فريضة إعلامية غائبة

فريضة إعلامية غائبة
TT

فريضة إعلامية غائبة

فريضة إعلامية غائبة

تتطور صناعة الإعلام في العالم العربي على صعد التقنية واتساع مساحات التغطية وتزايد معدلات التأثير بشكل مطرد، لكنها مع ذلك تبقى عاجزة عن تطوير الإطار التنظيمي والأخلاقي الذي يحكمها بالوتيرة ذاتها؛ وهو الأمر الذي ينعكس في أنماط أداء صحافية حادة، وتدخلات حكومية خشنة ومزعجة، ومظالم لأطراف قد لا تجد إنصافاً في مواجهة ممارسات مُسيئة.
لقد سعى الإعلام العربي منذ عقود إلى الاقتداء بالمنظومات الإعلامية الغربية البارزة في تطوير عناصر الصناعة على مستوى «الكادر» والآلة، لكنه مع ذلك أخفق في مجاراة التطور القانوني والأخلاقي الذي شهدته تلك المنظومات عبر تراكم تجارب ودراسات أثمرت أنساقاً من الضبط، الذي يجتهد في الموازنة بين حرية وسائل الإعلام ومسؤوليتها بحرص واضح.
من بين الفرائض الغائبة في الإعلام العربي آلية «التنظيم الذاتي» لقطاع الصحافة والإعلام، وهي آلية تمثل إحدى ذرى التطور التنظيمي والأخلاقي المواكب لصناعة الإعلام في الغرب. وبسبب عدم قدرة المنظومة الإعلامية العربية على الوفاء بتلك الفريضة، يتزايد وقوع المخالفات المهنية، وتزدهر الممارسات الحادة، ويتعزز دور الأجهزة الحكومية والتدخلات القضائية في الصناعة، وتهتز ثقة الجمهور في القطاع.
ويمكن تعريف «التنظيم الذاتي» بشكل مبسط بأنه نمط من أنماط التنظيم الطوعي الداخلي الذي ترتضيه منظومة أو مؤسسة إعلامية لذاتها، بشكل يضمن لها حرية عملها، ويفرض عليها التزامات أخلاقية ومهنية، تؤطر أداءها وتعزز مصداقيتها لدى جمهورها، وتضمن لها سبيلاً إلى إصلاح الأخطاء والتطوير المستمر.
سيكون شيوع ثقافة «التنظيم الذاتي» في الإعلام العربي تلبية لاستحقاق ضروري تأخر كثيراً، واتساقاً مع التطورات الإعلامية والديمقراطية التي شهدتها معظم بلدان العالم الحر، ومحاولة فعالة للحد من انفلاتات الأداء الصحافي والممارسات الضارة التي يحفل بها، وطريقة مثلى للحفاظ على حرية الصحافة.
إن حرية الصحافة هي التي تُمكّن وتمثل حرية التعبير بشكل أساسي، وهي من الحقوق المهمة جداً للصحافيين، الذين يستند عملهم على وجود الفرصة والحرية لعرض الآراء النقدية شديدة اللهجة. ومع ذلك، ينبغي على الصحافيين الالتزام في عملهم بسلوك منضبط، يتم هذا أساسا بممارسة الصحافيين لمبادئ «التنظيم الذاتي»، وهي بشكل عام، تعليمات أكثر دقة واتساقاً مع المتطلبات المهنية من القوانين، إذ إن هناك مسائل لا تدينها المحاكم لكنها لا تزال غير أخلاقية من الناحية المهنية.
ففي مجال الصحافة توضع المعايير من أجل ضمان احترام القيم الأخلاقية والمهنية للصحافة، ومن ثم تقوم وسائل الإعلام بإنشاء آليات تنظيمها الذاتي لتفعيل تلك المعايير وإدامتها.
ويختلف «التنظيم الذاتي» للصحافة عن تنظيم الإعلام المرئي والمسموع نظرا لتمتع الصحافة بميراث أكثر عمقاً وثراءً، وبطبيعة عمل خاصة، ورغم ذلك فإن المجالس المنظمة للصحافة هي أيضا هيئات مستقلة على نسق هيئات تنظيم الإعلام المرئي والمسموع نفسه، ولكن يكمن الفارق في انتفاء صفة الإلزامية عنها في التنظيم. فبعض المجالس تنظم نفسها ذاتيا وتعرض عضويتها على الصحف، والبعض الآخر يجعل العضوية إلزامية، وهو اختيار للدولة وللعاملين في مجال الصحافة ورؤيتهم لكيفية تنظيم عملهم. وغالبا ما تتناول مجالس تنظيم الصحافة الجانب الأخلاقي والمهني للصحافة وليس الجانب القانوني، فنجد أن أغلب المهام الموكلة لتلك المجالس هي فصل في النزاعات والشكاوى المتعلقة بممارسة المهنة واتباع أخلاقياتها وليس الفصل في الشبهات الجنائية التي تقع بالضرورة خارج ولاية تلك المجالس، كما أن هذه المجالس تقوم بتحديد مواثيق الشرف ومعايير ممارسة المهنة للعاملين بالصحافة وتضطلع بمهمة فرض العقوبات والجزاءات، وغالبا ما تكون تلك العقوبات مالية.
يسترشد معظم الصحافيين، في البيئات الإعلامية المتقدمة، بمبادئ «التنظيم الذاتي»، الذي يعني جملة التعليمات الأخلاقية للمجتمع الصحافي المهني. ونظام «التنظيم الذاتي» - مع المبادئ التوجيهية المتصلة به - هو نظام مستقل بذاته عن الدولة والتشريعات، ويهدف، على سبيل المثال لا الحصر، إلى ضمان الصدق والدقة في العمل الصحافي، وحقوق المراسلين الصحافيين والمصادر.
وببساطة شديدة، فإن المنظومة الصحافية والإعلامية في كل بلد عربي عليها أن تنشئ نظام «التنظيم الذاتي» الخاص بها، عبر مشاورات عميقة، تتبلور في صورة مجلس للصحافة أو الإعلام، يتبنى أدلة إرشادية، ومواثيق شرف متفقا عليها، ويتلقى الشكاوى في حق أنماط الأداء الحادة، ويحقق فيها، ويتخذ إجراءات في شأنها، وينزل عقوبات بالمخطئين، مما يحسن الممارسة، ويحد من الانفلاتات، ويُبقي القطاع بعيداً عن تدخلات الحكومة والقضاء، وهي تدخلات لا تحافظ على حرية الإعلام في كثير من الأحيان.



رئيسة «منتدى مصر للإعلام» تُحذر من دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار

نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)
نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)
TT

رئيسة «منتدى مصر للإعلام» تُحذر من دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار

نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)
نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)

في ظل صراعات وحروب إقليمية متصاعدة وتطورات ميدانية متسارعة، لعب الإعلام أدواراً عدة، سبقت في بعض الأحيان مهمات القوات العسكرية على الأرض؛ ما ألقى بظلال كثيفة على وسائل الإعلام الدولية. تزامن ذلك مع زيادة الاعتماد على «المؤثرين» ونجوم مواقع التواصل الاجتماعي كمصادر للأخبار؛ ما دفع رئيسة «منتدى مصر للإعلام»، نهى النحاس، إلى التحذير من دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار.

وفي حوارها مع «الشرق الأوسط»، عدّت نهى دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار «خطأً مهنياً»، وقالت إن «صُناع المحتوى و(المؤثرين) على منصات التواصل الاجتماعي يقدمون مواد دون التزام بمعايير مهنية. ودمجهم في غرف الأخبار كارثة مهنية».

وأشار تقرير نشره «معهد رويترز لدراسات الصحافة»، أخيراً، إلى «نمو في الاعتماد على مؤثري مواقع التواصل الاجتماعي كمصادر للأخبار». ومع هذا النمو باتت هناك مطالبات بإدماج صناع المحتوى في غرف الأخبار. لكن نهى تؤكد أن الحل ليس بدمج المؤثرين، وتقول: «يمكن تدريب الصحافيين على إنتاج أنواع من المحتوى تجذب الأجيال الجديدة، لكن يجب أن يكون صانع المحتوى الإعلامي صحافياً يمتلك الأدوات والمعايير المهنية».

وتعد نهى «الإعلام المؤسسي أحد أبرز ضحايا الحروب الأخيرة»، وتقول إن «الإعلام استُخدم باحة خلفية للصراع، وفي بعض الأحيان تَقدمَ القوات العسكرية، وأدى مهمات في الحروب الأخيرة، بدءاً من الحرب الروسية - الأوكرانية وصولاً إلى حرب غزة».

وتبدي نهى دهشتها من الأدوار التي لعبها الإعلام في الصراعات الأخيرة بعد «سنوات طويلة من تراكم النقاشات المهنية ورسوخ القيم والمبادئ التحريرية».

وتاريخياً، لعب الإعلام دوراً في تغطية الحروب والنزاعات، وهو دور وثّقته دراسات عدة، لكنه في الحروب الأخيرة «أصبح عنصراً فاعلاً في الحرب؛ ما جعله يدفع الثمن مرتين؛ أمام جمهوره وأمام الصحافيين العاملين به»، بحسب نهى التي تشير إلى «قتل واغتيال عدد كبير من الصحافيين، واستهداف مقرات عملهم في مناطق الصراع دون محاسبة للمسؤول عن ذلك، في سابقة لم تحدث تاريخياً، وتثبت عدم وجود إرادة دولية للدفاع عن الصحافيين».

وتقول نهى: «على الجانب الآخر، أدت ممارسات مؤسسات إعلامية دولية، كانت تعد نماذج في المهنية، إلى زعزعة الثقة في استقلالية الإعلام»، مشيرة إلى أن «دور الإعلام في الحروب والصراعات هو الإخبار ونقل معاناة المدنيين بحيادية قدر المستطاع، لا أن يصبح جزءاً من الحرب وينحاز لأحد طرفيها».

نهى النحاس

وترفض نهى «الصحافة المرافقة للقوات العسكرية»، وتعدها «صحافة مطعوناً في صدقيتها»، موضحة أن «الصحافي أو الإعلامي المرافق للقوات ينظر للمعركة بعين القوات العسكرية التي يرافقها؛ ما يعني أنه منحاز لأحد طرفَي الصراع». وتقول: «عندما ينخرط الصحافي مع جبهة من الجبهات لا يعود قادراً على نقل الحقائق».

وضعت الحروب الأخيرة الصحافيين في غرف الأخبار «أمام واقع جديد جعل أصواتهم غير مسموعة في مؤسساتهم، في بعض الأحيان»، وتوضح نهى ضاربة المثل بالرسالة المفتوحة التي وقّعها عدد من الصحافيين في صحيفة «لوس أنجليس تايمز» الأميركية ضد تغطية حرب غزة وتجاهل قتل عدد كبير من الصحافيين، والتي أدت في النهاية إلى إيقافهم عن تغطية حرب غزة.

زعزعت الانحيازات الإعلامية في التغطية، الثقة في استقلالية الإعلام، وأفقدت مؤسسات إعلامية كبرى مصداقيتها، بعد أن كانت حتى وقت قريب نماذج للالتزام بالمعايير المهنية. ورغم ما فقدته مؤسسات الإعلام الدولية من رصيد لدى الجمهور، لا تتوقع نهى أن «تقدم على تغيير سياستها؛ لأن ما حدث ليس مجرد خطأ مهني، بل أمر مرتبط بتشابك مصالح معقد في التمويل والملكية». ولفتت إلى أن «الحروب عطّلت مشروعات التطوير في غرف الأخبار، وأرهقت الصحافيين نفسياً ومهنياً».

وترى أن تراجع الثقة في نماذج الإعلام الدولية، يستدعي العمل على بناء مدارس إعلامية محلية تعكس الواقع في المجتمعات العربية، مشيرة إلى وجود مدارس صحافية مميزة في مصر ولبنان ودول الخليج لا بد من العمل على تطويرها وترسيخها بعيداً عن الاعتماد على استلهام الأفكار من نماذج غربية.

بناء تلك المدارس الإعلامية ليس بالأمر السهل؛ فهو بحسب نهى «يحتاج إلى نقاش وجهد كبير في التعليم وبناء الكوادر وترسيخ الإيمان بالإعلام المستقل». وهنا تؤكد أن «استقلالية الإعلام لا تعني بالضرورة تمويله من جهات مستقلة، بل أن تكون إدارته التحريرية مستقلة عن التمويل قدر الإمكان»، مشددة على أن «التمويل العام لوسائل الإعلام مهم ومرحّب به، لا سيما في لحظات الاستقطاب السياسي؛ حتى لا يلعب المال السياسي دوراً في تخريب مصداقية المؤسسة».

غيّرت الحروب غرف الأخبار وألقت بظلالها على طريقة عملها، لتعيد النقاشات الإعلامية إلى «الأسس والمعايير والأخلاقيات»، تزامناً مع تطورات تكنولوجية متسارعة، ترى نهى أنها «ضرورية لكن كأدوات لإيصال الرسالة الإعلامية بفاعلية».

