تشكيلي مصري يجرّد السريالية من حدود اللون في لوحاته

الجنايني يحاول التصدي لهيمنة التصنيفات الأوروبية على الفنانين العرب

لوحة «مرثية النيل» أحدث أعمال الفنان أحمد الجنايني
لوحة «مرثية النيل» أحدث أعمال الفنان أحمد الجنايني
TT

تشكيلي مصري يجرّد السريالية من حدود اللون في لوحاته

لوحة «مرثية النيل» أحدث أعمال الفنان أحمد الجنايني
لوحة «مرثية النيل» أحدث أعمال الفنان أحمد الجنايني

لوحات تتنفس شعراً ولوناً يجمعها معرض «أنا وسريالية التجريد... خروجاً على النص» للفنان التشكيلي المصري أحمد الجنايني، الذي استطاع عبر مسيرته الفنية أن يخلق بصمة خاصة لأعماله التي تحلّق بين الواقع والحلم والصوفية.
وتتزين قاعة صلاح طاهر في دار الأوبرا المصرية بـ60 لوحة متنوعة في أحجامها ورسائلها لخلق حالة وجدانية ترافق المتلقي منذ دخوله المعرض حتى انتهائه من مشاهدة اللوحات. وعن المعرض وعنوانه الإشكالي يقول الفنان أحمد الجنايني لـ«الشرق الأوسط»: «حرصت على طرح إشكالية هيمنة التصنيفات الأوروبية على الفنانين التشكيليين العرب وقولبتهم وفقاً لهذه الأسس التي تمخضت عن مدارس فنية لها ظروفها وسياقاتها التاريخية والفنية والسياسية والاجتماعية كالدادائية والسريالية والتكعيبية وغيرها. وعبر هذا المعرض أعبّر عن رفضي لاستهلاك المصطلحات الأوروبية في وصف تجارب الفنانين العرب الذين لهم مرجعيتهم الخاصة وشخصيتهم المميزة».
ويضيف: «في هذا المعرض أقدم السريالية لكنْ متخلياً عن المنظور والتشريح وبمنطق التجريد عبر 15 لوحة جديدة تمثل مرحلة مغايرة من مراحل تجربتي الفنية، ودعمتها بلوحات من مراحل سابقة كنت أقدم فيها السريالية بطريقة خالصة».
تتوزع اللوحات على طابقين تمثل كل مجموعة فيها حالات متنوعة للفنان، فمنها مجموعة لوحات استعان فيها بمقولات شعرية من تأليفه، دمجها في تواشجٍ محرّض على الإبداع مع مفردات تشكيلية، وهي لوحات من الأكواريل التي تتضافر فيها الكلمات مع إضاءات اللون وتدرجاته «التون» ما بين الفاتح والغامق والتي غالباً ما يضيف إليها الفنان بقع تجمعات لونية صفراء تستقطب الفكر وتستدعي التأمل يعيش فيها المتلقي لحظات استغراق بين الحلم والخيال واللامعقول. يقول عنها الفنان: «هي تجربة مهمة يشتبك فيها النص الشعري مع النص البصري، وعُرضت في فيتنام وبيروت من قبل، وحرصت فيها على إضافة النص المكثف بجمل شعرية تخدم اللوحة، فإذا ما تم حذفها يختل توازن اللوحة». تتميز الخطوط التي كُتبت بها الجمل الشعرية بتفرد تام عن أنواع الخطوط العربية المعروفة والتي تتناسب مع رؤية الفنان البصرية وتضفي بعداً جمالياً خاصاً، «هنا الألف تزداد استقامتها واستطالتها بينما الراء تزداد ليونة وانسيابية» حسب الفنان.
تستوقفك لوحة «مرثية النيل» التي تجسد ما وصل إليه النهر الخالد من تلوث وإهمال، حيث تحفّ ضفته مومياوات ملفوفة بأربطة كتانية في مشهد جنائزي لعروس نيل ملقاة في مجرى النهر الذي أوشك على الجفاف، وهي لوحة تستدعي أزمة سد النهضة التي تهدد نهر النيل. وعن هذه اللوحة يقول الجنايني: «هي أحدث لوحاتي التي انتهيت منها قبل أيام من المعرض والتي تجسد معاناة النيل شريان الحياة في مصر ورمز الخصوبة والنماء، وهنا يعد مشهد وفاة هاميس عروس النيل تجسيداً لذروة الدراما التي يعايشها النهر الخالد».
وفي أحد أركان المعرض نجد لوحة مثيرة للتساؤلات والدهشة تحمل عنوان «جدلية الفن والحياة» والتي تخرج فيها المرأة عن إطار اللوحة الرئيسي برداء أبيض منسدل كأنها في حالة عبور أو هروب مع خلفية زرقاء موحية بتقلبات الحياة، فتعبر إلى إطار آخر. وعن هذا العمل يقول الجنايني: «تختزل اللوحة حواراً فلسفياً بين الحياة والفن وتؤكد احتياج الإنسان إلى الفن».
وتطرح لوحات أخرى هواجس إنسانية أخرى، ومنها: «فجر جديد»، و«الخروج من الهزيمة» التي تعكس حالة النكسة التي مرت بها مصر قبل حرب أكتوبر (تشرين الأول)، ولوحة «ملجأ العامرية» التي تجسد جريمة الحرب التي قامت بها أميركا في أثناء غزوها للعراق بتدمير ملجأ للمدنيين وقصفه جوياً، ما أدى إلى وفاة كل ما كانوا به.
كما يضم المعرض مجموعة من لوحات الأكواريل التي يتميز بها الفنان أحمد الجنايني، وتعكس تكنيكاً فنياً خاصاً تتهادى فيه الألوان كأنها ترسم مشاهد مجسمة ثلاثية الأبعاد من وحي الأحلام. في هذه اللوحات يفتش الفنان بفرشاته عن كرات الضوء في عتمة الواقع ويروي ما يجول بخواطر الإنسان ليجد المتلقي نفسه متوحداً مع ما ترويه اللوحات لا سيما هاجس الحياة والموت. وحول هذا الهاجس يكشف الجنايني الذي انطلق بهذا التكنيك بعد فترة إقامته في ألمانيا: «حاولت أن أجسد فيها الشكل بمقاييس مصرية يشم فيها المتلقي رائحة مصر من حيث ملامح الشخوص أو بعض الموتيفات الفرعونية التي تخرج بالسريالية إلى نطاق التجريد وتروّضها بأحكامها».
يفتش الجنايني في لوحاته عن إشكالات الفعل التشكيلي محاوراً ألوانه عساها تفتح دروباً في ذاكرة الزمن، بينما تعكس بورتريهاته حالة خاصة من الشغف بالخروج عن المألوف في نسب الرسم التشخيصي الأكاديمية، مُكسباً الأساطير مذاقاً جديداً يعكس دلالات أخرى مستمَدة من الواقع، وهو ما نلمسه في لوحة «آدم وحواء» بخطوط وتجمعات لونية تلعب على العلاقة بين المتلقي ومفردات اللوحة.
تمثل الأنثى مفردة أساسية في عدد من لوحات المعرض ومنها لوحات: «انتظار»، و«3 قبعات»، وهي أيضاً بنسب مغايرة للمألوف تعطي دلالات لعالمية قضايا المرأة متخطية حدود الهوية والجنسية، إذ تحمل بعض النساء هيئة أوروبية بملامح مصرية خالصة في فضاء أوروبي الطابع، فالجسد هنا يسكن اغترابه الجغرافي والنفسي.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».