تسجيلات البغدادي... أحاديث متكررة عن العودة

لجأ إليها لتفادي الخفوت عبر الإعلان عن «تمدد وهمي»

حرض البغدادي في تسجيل نهاية سبتمبر الماضي عناصره بشكل مباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق (أ.ف. ب)
حرض البغدادي في تسجيل نهاية سبتمبر الماضي عناصره بشكل مباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق (أ.ف. ب)
TT

تسجيلات البغدادي... أحاديث متكررة عن العودة

حرض البغدادي في تسجيل نهاية سبتمبر الماضي عناصره بشكل مباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق (أ.ف. ب)
حرض البغدادي في تسجيل نهاية سبتمبر الماضي عناصره بشكل مباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق (أ.ف. ب)

تسجيلان صوتيان لزعيم تنظيم داعش، أبي بكر البغدادي، كشفا عن طبيعة التنظيم التي باتت «خافتة»، كمحاولة أخيرة منه لتفادي خسائر الهزائم، عبر الإعلان عن «تمدد وهمي» في بعض الدول. فما بين التسجيل الأول والثاني (الأخير) 5 أشهر، لم يقم فيها التنظيم بأي حراك يُذكر، كما كان من قبل في عامي 2015 و2016، رغم ما جاء على لسان البغدادي من أن تنظيمه ما يزال قوياً، ويمتلك خيوطاً للتمدد في مناطق جديدة، كمحاولة لجذب عناصر جُدد، ووقف مسلسل هروب مقاتلي التنظيم.
أقوال البغدادي تأتي في وقت انحسر فيه التنظيم وتقهقر في العراق وسوريا، واعتمد عناصره على الهجمات الخاطفة، باستهداف الكمائن في المناطق النائية، دون السيطرة المكانية على أي منطقة، فضلاً عن ضعف العمليات الانتحارية نتيجة لنقص الأموال، وفقاً لمراقبين.
يقول مختصون في الشأن الأصولي بمصر إن «البغدادي سعى في التسجيلات الأخيرة إلى رفع الروح المعنوية لبقايا عناصر التنظيم، بهدف مواجهة سيل الانشقاقات، ومقاومة حملات (نقض البيعة)، التي تكررت بشكل متزايد في الآونة الأخيرة».
وأضاف المختصون لـ«الشرق الأوسط» أن «أحاديث البغدادي عن (استمرار العمليات) في دول أخرى ينم عن فشل التنظيم، ويؤكد حجم الخسائر التي مُني بها التنظيم في سوريا والعراق»، لافتين إلى أن «تسجيلات زعيم (داعش) تلمح إلى تبني استراتيجيات بديلة، بالانتقال إلى مناطق صحراوية، والانطلاق منها لشن (حرب عصابات)، بهدف استنزاف الدول وإضعافها».

جُمل زائفة
ففي أبريل (نيسان) الماضي، نشر «داعش» شريط فيديو وزعته مؤسسة «الفرقان»، مدته 18 دقيقة، ظهر فيه البغدادي، وتوعد بالثأر لقتلى التنظيم وأسراه، وكان هذا هو الظهور الأول له بعد 5 سنوات من الاختفاء. وشدد البغدادي حينها على أن «الله أمرنا بالجهاد، ولم يأمرنا بالنصر... وأن الاعتداءات التي استهدفت سريلانكا في عيد الفصح، وتبناها التنظيم، جاءت (ثأراً) للباغوز».
وواصل البغدادي قوله إن «مقاتلي التنظيم الذي مُني بهزائم عسكرية متتالية على مدى السنتين الماضيتين (سيأخذون بثأرهم)»، على حد زعمه.
وأعلن البغدادي قبوله بيعة جاءته من بوركينا فاسو ومالي، مسمياً تحديداً أبو الوليد الصحراوي، ومشيداً به، وبالهجمات التي يشنها ضد القوات الفرنسية، والقوات المتحالفة معها في منطقة الساحل الأفريقي.
وفي تسجيل آخر نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي، حرض البغدادي عناصره بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق لإنقاذ من عدهم «مقاتلي التنظيم، وعائلاتهم المحتجزين والمحتجزات في السجون والمخيمات». ودعا في التسجيل، الذي لم يظهر فيه بشكله، مثلما حدث في تسجيل أبريل (نيسان)، ومدته 30 دقيقة، وبثته مؤسسة «الفرقان»، الذراع الإعلامية لـ«داعش»، المحتجزات والمحتجزين إلى «الصبر»، على حد قوله. وأكد في موضع آخر أن «عمليات التنظيم مستمرة على قدم وساق في مالي وبلاد الشام».
وقال البغدادي في حديثه إن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، عاداً ذلك «اختباراً من الله»، على حد زعمه. وتحدث البغدادي أيضاً عن خطط تنظيمه اللاحقة، داعياً عناصره إلى «الجهاد»، على حد زعمه، مشيراً إلى ما وصفها بـ«مبايعات جديدة» لـ«خلافته» المزعومة. ودعا أيضاً إلى «استهداف رجال الأمن والمحققين والقضاة الذين يحققون مع عناصر تنظيمه في السجون».

سيل انشقاقات
فيما قال الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي مصر، إن «البغدادي سعى في التسجيلات الأخيرة إلى رفع الروح المعنوية لبقايا عناصر التنظيم، بهدف مواجهة سيل الانشقاقات والهروب من صفوفه، ومقاومة حملات (نقض البيعة) التي تكررت بشكل متزايد في الآونة الأخيرة، لكنه نسي أن تنظيمه فقد الأرض والانتشار الإعلامي، ولم يعد قادراً على عمل شيء يُذكر، بفضل جهود الدول في التصدي له».
وفي مارس (آذار) الماضي، ظهر تنظيم «ولاية سيناء... أنصار بيت المقدس سابقاً»، الموالي لـ«داعش» بمصر، في إصدار مرئي، بعد أشهر طويلة من الاختفاء، عرض فيه عدد من عناصر التنظيم مشاهد إعادة البيعة للبغدادي.
وأكد المراقبون أن «التنظيم يسعى من حلال كلمات البغدادي لمواجهة سيل (نقض البيعة)، وانقلاب كثير من العناصر على منهج وفكر زعيم (داعش)، وانتقال البعض الآخر نحو تنظيم (القاعدة)، فضلاً عن قيام عدد كبير من عناصر التنظيم بتسليم أنفسهم للسلطات المحلية في الدول، والإدلاء بمعلومات حول خطط التنظيم وخلاياه النائمة».
وقال عبد الله محمد، الباحث في شؤون الحركات المتطرفة، إن «أحاديث البغدادي عن (استمرار العمليات) في دول أخرى ينم عن فشل التنظيم، عبر الحديث عن انتصارات و(تمدد وهمي)، ويشير لحجم الخسائر التي مُني بها التنظيم في سوريا والعراق»، مضيفاً: «يتضح من تسجيلات البغدادي إدراكه للخسائر التي تعرض لها تنظيمه منذ عام 2017، وفقدانه القدرة الكاملة على استعادة نشاطه، ومن ثم التفكير في التركيز على شن هجمات في مناطق متنوعة، بعيداً عن محاولات السيطرة على الأرض، فضلاً عن إدراك البغدادي حجم الصراعات والانشقاقات، وتراجع أعداده وأنصاره، وكذلك تراجع قدراته المادية والبشرية، ومن ثم يسعى لبث روح الثبات والصبر في نفس فلوله المتبقية، بالحديث عن انتصارات مستقبلية».