من هذا المنطلق، ترفض نهى التوسع في مناقشة قضايا الذكاء الاصطناعي على حساب القضايا المهنية، وتقول: «نحتاج إلى إعادة تثبيت وترسيخ القواعد المهنية، ومن ثم الاهتمام بالأدوات التي تسهل وتطور الأداء، ومن بينها الذكاء الاصطناعي الذي لا يمكن إنكار أهميته».

وتضيف: «إذا كان الأساس به خلل، فإن الأداة لن تعالجه؛ لذلك لا بد من مناقشات في غرف الأخبار حول الأسس المهنية لاستعادة الجمهور الذي انصرف عن الأخبار».

وبالفعل، تشير دراسات عدة إلى تراجع الاهتمام بالأخبار بشكل مطرد، تزامناً مع تراجع الثقة في الإعلام منذ جائحة «كوفيد-19»، وتزايد ذلك مع الحرب الروسية - الأوكرانية. ووفقاً لمعهد «رويترز لدراسات الصحافة»، فإن «نحو 39 في المائة من الجمهور أصبحوا يتجنبون الأخبار».

وهنا تقول نهى إن «الثقة تتراجع في الإعلام بشكل مطرد؛ لأن الجمهور يشعر أن صوته لم يعد مسموعاً، إضافة إلى تشبع نسبة كبيرة من الجمهور بأخبار الحرب، إلى حد مطالبة البعض بنشر أخبار إيجابية». وتضيف أن «هذا التراجع امتزج مع صعود منصات التواصل التي أصبحت يُخلط بينها وبين الإعلام المؤسسي، لا سيما مع ما قدمته من متابعات للحروب والصراعات الأخيرة».

وتشير رئيسة «منتدى مصر للإعلام» إلى أن «الحروب الأخيرة في أوكرانيا وغزة وضعت أعباء مالية، وفرضت محتوى مختلفاً على المؤسسات الإعلامية أدى إلى زيادة تجنب الجمهور للأخبار»، بحسب ما جاء في دراسة نشرها معهد «رويترز لدراسات الصحافة»؛ ما يستلزم البحث عن وسائل لإعادة جذبه، أو لـ«غرفة أخبار ثالثة» كما فعلت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، مستهدفة «جذب مزيد من القراء وزيادة الموارد».

وتستهدف «غرفة الأخبار الثالثة» إنشاء محتوى خاص لمنصات التواصل الاجتماعي، ومقاطع فيديو قصيرة تتناول موضوعات متنوعة لجذب الأجيال المرتبطة بالهواتف الذكية.

ويعد التدريب واحداً من أدوار المنتديات الإعلامية، ومن بينها «منتدى مصر للإعلام». وأوضحت نهى، في هذا المجال، أن «المنتديات الإعلامية هي تعبير عن الواقع الإعلامي لدولةٍ أو منطقةٍ ما، ونقطة تلاقٍ لمناقشة قضايا ومعارف مهنية، وملاحقة التطورات التكنولوجية».

وكان من المقرر عقد النسخة الثالثة من «منتدى مصر للإعلام» نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، لكن تم تأجيلها «بسبب الأحداث المتلاحقة والمتسارعة في المنطقة والتي كانت ستؤثر على حضور بعض ضيوف (المنتدى)»، بحسب نهى التي تشير إلى أنه «سيتم عقد النسخة الثالثة من (المنتدى) منتصف 2025».

وتوضح أنه «يجري حالياً مراجعة أجندة (المنتدى) وتحديثها وتغييرها استعداداً للإعلان عنها في الربع الأول من العام المقبل»، مشيرة إلى أنه لم يتم الاستقرار بعدُ على عنوان النسخة الثالثة، وإن كان هناك احتمال للإبقاء على عنوان النسخة المؤجلة «يمين قليلاً... يسار قليلاً!».

وتقول نهى إن «منتدى مصر للإعلام» سيركز كعادته على المناقشات المهنية والتدريبات العملية، لا سيما «منصة سنة أولى صحافة» المخصصة لتقديم ورش تدريبية لطلاب الإعلام تتناول الأساسيات والمعايير المهنية.

وتختتم حديثها بالتأكيد على أن الالتزام بالمعايير المهنية هو الأساس لبقاء الإعلام المؤسسي، مجددة الدعوة لفتح نقاشات جادة بشأن مأسسة نماذج إعلام محلية في المنطقة العربية.