مخاوف من تداعيات «فضيحة أوكرانيا» على أداء الديمقراطيين الانتخابي

TT

مخاوف من تداعيات «فضيحة أوكرانيا» على أداء الديمقراطيين الانتخابي

تبارى المرشحون الديمقراطيون الأبرز لانتخابات الرئاسة الأميركية مساء أمس في مناظرتهم الجديدة، على إظهار نقاط اختلافهم ومحاولة استغلال نقاط ضعف منافسيهم. وفي ظل التغييرات الدراماتيكية التي طرأت على أدائهم في استطلاعات الرأي، بعدما سجلت نتائج بعضها تراجع المرشح جو بايدن أمام منافسيه، بات المرشحون المغمورون منهم في سباق مع الوقت للاستفادة من هذه التغييرات، تخوفا من انهيار جبهة الديمقراطيين للتمكن من دعم مرشح قادر على منافسة الرئيس دونالد ترمب.
وتراجع بايدن لصالح السيناتور وارن وتعثر صحة السيناتور بيرني ساندرز، قرع جرس إنذار في القاعدة الديمقراطية التي يؤمن غالبيتها بحسب استطلاعات الرأي نفسها، بأن حظوظ المرشحين التقدميين قد تكون ضئيلة في الفوز ببطاقة ترشيح غالبية الأميركيين، الذين لا يستسيغون حتى الآن انتخاب «تقدمي» إلى سدة الرئاسة.
ويتخوف الكثير من المراقبين من أن تؤدي «فضيحة أوكرانيا» والجهود الجارية لعزل ترمب إلى نتائج عكسية، في ظل اندفاع الرئيس الجمهوري في الكثير من الملفات، سواء كانت داخلية أو خارجية. هناك كذلك من يراهن على إمكانية تقدّم بعض المرشحين الوسطيين الحلبة، أمثال السيناتور كمالا هاريس أو عمدة ساوث باند بيت بوتيجيج، لملء الفراغ.
غير أن القضايا التي يناقشها المتسابقون الديمقراطيون، تعاني من قصور بسبب تفوق الدعاية الانتخابية للرئيس ترمب، الذي نجح حتى الساعة في تقديم شعارات يتكئ فيها على تحقيق «إنجازات غير مسبوقة» كما يصفها، سياسيا واقتصاديا وتجاريا، بعدما تمكن من الإطاحة بتقاليد راسخة، سواء مع الطبقة السياسية أو مع حلفاء واشنطن وأصدقائها.
ويكاد المشاهد الأميركي يحتار في فهم آراء المرشحين الديمقراطيين في سياسات، مثل الهجرة والرعاية الصحية والإجهاض والعلاقة مع شركات التكنولوجيا والمحكمة العليا. وبحسب تحليلات صحافية أميركية، سيناقش المرشحون في مناظرتهم في أوهايو ما إذا كان عليهم إلغاء تجريم عبور الحدود الأميركية دون الحصول على إذن مناسب، غير أن استطلاعات الرأي أثبتت أن غالبية الأميركيين تدعم الحدّ من الهجرة غير الشرعية، رغم مطالبتها بإجراءات أكثر إنسانية للتعامل مع من يخرق القانون. وهي نقطة تجادل حولها المرشحان جوليان كاسترو وبيتر أوروك في مناظرة سابقة على سبيل المثال.
في حين أن قضية الرعاية الصحية التي تحظى هي الأخرى بمناقشة مسهبة، تثير خلافات عميقة بين المرشحين التقدميين والوسطيين. فالسيناتور بيرني ساندرز دعا مع إليزابيث وارن لرعاية صحية للجميع، في حين يجادل نائب الرئيس السابق جو بايدن وبيت بوتجيج لصالح السماح للأميركيين بالإبقاء على برامج التأمين الخاصة.
قضية إصلاح العدالة الجنائية هي الأخرى مجال خلافات عميقة، حيث يدعو البعض إلى وقف نظام العقوبات المشددة فيما يتعلق بالجرائم اللاعنفية، بما في ذلك الجرائم المتعلقة بالمخدرات. وتعرض بايدن لانتقادات شديدة بسبب مشروع قانون الجريمة لعام 1994 الذي يقول النقاد إنه ساهم في ارتفاع مستويات السجن الجماعي بين المجتمعات الملونة. لكن بايدن دعا في مناظرة سابقة إلى استبداله من خلال قانون يدعو إلى تأهيل السجناء، بدلا من السجن الطويل.
وتحظى العلاقة مع شركات التكنولوجيا بنقاشات، بدت خجولة، رغم تعهد عدد من الديمقراطيين بتفكيك شركات التكنولوجيا الكبرى، بسبب مخاوفهم بشأن وادي السيليكون بعد أن استخدم الروس وسائل التواصل الاجتماعي لنشر معلومات مضللة خلال انتخابات عام 2016، لكن شركات مثل أمازون وأبل وغوغل لم تحظ باهتمام كبير خلال المناقشات.
بدورها، قضية الإجهاض بالكاد حظيت بمناقشات جادة، رغم تغريدات المرشحة كمالا هاريس المنتقدة لخلو المناظرات السابقة من أي إشارة فعلية لهذه القضية. أما قضية المحكمة العليا التي هنأ الرئيس ترمب ناخبيه على أنها أصبحت «محافظة» أكثر، ويتعين عليهم التصويت مجددا له حفاظا على هويتها، لا تبدو مشكلة كبيرة بالنسبة إلى المرشحين الديمقراطيين، على الأقل في هذه المرحلة من الحملات الانتخابية.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