورقة. وتردف: «بعد ذلك ومع مرور الأعوام شعرت أنّي بحاجة لشيءٍ جديد يوضّح هويتي الخاصّة للمجتمع، ويساعدني في إيصال ما أريد، والأهم أن يكون غير مكلف مادياً، لأنّ الوضع الاقتصادي في قطاع غزة لا يحتمل تخصيص مصاريف عالية للجوانب الفنية».
اختارت بعد تفكيرٍ طويل الرسم على الرمال، وتشكيل المجسمات باستخدام حباتها، وكان عليها في البداية أن تصبر كثيراً وتتحمل عناء الوقوف تحت أشعة الشمس لساعاتٍ طويلة، لتتمكن من تحقيق هدفها في إنجاز المجموعة الأولى من اللوحات الفنية «الرملية»، التي ولجت من خلالها لعالم مختلف، استلهمت أفكاره من فنانين عالميين ينشرون أعمالهم على منصات التواصل الاجتماعي.
لم تنحُ الشابّة بعيداً عن الواقع في أعمالها التي عالجت ضمنها مختلف القضايا المجتمعية والوطنية. تشير إلى أنّ الفن حتّى يكون ذا قيمة ورسالة، يجب أن يرتبط بهموم الناس وواقعهم، مكملة: «رسمت عن الحصار الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة منذ نحو 12 عاماً، وعن مسيرات العودة التي انطلقت خلال العام المنصرم، وشكّلت عدداً من اللوحات في ذكرى النكبة وفي المناسبات الفلسطينية».
على مدار السنتين السابقتين التي عُرفت فيهما رانا محلياً بإجادتها لفن «الرسم على الرمل»، شاركت في عدد من الفعاليات المجتمعية، منها «رحلات العودة»، وتذكر أنّ البحر يعدّ من أبرز الملهمين لها في مسيرتها، وتحبّ كثيراً أن يطلق عليها اسم «فنانة البحر»، لافتة إلى أنّها رسمت على رماله الصفراء عدداً من اللوحات الفنية التي لاقت صورها رواجاً كبيراً على مواقع التواصل.
وتفرّق الرملاوي بين أسلوبها الفني والأساليب الأخرى، بالقول: «إن الأخيرة تحفّها قيود كثيرة»، وعلى ذلك تسوق مثالاً، الرسم بالألوان، يحتاج لدقة وتركيز في اختيار المناسبة وتفاصيلها وتوزيعها، أمّا الرسم على الرمل فيمنح الشخص مساحة حرّة وعريضة للتعبير عن كلّ ما يريد من دون أي قيودٍ تذكر، منوّهة إلى أنّ الجامع لكلّ الأنواع الفنية هو القدرة على الابتكار والإبداع.
وعن اللوحات اللافتة التي تركت أثراً مميزاً في مسيرتها، تُبيّن أنّها قبل نحو عام رسمت أخاها الذي أصيب في مسيرات العودة التي يشارك فيها الغزيّون على الحدود بشكلٍ أسبوعي، وهو يحتضن طفلته الصغيرة، التي تأثرت كثيراً بإصابة والدها، وتروى كذلك أنّها رسمت في بداية السنة الحالية «بابا نويل»، وذلك لما تحمله شخصيته من معانٍ مختلفة توحي بالسلام والفرح والبهجة، خصوصاً لدى الأطفال.
وتذكر ضمن حديثها أنّها تستخدم أدوات بسيطة في تشكيل لوحاتها، وهي «عود خشبي، وأكوام صغيرة من الرمل، والماء»، ويستغرق إنجاز اللوحة الواحدة معها وقتاً قد لا يتجاوز الساعة الواحدة غالباً، منبهة إلى أنّها ستسعى خلال الفترة المقبلة للمشاركة في معارض ومناسبات خارج فلسطين، كما أنّها تطمح إلى خوض مجالات فنية جديدة.
ضجيج الحياة في لوحات رانا الفلسطينية يسمعه كل ذوّاق للفن
ترسم بالرمل مشاهد الطبيعة وتقص حكاية الوطن
ضجيج الحياة في لوحات رانا الفلسطينية يسمعه كل ذوّاق للفن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة