الصين في الأدبيات العربية... توثيق ببليوغرافي

من عام 1886 حتى منتصف 2019

الصين في الأدبيات العربية... توثيق ببليوغرافي
TT

الصين في الأدبيات العربية... توثيق ببليوغرافي

الصين في الأدبيات العربية... توثيق ببليوغرافي

> أول ما نُشر عن الصين كان في الجزء الثامن من السنة الرابعة من مجلة (المقتطف / يناير 1879)، بعنوان: «سكان الصين» وهي مادة إخبارية إعلامية، ويمكن عدّ هذا التاريخ بداية الكتابة باللغة العربية عن الصين
يوثق هذا الكتاب، الذي نُشر مؤخراً عن مركز البحوث والتواصل المعرفي بالرياض في حدود 480 صفحة، والذي أعده الدكتور أمين سليمان سيدو ما كُتب عن الصين باللغة العربية ببليوغرافياً، من تأليف وترجمة وتعريبٍ، مما يعكس تطور العلاقات التاريخية في جميع المجالات بين العالم العربي بشكل عام والمملكة العربية السعودية بشكل خاص مع الصين. ومن المعروف تاريخياً أن الحضارة الصينية تُعدُّ واحدة من أعرق الحضارات في العالم، وشكلت إحدى أقدم المدنيات وأرقاها، وحافظت على هويتها ونقائها عبر القرون، وهذا ما شجع العرب على التواصل مع الصين، وتوطيد العلاقات التجارية معها من خلال الطريق التجاري الشهير المعروف باسم «طريق الحرير» الذي ربط بين الحضارتين العربية والصينية.
لقد اهتمت المصادر العربية بالصين في مختلف الجوانب، وشغلت مكانة كبيرة في كتابات العرب. ومن هنا، نتبين الجهد الذي بذله مركز البحوث والتواصل المعرفي في سبيل جمع هذه المعلومات وتوثيقها وتبويبها، من أجل مساعدة الباحثين على الوصول إلى المعلومات المستهدفة بسهولة ويُسرٍ.
وتعدُّ الأعمال الببليوغرافية اللبنات الأساسية لأنظمة التوثيق والتحكم بالمعرفة؛ التي لا سبيل إليها إلا عن طريق الببليوغرافيات التي تُعرِّف بالإنتاج الفكري وتربط بين دوائر المعرفة البشرية في كل زمان ومكان.
لهذا نرى أن الأعمال الببلوغرافية صاحبت جميع أنواع أصناف العلوم النظرية والتطبيقية، كما تحظى بعناية المؤسسات العلمية ودور النشر الكبرى في جميع دول العالم. وعلى المستوى العملي لا يمكن الاستغناء عن البحوث الببليوغرافية للتمهيد لأي عمل منهجي رصين؛ ولا شك أن إنتاج الببليوغرافيات ونشرها ليس أمراً ميسراً لأنها تعتمد على مقاييس صعبة ومُكلفة، منها الدقة والشمولية والانتظام، وهذه الصفات يصعب تحقيقها بسهولة.
ومن هنا، يمكن القول إن كثيراً من الباحثين يواجهون مشكلة مزمنة سببها ضعف الاتصال أو فقده بين الخبراء والمؤلفين في دوائر البحث العلمي والنشر.
وكانت القوائم الببليوغرافية من الأدوات المهمة التي فتحت آفاقاً جديدة أمام الفكر لممارسة نشاطه المعرفي، وتظل أداة مساندة للبحث العلمي إلى جانب الأدوات الأخرى كالكشافات والفهارس، وسواهما من الأدوات التي يلجأ إليها الدارسون للبحث عن الكتابات ذات الصلة بموضوع بحثهم، من فهرست ابن النديم إلى البيانات الوصفية المخزنة في قواعد المعلومات، من حيث تطور أساليبها ونظم تخزينها وحفظها واسترجاعها، ومواكبتها للمتغيرات التي طرأت على مختلف مجالات العلوم والفنون.
حيث تتيح الدراسات المعلوماتية لآداب الموضوعات المختلفة، أو قطاعات أو أعمال معينة منها وسيلة للاستكشاف العلمي لخصائصها الببليوغرافية، والتوصيف الإحصائي الكمي لها، والتقصي المنهجي لمقولاتها، ومن أهم أنواع هذه الدراسات البحوث الببليومترية التي يقع في نطاقها هذا العمل.
وتبرز أهمية هذا العمل من أنه ركز في توثيق الأعمال المنشورة باللغة العربية أو المترجمة إليها عن الصين، وتيسير الصعاب أمام الباحثين للوصول إليها، بطريقة علمية مقننة، وحلَّل هذه الأعمال بالاعتماد على الأساليب الببليومترية، والطرق الإحصائية للكشف عن جوانب القوة والضعف في الموضوعات المدروسة.
ويهدف هذا العمل إلى تحقيق عدد من الأهداف الآتية:
