ابن رشد وقد تيمه الحب وأضناه الغرام!

جولة على المكتبات الفرنسية

ابن رشد
ابن رشد
TT

ابن رشد وقد تيمه الحب وأضناه الغرام!

ابن رشد
ابن رشد

قمت مؤخراً بجولة على المكتبات الفرنسية، وعدت بمجموعة كتب منعشة، سوف أكتفي بذكر بعضها نظراً لضيق الوقت. الكتاب الأول للكاتب الفرنسي المبدع جيلبير سينويه الذي اكتشفته مؤخراً، ولا أزال غارقاً في كتبه، وهو مسيحي من أصل مصري، من مواليد عام 1947. فقد ولد في بلاد الكنانة وترعرع حتى بلغ التاسعة عشرة. وبعدئذ، هاجر إلى فرنسا، حيث استقر فيها، وأصبح مشهوراً بكتابة الروايات التاريخية، ومعظمها مستلهم من تاريخ مصر والمنطقة العربية. ونذكر من بينها: فتاة النيل، واثنتا عشرة امرأة شرقية غيرن وجه التاريخ، والنسر المصري، إلخ. كما ألف رواية تاريخية بعنوان: ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان. ولا ننسى كتابه الممتع عن باني نهضة مصر الحديثة، وقد صدر بعنوان: «آخر الفراعنة.. محمد علي الكبير»، وهو بحث تاريخي فلسفي سياسي، وليس رواية تاريخية.
والآن، يطلع علينا بكتاب جديد هو: «ابن رشد أو سكرتير الشيطان». فلماذا هذه التسمية السلبية الموضوعة على غلاف كتاب لا ينفك يمدح ابن رشد ويشيد به؟ لسبب بسيط هو أنها ليست من عنده، وإنما من عند الفقهاء المتشددين الذين نددوا بابن رشد ومدرسته، وعدوهم بمثابة «الشياطين المارقين من الدين». ومعلوم أنه تعرض للمحنة أو للاضطهاد في أواخر حياته، واتهم بالكفر لأنه يروج للفلسفة، ولذلك أحرقوا كتبه في الساحة العامة أمام ناظريه لكي يهينوه أكثر. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت الفلسفة مدانة في العالم العربي من قبل المشايخ، لأنها في رأيهم تبعد عن الله والدين. ولكن ابن رشد قال لهم، مراراً وتكراراً، إن الفلسفة لا تتعارض مع الدين أبداً لأن «الحق لا يضاد الحق»، بل وألف كتاباً كاملاً للبرهنة على فكرته، وهو كتاب شهير مترجم إلى الفرنسية ومعظم لغات العالم؛ إنه كتاب: «فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال». والمقصود بالشريعة هنا الدين الإسلامي، وبالحكمة الفلسفة اليونانية، خصوصاً فلسفة أرسطو. الشيء الممتع في كتاب جيلبير سينويه هو أنه مكتوب على لسان ابن رشد شخصياً؛ إنه عبارة عن استعراض لذكرياته أو مذكراته، فهو يتحدث عن ولادته في قرطبة عام 1126، وعن مراحل فلسفته وأفكاره، ويخلط كل ذلك بحياته الشخصية الحميمية، وحتى العاطفية الغرامية. وهي أشياء ما كنا نعرفها عن ابن رشد، إذ كنا نظن أنه مجرد فيلسوف كبير وطبيب ورجل دين كبير أيضاً، وكنا نتوقع أنه شخص حكيم عاقل، وربما متقشف رزين أو رصين أكثر من اللزوم. فإذا بنا نفاجأ به كعاشق من الطراز الأول! من يصدق ذلك؟ نعم، نعم، ابن رشد أكبر فيلسوف عربي وقع في الحب وأضناه الغرام. هل تعتقدون أنه لا يقع في الحب إلا أشخاص سطحيون تافهون متهافتون من أشكالنا؟ إنكم واهمون. وماذا كان اسم المحروسة؟ لبنى. ويمكن أن نقول عنه إنه «مجنون لبنى»، مثلما كان قيس بن الملوح «مجنون ليلى». ورغم أنه تزوج بعدئذ ابنة عمه سارة، وأنجب منها أطفاله، وكان مخلصاً لها طيلة حياته، فإنه اعترف لاحقاً بأن لبنى كانت حبه الأول والأخير. ألم نقل لكم إن الحب شيء والزواج شيء آخر؟
هذا الكتاب ممتع فعلاً لأنه يستعرض لك فلسفة ابن رشد وحياته بطريقة روائية جذابة مثيرة حقاً. وفي الوقت ذاته، يتحدث لك عن آراء العظماء فيه بعد موته، وبالتالي يزيدك متعة على متعة، وفائدة على فائدة. ما رأي القديس توما الأكويني فيه مثلاً؟ ومعلوم أنه أكبر مفكر مسيحي في القرون الوسطى، وقد صالح بين المسيحية والفلسفة اليونانية، مثلما صالح ابن رشد قبله بخمسين سنة بين الإسلام والفلسفة اليونانية ذاتها. لقد كان له قدوة ومثالاً، رغم انتقاداته له. ما رأي زعيم عصر النهضة الإيطالية بترارك به؟ تجدونه في هذا الكتاب. ومعلوم أنه وقع في قصة حب عارمة مع «لورا»، مثلما وقع ابن رشد في قصة حب عارمة وفجائعية مع «لبنى». ما رأي أعظم أديب إيطالي به: قصدت دانتي؟ كل ذلك وأكثر تجدونه في هذا الكتاب الشيق.
والآن، سوف أنتقل إلى كتاب آخر مختلف تماماً؛ إنه يريح القارئ نفسياً لأنه لا يأخذ نفسه على محمل الجد. عنوانه بحد ذاته أكبر دليل على ذلك: «التفاهة شيء جاد ومحترم»، بمعنى آخر: ثناء على التفاهة، لا للجدية الكالحة! ومؤلفه هو أحد أقطاب الجيل الأدبي الجديد في فرنسا: فريدريك بيغبيدي. وهذا الشخص الذي ولد وترعرع في أرقى الضواحي الباريسية، حيث يعيش ساركوزي وجان دورميسون، لا يشكو من شيء: غنى، وثروة، وحياة صاخبة في حي السان جيرمان دوبري في قلب باريس... إلخ. ومع ذلك، فهو كاتب موهوب فعلاً. لا أقول إنه كاتب كبير لأنه لا يعرف معنى العذاب وضيق الحال والاضطهاد... إلخ. إنه ليس بودلير ولا دوستويفسكي، وإنما ينتمي إلى علية القوم في فرنسا. ومع ذلك، فإنه كاتب لا يستهان به. والكتاب عبارة عن جملة من المقالات المتفرقة؛ هناك مقالة تمجد الحق في الكسل والعطالة عن العمل. وفيها يقول الكاتب ما معناه: أحد أكبر أنواع النصب والاحتيال التي مارستها الرأسمالية أنها أقنعت مليارات الأشخاص في العالم بأن العمل هو عبارة عن نعمة وهدية من السماء. وكل ذلك من أجل دفع الناس إلى العمل طيلة النهار بغية استغلالهم والازدهار على عرق جبينهم. ولكننا نعلم أن النعمة الوحيدة هي: الوقت أو الزمن. بمعنى أن العطالة عن العمل تؤمن لنا وقتاً يومياً كافياً للترفيه عن أنفسنا. ولكن السؤال الذي لا يطرحه المؤلف على نفسه هو التالي: أنت تستطيع أن تعيش حياة الكسل يا مسيو فريدريك بيغبيدي، بل وتستطيع أن تعيش مرفهاً دون أن تشتغل ساعة واحدة لأنك غني جداً، ولكن ماذا يفعل الآخرون الذين لا يملكون شيئاً؟ إنهم مضطرون للعمل طيلة النهار لكي يشتروا الخبز والحليب، ويدفعوا أجرة البيت في نهاية الشهر. ومع ذلك، فإن فكرته صحيحة بشكل من الأشكال. فالرأسمالية لعينة، وتعرف كيف تحلب الناس حلباً. ويبدو أن صهر ماركس بول لافارغ ألف قبل أن ينتحر كتاباً كاملاً بعنوان: «الحق في الكسل». ثم يختتم المؤلف مقالته قائلاً: يعيش الكسل! الكسل هو الحرية! نعم، صحيح، ولكن بشرط أن تكون قد ورثت عن عائلتك ثروة طائلة كالروائي الشهير مارسيل بروست أو الكاتب الشهير جان دورميسون... إلخ.
وعلى ذكر هذا الأخير، فإن المؤلف يخصص له فصلاً ممتعاً في الكتاب، بعنوان: «جان دورميسون خرب عطلتي الصيفية»، وكأنه يوبخه قائلاً: لماذا مت في عز الصيف يا جان دورميسون؟ ألا تعرف أن تموت في يوم آخر؟ ألا تعرف بأني على شواطئ البحار أستمتع بالعطلة الصيفية والرمال الذهبية؟ والآن، أنا مضطر لأن أترك الشاطئ والحسناوات وأشعة الشمس، وأعود إلى الغرفة، وأحبس نفسي داخل جدرانها، لكي أكتب مقالة عنك، وأرسلها إلى الجريدة. ثم يستشهد المؤلف بكلمة قالها جان دورميسون لأحد أصدقائه يوماً ما: «أن يموت الإنسان الفقير المعذب فهذه نعمة وراحة وخلاص بالنسبة له، ولكن أن يموت شخص مثلي عاش أجمل حياة وأغنى حياة وأرقى حياة في العالم فهذه كارثة كبرى!». وهذا صحيح. ولذلك نقول: الفقراء المعذبون في الأرض يتفوقون على الأغنياء في نقطة واحدة: لحظة الموت! الفقير لا يخسر شيئاً، ولا يتأسف ولا يتحسر على شيء، لأنه لا يملك شيئاً أصلاً، بل إنه يرتاح من شراء الخبز، ودفع أجرة الغرفة في آخر الشهر؛ هذا إذا كانت عنده غرفة. أما الغني المترف فيتمزق حسرة على القصور والفيلات الراقية والبيوت الصيفية أو الثانوية على الشاطئ اللازوردي... إلخ.
وفي نهاية المطاف، بعد أن انتهت مشترياتي، فاجأوني بتقديم كتابين صغيرين كهدية مجانية. وكم كانت مفاجأة سعيدة بالنسبة لي؟ والمفاجأة الأسعد هي أن أحد الكتابين من تأليف امرأة أعشقها منذ سنوات طويلة، دون أن يعرف أحد، ودون أن تعرف هي بطبيعة الحال. وهذه السيدة هي إعلامية شهيرة، تقدم برنامجاً ناجحاً جداً على التلفزيون الفرنسي (القناة الثانية)، وتدعى صوفي دافان. وقد تركت زوجها مؤخراً، وأصبحت تعشق على كيفها، وتعيش حياتها بكل حرية. ولكن هل هي سعيدة؟ بصراحة، أشك في ذلك. على أي حال، هذا شيء لا يمكن أن يحصل إلا في بلاد الفرنسيين، حيث لم يعد للحريات الفردية حدود ولا سدود. في هذا الكتاب، تروي لنا الغادة الحسناء قصة حياتها ومغامراتها ولقاءاتها ومسيرتها الطويلة التي أوصلتها إلى قمة التلفزيون الفرنسي، وأصبحت إحدى الشخصيات المفضلة والأكثر شعبية في بلاد فيكتور هوغو. وعنوان كتابها: «ما تعلمته عن حالي.. مذكرات امرأة خمسينية».
وهو عنوان فلسفي تقريباً، يذكرنا بعبارة سقراط الشهيرة: اعرف نفسك بنفسك؛ بمعنى أنك لا تعرف نفسك، ولا من أنت، قبل أن تقذف بنفسك في مجهول التجربة ومعمعة الحياة. عندئذ، تعرف ما نواقصك وعيوبك، وما ميزاتك ونقاط القوة في شخصيتك. وهذا ما عبر عنه نيتشه بعبارة مقتضبة مؤلفة من ثلاث كلمات فقط: صِرْ من أنت!



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.