الأكراد السوريون بين رهاناتهم وإخفاقاتهم

أكراد سوريون يرفعون صورة لعبد الله أوجلان في مدينة رأس العين قرب الحدود التركية في 6 أكتوبر الحالي (أ.ف.ب)
أكراد سوريون يرفعون صورة لعبد الله أوجلان في مدينة رأس العين قرب الحدود التركية في 6 أكتوبر الحالي (أ.ف.ب)
TT

الأكراد السوريون بين رهاناتهم وإخفاقاتهم

أكراد سوريون يرفعون صورة لعبد الله أوجلان في مدينة رأس العين قرب الحدود التركية في 6 أكتوبر الحالي (أ.ف.ب)
أكراد سوريون يرفعون صورة لعبد الله أوجلان في مدينة رأس العين قرب الحدود التركية في 6 أكتوبر الحالي (أ.ف.ب)

المؤسف أن أحداً لم يكن ليهتم بالأكراد السوريين، لولا الهجوم التركي المستعر اليوم للنيل من وجودهم، مثلما لم يهتم بهم أحد إلا عندما استدعت الحاجة إليهم، إن من قبل أميركا التي وجدت فيهم قوة مثابرة على الأرض لدحر تنظيم داعش ودولته المزعومة، بعد انتصارهم في كوباني (عين العرب)، وإن من قبل النظام السوري لملء الفراغ بعد سحب سلطته من مدينة الحسكة لتحييد المكون الكردي، وتخفيف الأعباء عن قواته كي تتفرغ لمعارك في ميادين أخرى.
وبين هذا وذاك، تُرك الأكراد السوريون لسنوات طويلة وحيدين يئنون تحت وطأة ظلم وتمييز لم يعرفا حدوداً بفعل تعاقب سلطات مشبعة بالتعصب القومي، ولا مكان في دنياها لقيم التنوع والاختلاف، أو احترام التعددية وحقوق الإنسان، مثلما تُركوا لمصيرهم في مدينة عفرين وأريافها، حيث لم يكتفِ الجيش التركي والجماعات السورية الملحقة به باحتلالها، بل نكلوا وفتكوا بأهلها، وهجروهم إرهاباً من مساكنهم، لتوطين مكون عربي وتركماني مكانهم!
والمؤسف أيضاً أن يقع الأكراد، عموماً، مرة تلو المرة في الحفرة ذاتها، عندما يستمرون في منح ثقتهم ليس للشعوب التي تشاركهم شظف العيش والاضطهاد، بل للأنظمة التي تتلاعب بهم وفق أهوائها ومصالحها، وتوظفهم كورقة تُستخدم حين تفيد، وتُطوى حين ينتهي دورها، أو عندما يكررون الرهان، وأحياناً بسذاجة، على استثمار هوامش ضيقة تفرضها الصراعات بين أنظمة البلدان التي تتقاسم أراضي كردستان التاريخية، وتالياً عندما يهملون الدروس والعبر المستخلصة من الهزائم والإخفاقات التي مني بها نضالهم خلال تاريخ طويل، خصوصاً بعد أن وصلت «اللقمة إلى الفم» في غير لحظة من لحظات تاريخهم.
ولنتذكر إسقاط جمهورية مهاباد في إيران عام 1946، ثم ما حل بمملكة كردستان في عشرينات القرن الماضي، وباتفاق مارس (آذار) عام 1975 في العراق، وبالاستفتاء على استقلال إقليم كردستان العراق عام 2017. ولنتذكر أيضاً التدمير الذي طال «جمهورية آرارات»، وتمرد أكراد تركيا عام 1924، وكيف يحاصر اليوم «حزب العمال الكردستاني»، حتى بعد أن اقتصرت أهدافه على حكم ذاتي في إطار الدولة المركزية، وقبلها كيف تم ترحيل عبد الله أوجلان من سوريا عام 1998، ثم اعتقاله عام 1999 في نيروبي، وتسليمه إلى سلطات أنقرة!