> الحصر الببليوغرافي للمواد المنشورة في الموضوع باللغة العربية، سواء في كتب مستقلة، أم مباحث من كتب، أم أطروحات علمية، أم بحوث منشورة في المجلات الدورية. ووصف السمات الأساسية للإنتاج الفكري المنشور؛ أو المترجم عن الصين إلى اللغة العربية، وتحليله، وتقويمه باستخدام الأساليب الببليومترية، والطرق الإحصائية.
> بيان الموضوعات التي استحوذت على اهتمام الباحثين، والموازنة بينها؛ باستخدام الأساليب الببليومترية. والتعرف إلى أوعية المعلومات الدورية العربية التي اهتمت بنشر البحوث عن الصين.
> الضبط الببليوغرافي للمواد، والتجميع الموضوعي لها، وتنظيمها بطريقة علمية مقننة.
ويسعى هذا العمل إلى تحقيق أهدافه من خلال الإجابة عن الأسئلة الآتية: ما حجم الإنتاج الفكري المنشور؛ أو المُعد في الكتب المستقلة، والأطروحات العلمية، والمجلات الدورية عن الصين باللغة العربية؟ وما أنماط أوعية المعلومات التي نُشر فيها الإنتاج الفكري عن الصين؟
وما الموضوعات التي استحوذت على اهتمام الباحثين بشكل كبير؟ ومَنْ هم الكُتَّاب الذين برزوا في هذا المجال؟ وما حجم إسهاماتهم على خريطة التأليف والنشر والترجمة في نطاق العمل؟
والإجابة عن هذه الأسئلة ومثيلاتها هي ما يسعى هذا العمل إلى الإفصاح عنه، واستنباط الإيجابيات والسلبيات القائمة، والسعي إلى طرح حلول تفيد قضايا البحث العلمي، وتلبي رغبات الباحثين واحتياجاتهم.
أَمَّا الحدود الموضوعية لهذا العمل، فهو يحاول تغطية جميع الموضوعات المنشورة عن الصين باللغة العربية، أو ما تمَّ أعدادها ضمن الرسائل الجامعية. ومن ناحية الحدود المكانية، لم يقتصر العمل على أماكن أو دول أو مناطق محددة. وفيما يتعلق بالحدود الزمانية، يغطي العمل الفترة الزمنية من نَشر أول عمل استطاع الباحث رصده في القائمة الببليوغرافية، ويرجع إلى عام 1886م وحتى منتصف عام 2019م، وعن الحدود اللغوية يغطي هذا العمل، كما ذكرنا، الأعمال المنشورة عن الصين باللغة العربية أو المترجمة إليها فقط.
والمنهج الرئيس الذي استخدم في هذا العمل، هو المنهج الببليومتري التحليلي والوصفي في القياس، والتحليل الإحصائي المقارن للبيانات المجمَّعة عن المتغيرات الببليوغرافية المدروسة، وتوصيف خصائصها الببليوغرافية.
وأَمَّا بالنسبة إلى إعداد القائمة الببليوغرافية، فقد أعدت وفق منهج التحليل الببليوغرافي الاستنادي، فاعتمد رؤوس موضوعات مقننة، حسب قواعد الفهرسة الأنجلو – أميركية، كما روعيت قواعد الترتيب الألفبائي في متن العمل وفي المسارد الملحقة به.
وقد تمحور هذا الكتاب في ثلاثة أقسام رئيسية، إضافة إلى المقدمة. القسم الأول: الدراسة الببليومترية، وتناول التشتت الموضوعي، والتوزيع النوعي، وتوزيع الكُتَّاب، والتوزيع الزمني. والقسم الثاني: التوثيق الببليوغرافي، وهو رصد ببليوغرافي لما نُشر عن الصين باللغة العربية. والقسم الثالث: المسارد: مسرد بالموضوعات، ويشتمل على رؤوس الموضوعات المستخدمة في التوثيق الببليوغرافي، ومسرد بالأعلام، ويشتمل على أسماء المؤلفين والكُتّاب، وعناوين الكتب والأبحاث والمقالات، وأسماء الدوريات.
ومن خلال تحليل المعلومات المجمعة عن المتغيرات المدروسة تمَّ التوصل إلى النتائج المهمة الآتية:
> لُوحظ أن المملكة العربية السعودية تميزت بعلاقاتها السياسية والاقتصادية والتجارية مع الصين، وكانت في صدارة الدول العربية عامة، والخليجية خاصة في هذا المجال، إذ نُشر في هذا الحقل 30 مادة.
وتبيّن أنَّ أول ظهور لعمل نُشر في هذا الموضوع كان في الجزء الثامن من السنة الرابعة من مجلة «المقتطف» ( يناير/كانون الثاني 1879)، بعنوان: «سكان الصين»، وهي مادة إخبارية إعلامية، ويمكن عدّ هذا التاريخ بداية الكتابة باللغة العربية عن الصين.
يُذكر أنّ أول كتاب نُشر في الموضوع من واقع الضبط الببليوغرافي هو (كتاب قانون الصين) للباحث تنجي خافكدي، وقد طُبع في مطبعة مدرسة والدة عباس الأول في القاهرة عام 1906هـ. ولوحظ أن هناك أخطاءً في توثيق بعض المواد، ونقصاً في بعض بيانات الوصف الببليوغرافي لمواد أخرى.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم