ألبرتو فرنانديز... طموحه وتحديه إنقاذ الأرجنتين اقتصادياً

الرئيس «البيروني» المرتقب يؤمن بأن «الجوع هو العار الأكبر»

ألبرتو فرنانديز...  طموحه وتحديه إنقاذ الأرجنتين اقتصادياً
TT

ألبرتو فرنانديز... طموحه وتحديه إنقاذ الأرجنتين اقتصادياً

ألبرتو فرنانديز...  طموحه وتحديه إنقاذ الأرجنتين اقتصادياً

في مستهل هذا العام، كان ألبرتو فرنانديز رئيساً سابقاً للوزراء على عهد الرئيس الأرجنتيني الأسبق نيستور كيرشنر، ثم على عهد زوجته الرئيسة السابقة كريستينا فرنانديز كيرشنر، وكان قد قرر الانكفاء عن العمل السياسي، وانصرف للتدريس في جامعة بوينس آيرس. لكن في منتصف مايو (أيار) الفائت، تمكنت كريستينا كيرشنر من إقناعه بالترشح لمنصب رئيس الجمهورية في الانتخابات التي ستُجرى يوم غد (الأحد)، على أن تكون هي المرشحة لمنصب نائب الرئيس.
وبعد ساعات قليلة من الإعلان عن ذلك الاتفاق المفاجأة، سخرت أصوات داخل حكومة الرئيس اليميني الحالي ماوريسيو ماكري من تلك المناورة، ووصفت ألبرتو فرنانديز بأنه دمية في يد كيرشنر، ولم تتردد في الإعراب عن ارتياحها لما قدرت أنه خطأ فادح في حسابات المعارضة، ويقينها بأن نتيجة الانتخابات الرئاسية ستكون لصالح الرئيس الحالي.
ولكن بعد الانتخابات الأولية للرئاسة - وهي انتخابات يتفرد بها النظام الأرجنتيني، ولا صفة رسمية لنتائجها سوى أنها ترسم صورة لتوزيع القوى المتنافسة - التي مُني فيها الرئيس ماكري بهزيمة قاسية، أصبح فرنانديز الرئيس الافتراضي للأرجنتين بانتظار تثبيت فوزه في الانتخابات النهائية الحاسمة أواخر الشهر الحالي، وانقلبت حياته رأساً على عقب بين ليلة وضحاها.
من هو ألبرتو فرنانديز الذي يناديه المقربون بـ«الأستاذ» (El Profesor)؟ وكيف وصل إلى عتبة رئاسة الأرجنتين بعدما قرر العزوف عن مزاولة النشاط السياسي والانصراف إلى العمل الأكاديمي والحياة الخاصة؟

التحول الكبير في المشهد السياسي الأرجنتيني بدأ أواخر العام الماضي، عندما ضاقت حلقة الملاحقات القضائية حول الرئيسة السابقة كريستينا فرنانديز كيرشنر، بسبب اتهامات بالفساد المالي، والضغط لوقف تحقيقات قانونية خلال عهدها، واقتراب مواعيد المحاكمات التي لا تستطيع التنصل منها خارج الحصانة الرئاسية.
الرئيسة السابقة كانت تدرك أن الرئيس الحالي ماوريسيو ماكري، الذي لا يملك سجلاً سياسياً يذكر، وينتمي إلى إحدى أغنى العائلات في الأرجنتين، جاء على أنقاض الخلافات العميقة في أوساط الحركة البيرونية. والمعروف أن هذه الخلافات تفاقمت على عهدها، وبلغت درجة من القطيعة والانقسامات الداخلية بات من المتعذر معها استعادة زمام الحكم في القريب المنظور. وفي ضوء هذه المعطيات، قررت أن باب الخلاص الوحيد أمامها هو في إعادة الوحدة إلى الحركة عبر خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة.
بيد أن عودة كيرشنر إلى واجهة المشهد داخل الحركة البيرونية (يسار وطني) كانت دونها عقبات كبيرة، أبرزها العداء الشديد الذي تكنه لشخصها تيارات وازنة داخل الحركة، خصوصاً داخل الولايات والأوساط النافذة. وبالتالي، كلفت مجموعة من المقربين بجس نبض الجهات المناهضة لها، وإبلاغ تلك الجهات بأسفها لأخطاء الماضي، خصوصاً إبان ولايتها الرئاسية الثانية، متعهدة بفتح صفحة جديدة.

المقرب الموثوق
أحد الذين بلغتهم مقترحات كيرشنر ونياتها كان ألبرتو فرنانديز، الذي كان رئيس وزراء زوجها نيستور طوال فترة ولايته، ورئيس وزرائها في السنة الأولى من ولايتها عام 2007. وكان فرنانديز قد قرر قطع علاقاته بشكل نهائي معها، بسبب ما عده أفدح الأخطاء التي ارتكبتها، وهي الحرب المفتوحة التي شنتها ضد الشركات الزراعية الكبرى، الوازنة اقتصادياً وشعبياً في الأرجنتين، وإصرارها على المضي فيها حتى النهاية، وهو ما أدى إلى اتساع رقعة الخلافات داخل الحركة البيرونية، وتعميق الشرخ بين تياراتها اليسارية والوسطية. ومع ابتعاد فرنانديز عن الصفوف الأمامية في المشهد السياسي، وانصرافه إلى تدريس القانون الجنائي في الجامعة، راح يوجه انتقادات قاسية لسياسة الرئيسة وإدارتها، لدرجة أنه دعا إلى مناوأتها عندما ترشحت لولاية ثانية.
ومن ثم، وبعد أشهر من الاتصالات والجولات الاستشارية في أوساط الحركة البيرونية، تبين لكريستينا كيرشنر أن كفة الرافضين لعودتها إلى موقع القيادة راجحة على كفة الجاهزين لتأييدها. وهنا، ظهر اسم ألبرتو فرنانديز، الرجل الذي يجمع كل الخبرات السياسية والإدارية الممكنة: كبير المستشارين على عهد الرئيس الأسبق راؤول ألفونسين، والمسؤول المالي عن حملة خلفه إدواردو دوالدي، ثم مدير الحملة الانتخابية لنيستور كيرشنر ورئيس وزرائه، وحليف الزعيم البيروني البارز سيرجيو ماسّا بعد انشقاقه عن كريستينا كيرشنر. ويقول المتابعون لتلك الاتصالات إن الرئيسة السابقة تمكنت من إقناعه بقبول اقتراحها بعد يومين فقط من المفاوضات. وحقاً، في 18 مايو (أيار) الفائت، أعلنت الحركة البيرونية ترشيح ألبرتو فرنانديز لرئاسة الجمهورية وكريستينا كيرشنر لمنصب نائب الرئيس.
رهان اليمينيين... الفاشل
أحد المستشارين المقربين من الرئيس الحالي ماوريسيو ماكري علق يومها على ذلك الترشيح بقوله: «لم يكن بوسعهم ارتكاب خطأ أفدح؛ ألبرتو فرنانديز لم يربح انتخابات واحدة في حياته، ولا يتمتع بأي تأييد شعبي... وهو دمية بأيدي كريستينا؛ لم يعد هناك من شك في أنه سيعاد انتخاب ماكري».
كثيرون أيضاً كانوا يؤيدون تلك القراءة، لأن قلة هم الذين أدركوا وقتها أن ترشيح ألبرتو - وللعلم، استخدام الاسم الأول (وليس الكنية) شائع في السياسة الأرجنتينية - لم يكن يستهدف استقطاب الأصوات، بقدر ما كان يرمي إلى امتصاص الغضب الذي تثيره عودة كريستينا إلى الواجهة، وتوحيد الحركة البيرونية.
وحده ألبرتو فرنانديز كان قادراً على كسب ثقة حكام الولايات البيرونية الرافضين عودة الرئيسة السابقة، وثقة التيار المعتدل الذي يقوده سرجيو ماسّا. ووحده في الحركة كان القادر على مد الجسور، وفتح قنوات الحوار مع مراكز المال ووسائل الإعلام التي تكن شديد العداء للتيار الذي تقوده كريستينا كيرشنر.
وبالفعل، خلال الحملة التي مهدت للانتخابات الأولية، حرصت كريستينا على الظهور دائماً في الصف الثاني وراء فرنانديز، خصوصاً إبان المهرجان الختامي في مدينة روزاريو (ثاني كبرى مدن الأرجنتين) الذي حضرته جميع القيادات البيرونية لأول مرة مجتمعة منذ 28 سنة.
ومع اقتراب موعد الانتخابات الأولية، يوم 11 أغسطس (آب) الفائت، كانت معظم الاستطلاعات ترجح تعادل المرشَّحَين، وارتفاع نسبة الناخبين المترددين في حسم قرارهم، والذين كانت تميل أوساط الرئيس الحالي إلى عدهم من أنصاره الذين لا يريدون الكشف عن خيارهم تأييد المرشح الذي أدت سياسته الاقتصادية إلى تفاقم الأزمة الاجتماعية والمعيشية بشكل خطير، وهو الذي جاء على وعد بمعالجتها وإنهاض البلاد من محنتها المديدة.
إلا أنه سرعان ما تبين أن تلك الأصوات كانت مؤيدة في السر للرئيسة السابقة المحاصرة بملاحقات قضائية بتهم الفساد، والمعروفة بنزعتها الاستبدادية. وجاءت نتائج الانتخابات الأولية لتؤكد أن نصف الناخبين تقريباً يعدن ألبرتو فرنانديز، متحداً مع الحركة البيرونية، هو الخيار الأفضل للخروج من الأزمة، إذ حصل فرنانديز على 47 في المائة من الأصوات، ويكفيه أن يحصل غداً على 45 في المائة ليفوز برئاسة الجمهورية، مع كريستينا كيرشنر نائبة له.
هذه المفاجأة الكبرى أوقعت الهلع في أسواق المال، وأصيب ملايين الأرجنتينيين - ولا سيما من الطبقة البورجوازية، ناهيك من الأغنياء - بالذعر من احتمالات عودة الحركة البيرونية، مع كريستينا كيرشنر التي يعتقد كثيرون أنها ستكون الحاكمة الفعلية. وهذا، مع أن فرنانديز سعى منذ ذلك الوقت إلى إبداء المرونة، ورسم صورة الاعتدال في مواقفه وتصريحاته، وباشر بالتواصل مع إدارة المصرف المركزي بهدف تهدئة الأجواء المضطربة التي تتحرك فيها العملة الأرجنتينية منذ فترة. وكان فرنانديز قد رد بعنف على تصريحات الرئيس البرازيلي اليميني المتشدد جاير بولسونارو الذي قال بعد فوزه (أي فرنانديز) في الانتخابات الأولية إن «عودة البيرونيين إلى الحكم ستكون كارثة على الأرجنتين، وتدفعهم إلى الهجرة، كما حصل في فنزويلا»، وهدد بطردها من منطقة «ميركوسور» للتجارة الحرة، لكنه عاد وتراجع عن تصريحاته.
ويستبعد مقربون من فرنانديز أن يترك الزمام للرئيسة السابقة، خصوصاً أنه سبق وانتقدها بشدة، واستقال من رئاسة حكومتها، عندما كانت في ذروة نفوذها بعد فوزها بالولاية الأولى. وينقل عنه آخرون دعواته المتكررة إلى التحفظ، وتحاشي الإكثار من التصريحات الصحافية ومظاهر الإعزاز بالعودة إلى الحكم، وترك الرئيس الحالي ماكري يتخبط في أنواء الأزمة الاقتصادية «لأن عودة الناخبين لتأييدنا مرهونة بأن ترجح كفة الحقد على ماكري بسبب سياسته الاقتصادية على كفة الخوف من رجوعنا إلى الحكم»، كما ذكر أخيراً أمام أحد مساعديه.
وفي أي حال، عودة البيرونيين إلى الحكم في الأرجنتين مع فرنانديز لن تكون مفروشة بالورد، بل على العكس تماماً من ذلك، إذ تفيد آخر التوقعات الصادرة عن صندوق النقد الدولي بأن التضخم سيتجاوز 40 في المائة في العام المقبل، وأن إجمالي الناتج المحلي سيتراجع بنسبة 1.1 في المائة، وذلك بعدما بلغت نسبة التضخم هذا العام 53.5 في المائة، وانخفض سعر البيزو بنسبة 51 في المائة. ويذكر أن صندوق النقد كان قد منح الأرجنتين قرضاً العام الماضي، مقداره 54 مليار دولار أميركي، وهذا أكبر قرض فردي يمنحه في تاريخه. وكانت إدارة الصندوق قد وافقت الأسبوع الماضي على تعليق سداد القسط المستحق الشهر الماضي، بقيمة 4.5 مليار دولار، بسبب الظروف التي تمر بها البلاد حالياً، والتي اقتضت تصنيفها في الفئة نفسها التي تضم إيران وتركيا وفنزويلا واليمن وليبيا، بسبب الصعوبات الخطيرة التي تواجهها على صعيد الاقتصاد الكلي.

أولويات برنامج فرنانديز
لم يجد فرنانديز صعوبة في تحديد أولويات برنامجه الحكومي، بعد المستوى الذي تدهورت إليه الأوضاع المعيشية خلال الأشهر الأخيرة، حين بلغ عدد الذين يعانون من أزمة غذائية 11 مليوناً في واحد من أهم البلدان الزراعية والمنتجة للأغذية في العالم. وفي لقاء عقده فرنانديز أخيراً في كلية الزراعة بجامعة بوينس آيرس، قال: «الجوع هو عارنا الأكبر!»، وكشف عن خطة لدعم المواد الغذائية الأساسية التي تضاعفت أسعارها عن تلك التي في معظم البلدان الأوروبية. كذلك، وعد بالقضاء على أسعار الفائدة المرتفعة التي تدفعها المصارف على السندات، وتخصيصها لبرامج المساعدات الاجتماعية.
ومن الإنجازات المهمة التي يوشك فرنانديز أن يحققها، حتى قبل انتخابه المرتقب غداً رئيساً للجمهورية، عودة النقابات الأرجنتينية إلى الاتحاد بعد الانقسام التاريخي الذي مزقها في عام 1991. وحينذاك، انشقت النقابات التي أصبحت لاحقاً مؤيدة لتيار كيرشنر اليساري عن النقابات البيرونية التقليدية، بعد رفضها الإجراءات الليبرالية التي اتخذها الرئيس الأسبق كارلوس منعم، المنحدر من أصول سورية.
وقال فرنانديز في نهاية الجولة الأخيرة من المفاوضات التي جرت برعايته بين النقابات البيرونية: «الكل موافق على ضرورة توحيد المعسكر الشعبي في هذه الظروف الصعبة التي تقتضي مشاركة واسعة، وموقفاً موحداً لكل أطياف الطبقة العاملة».


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.