وإذا كان أمراً مفسراً ومفهوماً أن لا يأخذ الأكراد عموماً بتلك الدروس، ربطاً بشدة قهرهم وعمق معاناتهم، ويتقصدون اغتنام أي فرصة لنصرة مشروعهم القومي، فما ليس مفهوماً ولا مفسراً حين يستهتر بها الأكراد السوريون، وهم الذين تميزهم خصوصية مختلفة، من حيث نسبتهم العددية إلى مجموع السكان، لا تتجاوز في أحسن الأحوال 15 في المائة، عدا عن طابع توزعهم الديموغرافي في مناطق غير مترابطة جغرافياً (مدينة الحسكة وأريافها، وشمال إدلب، وحلب ودمشق)، وتعايشهم تاريخياً مع جماعات تفوقهم في بعض الأماكن عدداً، من عرب وسريان وأرمن وآشوريين وتركمان، الأمر الذي يُضعف الشروط الموضوعية لمشروعهم القومي التي يحوزها أكراد تركيا والعراق وإيران. والأهم من ذلك خصوصية تطور الحراك الكردي في سوريا الذي اتسم تاريخياً بارتباطه وتأثره الشديدين بحراك التجمعات الكردية الكبيرة في بلدان الجوار، وبانزلاق أحزابه، كاتجاه عام، لبناء خطابها السياسي تبعاً لذلك، وليس انطلاقاً من خصوصية الوضع السوري ومعانيه المتميزة. ولا يزال في الأذهان المشهد السياسي الكردي، ودفق المشاعر القومية التي رافقت حركة التطوع الواسعة من أجل دعم البيشمركة في شمال العراق، وأيضاً كيف أذكى الوجود شبه العلني لـ«حزب العمال الكردستاني» في الساحة السورية الروح القومية الكردية، مجنداً غالبية الشباب والفتية الأكراد للقتال في جبال كردستان.
ورغم ذلك، فمن دواعي العدل والإنصاف القول إن تطور الحس القومي لأكراد سوريا لم يأت عموماً على حساب ولائهم لوطنهم. فإذا استثنينا قلة من الأصوات المغالية في التطرف، التي لا تزال تروّج لأفكارها الطفولية عن الانفصال والدولة المستقلة، فإن الحركة السياسية الكردية، وهي أكثر من عشرة أحزاب متفرعة لانقسامات من جذر واحد تأسس أواسط الخمسينات، وهو الحزب الديمقراطي الكردي (البارتي)، تتفق جميعها على شعارات تؤكد على الانتماء السوري، وتدعو إلى تمتين أواصر الأخوة العربية - الكردية، والحريات العامة والديمقراطية، وهو ما أظهروه في برامجهم، وكرسوه عبر أشكال التنسيق السياسية والثقافية مع الفعاليات العربية، وكان دافعهم للمشاركة بحماسة في «إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي»، واللجان المنبثقة عنه، ثم لتشكيل «المجلس الوطني الكردي» عام 2011، للدخول ككتلة موحدة في أول مجلس وطني للمعارضة السورية، قبل أن يعلنوا انسحابهم من تشكيلات المعارضة وائتلافاتها كافة، بسبب ما عدوه إغفالاً لمطالبهم القومية.
وفي المقابل، علينا الاعتراف بأن «حزب الاتحاد الديمقراطي» في سوريا، وهو الامتداد السياسي لـ«حزب العمال الكردستاني»، قد أحرز وزناً لافتاً، وبات الأقوى والأكثر تسليحاً، مستنداً إلى دعم السلطة السورية والهوامش الواسعة التي أتاحتها لنشاطاته، وهو الحزب الذي لم يتردد للحظة في الوقوف بداية ضد ثورة السوريين، ولجم انخراط الأكراد فيها، ومحاصرة ما ظهر من تنسيقيات بينهم داعمة لها، بما في ذلك مضايقة واعتقال أهم الناشطين والكوادر المعارضين له، وأسوأها ما رشح عن مسؤوليته في اغتيال زعيم «حزب المستقبل الكردي»، مشعل تمو، في خريف عام 2011، الذي كان قد انتخب قبل أيام من اغتياله عضواً في المكتب التنفيذي لأول مجلس وطني سوري معارض. كما لم يتردد الحزب، وربما بالتواطؤ مع النظام، في استثمار سيطرته على مناطق انسحابات الجيش السوري أواخر 2012، من شمال شرقي البلاد، لإقامة إدارة ذاتية، وتشكيل مؤسساتها وبرلمانها وجيشها وجهاز أمنها. كما استثمر نجاحه في معركة عين العرب (كوباني) لرفض الآخر، وفرض نفسه كمدافع وحيد عن الحقوق القومية الكردية، مستخدماً أساليب القمع والتمييز والإقصاء والتهجير.
ورغم التضحيات التي قدمها «حزب الاتحاد الديمقراطي» و«قوات سوريا الديمقراطية»، وانتقالهما من عارضة توازن إلى أخرى بعد تحالفهما مع واشنطن لمواجهة تنظيم داعش، ورغم فشل أكثر من محاولة للسلطة السورية لتطويعهما، وإعادة الأوضاع إلى سابق عهدها، ورغم إلحاحهما المستمر على المشاركة في أي مفاوضات تجري حول المستقبل السوري، فقد بقيت الريبة والشبهة تحيط بعلاقتهما مع السلطة، وما عمقها طلب الحزب تدخل النظام في معارك عفرين، وتنسيقه العسكري اليوم مع قوات النظام لمواجهة التقدم التركي، وإن تم برعاية روسية. وربما ما يخفف منها إدراك «حزب الاتحاد الديمقراطي»، وإن متأخراً، لأهمية تقديم التنازلات، وتجنب النهج التصادمي مع العرب، إن في تأكيده على وحدة الوطن السوري، وتخليه عن اسم فيدرالية «روجافا» أو «غرب كردستان»، وإن بفتح الباب أمام مختلف المكونات غير الكردية للمشاركة في إدارة المؤسسات السياسية والإعلامية والإدارية في منطقة الحكم الذاتي.
ولكن، للأسف، فإن ما يضعف هذا المسار هو مواقف المعارضة السورية، بشقيها السياسي والعسكري، التي ارتهن بعضها لأجندة قوى إقليمية تعادي الأكراد، بينما لا يزال بعضها الآخر يشكك بالنيات الوطنية والتشاركية للأكراد، ويدّعي أنه لا أمان لهم، وأنهم يُظهرون غير ما يبطنون، ويترقبون الوقت المناسب للانفصال، وتنفيذ حلمهم القومي، من دون اعتبار للمصلحة الجامعة، ولمستقبل شركائهم في الوطن. ومن هؤلاء المعارضين من لا يزال متردداً في إظهار تفهمه لحقوق الأكراد القومية، ولم يمتلك جرأة كافية لبناء الثقة معهم، ومنحهم قيمة سياسية خاصة، وتمثيلاً حقيقياً يزيل الإحساس بالظلم الذي تراكم تاريخياً لديهم، بأنهم كانوا دائماً وقوداً لقوى سياسية تناست، عندما حققت أهدافها، ما رفعته من شعارات لرد المظالم وإلغاء التمييز.
فأي فرصة للإفادة من الدور الخاص للأكراد السوريين، ومحاصرة الروح القومية المتطرفة، إذا استمرت سياسة الإنكار والتجاهل لحقوقهم، والأسوأ حين يندفع معارضون، رداً على تطرف «حزب الاتحاد الديمقراطي»، إلى الطعن بدوره في مواجهة التشدد الإسلاموي، وبوطنية الأكراد عموماً!
هل هو قدرهم أم ربما لعنة تطاردهم أن تبقى الهزائم والإخفاقات رفيقة دروبهم، أم هو خطأهم في عدم تمثل دروس تجاربهم وهزائمهم المريرة؟ وألا يكفيهم ما دفع من أثمان وضحايا كي تبادر النخب السورية، العربية والكردية، لتحرير سياساتها مما يشوبها من حسابات ضيقة أنانية، ومن تعصب قومي، وتدرك حقيقة أن الانتصار للوطن الديمقراطي التعددي هو المدخل الصحي الناجع لمعالجة المظالم القومية، ولإزالة مواطن الريبة والشك، وخلق واقع من الثقة والاطمئنان بينهما، مما يقطع الطريق على أطراف دولية وإقليمية ما فتئت تستخدم المسألة الكردية وسيلة في صراعاتها وتسوياتها.



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.