«حرب عصابات»
ومن جهته، قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «هناك ملمحاً مهماً في تسجيلات زعيم (داعش)، وهو تبني استراتيجيات بديلة بالانتقال إلى مناطق صحراوية، والانطلاق منها لشن (حرب عصابات)، بهدف استنزاف الدول وإضعافها، في محاولة لإعادة السيطرة على المدن ثانية، وإقامة (الخلافة) المزعومة»، مضيفاً: «من المؤكد أن استراتيجيات التنظيم الجديدة، بعد خسارته مناطق السيطرة، اتجهت نحو توسيع النفوذ في المناطق (الهشة) أمنياً»، موضحاً أن «(داعش) يمتلك قدرات على التحرك ليلاً بمجموعات صغيرة في بعض المناطق لشن هجمات».
يشار إلى أن هناك تبايناً الآن حول أعداد مقاتلي التنظيم، حيث تم تقدير عددهم في السابق بنحو 30 ألفاً، وهو السقف الأعلى لأعداد التنظيم، لكن غينادي كوزمين، نائب مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، أكد خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي حول قضايا الإرهاب في أغسطس (آب) الماضي أن «العدد العام من عناصر (داعش) وأنصاره في سوريا الآن قرابة 3 آلاف شخص». وترجح تقديرات أخرى عدد عناصر «داعش» الذين ما زالوا يعملون في العراق بين نحو ألف وثلاثة آلاف.
وبالرجوع لتسجيلات سابقة للبغدادي قبل عام 2019، وجد أنها لم تخلو أيضاً من دعوة عناصره للثبات. ففي أغسطس (آب) عام 2018، بثت مواقع تابعة لـ«داعش» تسجيلاً صوتياً، انتقد فيه زعيم «داعش» روسيا والولايات المتحدة، ودعا أنصاره إلى عدم الاستسلام، بعد الهزائم التي تلقاها التنظيم في العراق وسوريا. وقبله في سبتمبر عام 2017، دعا البغدادي في تسجيل صوتي آخر أنصاره إلى «الصبر والثبات» في وجه المتحالفين ضد التنظيم بسوريا والعراق.
وأضاف عبد الله محمد أن «البغدادي يُدرك تماماً فقدان تنظيمه لبوصلة استقطاب عناصر جديدة، ومن ثم لجأ إلى استخدام الحديث المتكرر عن مواجهة أميركا واستنزافها في مناطق مختلفة من دول العالم، وهو خطاب لا يختلف عن خطاب أيمن الظواهري، زعيم تنظيم (القاعدة)، المعتاد. كذلك لجأ البغدادي في أحاديثه إلى محاولة ترشيد الانحرافات الأخلاقية، بكثرة الحديث عن المبادئ والوصايا الأخلاقية والدينية التي دعا أنصاره للالتزام بها لاستعادة نشاطه مرة أخرى».

توسل ويأس
المراقبون قالوا إن «تسجيلات البغدادي تثبت أنه في حالة مُزرية، ولعل هذا ما دفعه إلى تلاوته مفردات الصبر، حيث استعان بنصوص مترادفة عن الصبر والقتال، فيها محاكاة واضحة لحالة التوسل واليأس من أتباعه من جهة، ومحاولة تحريضهم واستنهاضهم لمواصلة القتال من جهة أخرى».
وخسر البغدادي (47 عاماً)، المدرج على رأس قائمة كبار «الإرهابيين» المطلوبين في العالم، دولته «مزعومة» التي أقامها لأكثر من 3 سنوات، حين ظهر وأعلن عن «دولته» المزعومة في الموصل عام 2014، لكنه بات اليوم يختبئ في كهوف الصحراء السورية، حسبما نقلت وكالة «الصحافة الفرنسية» أخيراً، فضلاً عما يتردد من وقت لآخر من شكوك حول بقائه حياً على قيد الحياة.
محللون أكدوا أنه «رغم هزيمة (داعش) عسكرياً في العراق وسوريا، وخسارته جميع مناطق سيطرته، فإن تهديداته لا تزال قائمة في سوريا والعراق، وفي دول أفريقية وآسيوية»، موضحين أنه «رغم أن الحرب على (داعش) خلال السنوات الماضية قد أدت إلى خسارته معظم قيادات الصف الأول والثاني، فإنه شهد انتعاشاً لخلاياه النائمة في العراق».
ونفذ تنظيم داعش في الأسبوع الأخير من سبتمبر (أيلول) الماضي ثلاث عمليات في سوريا، ومثلها في العراق، حيث لا يزال يعاني العراق من خلايا «داعش» النائمة، إذ يهاجم التنظيم المناطق النائية التي تنتشر وسط الصحراء، وزاد نشاطه مرة أخرى في المناطق الحدودية بين سوريا والعراق، وقام بعدة عمليات إرهابية استهدفت مدنيين وقوات أمن، بحسب المحللين.
وأكد خالد الزعفراني أن «(داعش) يفتقر في المرحلة الراهنة إلى ما يؤهله من قدرات، سواء على مستوى العنصر البشري أو على مستوى الآليات، لإعادة السيطرة على مدن ومناطق في العراق أو سوريا، يمكن له خلالها إعادة هيكلة عناصره القتالية، وتوفير ما يلزم من معدات وأسلحة».


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».