> لم يحصل أن واجه النظام السياسي الحالي في العراق أزمة من الطراز الذي شهده مؤخراً، طوال السنوات الـ16 الماضية. ولقد اضطرت هذه الأزمة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي إلى الخروج إلى الناس عبر التلفزيون لكي يلقي خطابا مرتين في الأسبوع، وكذلك فعل رئيس الجمهورية برهم صالح الذي ظهر في الأسبوع ذاته ملقياً خطاباً شاملاً.
هذا التطور يعبر عن عمق الهوة التي باتت تفصل قطاعات واسعة من الشعب، لا سيما الشباب منهم والطبقة السياسية الحاكمة. إذ لم يحصل أن واجه رؤساء الوزراء السابقون (إياد علاوي وإبراهيم الجعفري ونوري المالكي وحيدر العبادي) بعد 2003، الشعب العراقي بخطاب فيه قدر من التوسل والمصارحة مع أنهم واجهوا ظروفا بدت صعبة، بل ربما أصعب بكثير مما حصل اليوم.
علاوي إبان رئاسته للحكومة واجه أزمة النجف - الفلوجة عام 2004 - التي استدعت تدخلا أميركياً واسع النطاق في مدينتين لكل واحدة منهما رمزية معينة (النجف لها قدسية كبيرة لدى الشيعة لكونها تضم مرقد الإمام علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - والفلوجة التي كان ينظر إليها على أنها مدينة المساجد). أما الجعفري فقد واجه قضية تدمير مرقدي الإمامين العسكريين في سامراء عام 2006. وعلى الرغم من أن ذلك أدى إلى نشوب حرب أهلية لأسباب طائفية، فلا الجعفري ولا علاوي من قبله ظهر مخاطبا الناس لتبرير ما حصل.
الأمر نفسه ينطبق على كل من المالكي والعبادي. إذ واجه كل منهما أزمة «داعش» واحتلالها الموصل، ومن ثم تمددها إلى ثلاث محافظات غربية أخرى من العراق (صلاح الدين والأنبار وأجزاء من ديالى، بل وحتى أجزاء من كركوك) ثم وصلت حتى أبواب بغداد. وصحيح أن المالكي دفع ثمن ذلك عدم التجديد له لولاية ثالثة، لكنه لم يضطر إلى خطاب يطالب فيه الناس منحه فرصة لأنه لا أحد خرج عليه شاهراً جوعه. أما العبادي فقد واجه تمدّد «داعش» ومحاربتها والانتصار عليها بعد ثلاث سنوات من القتال الشرس. والمرة الوحيدة التي ظهر فيها العبادي خطيباً هي عندما أعلن الانتصار على «داعش»، ويومذاك ظهر منتشيا إلى حد كبير، ومتصوراً أن هذا النصر سيجعله يحصد الولاية الثانية بسهولة، وهو ما لم يحصل.
عادل عبد المهدي الأكبر سناً والأقدم خبرة في العمل السياسي بين رؤساء الوزارات، وجد نفسه وحكومته توشك أن تكمل سنتها الأولى، أكثرهم إحراجا أمام الشعب حين حملوه وزر أخطاء متراكمة طوال 16 سنة. ومع أن عبد المهدي يعمل بصعوبة بالغة على خلق موازنة بين صديقين مشتركين له وعدوين لبعضهما، وهما الولايات المتحدة الأميركية وإيران، فإنه في هذه الأزمة وجد نفسه أمام أربعة أطراف تمثل قمة التناقض في تاريخه السياسي.
الأطراف التي يتعين الموازنة بينها هي الولايات المتحدة التي تتهم إيران بأنها هي من يقف خلف هذه الأزمة، وإيران التي تحمل الولايات المتحدة وسفارتها في بغداد مسؤولية الأزمة. ثم هناك القوى السياسية، سواء كانت مؤيدة لعبد المهدي أم معادية له، والشعب الذي يجد أنه لا ناقة له ولا جمل في الصراعات السياسية سوى أنه يدفع ثمنها.
ويبدو الآن أن عبد المهدي قرر أن يصطف إلى جانب الشعب، قدر الإمكان، في محاولة منه للاستفادة من الفرصة التي أتيحت أمام سلفه العبادي عام 2015 ولم يستفد منها على صعيد مكافحة الفساد وإصلاح العملية السياسية بالكامل. ففي ذلك العام اندلعت مظاهرات كبرى في العراق قادها زعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر اجتاحت «المنطقة الخضراء»؛ ما دفع المرجعية الشيعية في النجف إلى حث حيدر العبادي على الضرب بيد من حديد على الفاسدين.
الفرصة أمام عبد المهدي الآن متاحة، وإن بطريقة مختلفة. فمظاهرات 2015 منحت العبادي تفويضاً لم يستفد منه كثيراً، بينما مظاهرات اليوم وضعت عبد المهدي في خانة الإدانة بحيث تنتظر ما يمكن أن يحققه دون تفويض من قبلها. لذلك فإن ما أعلنه مساء الأربعاء الماضي على صعيد ما اتخذه من إجراءات إدارية واسعة النطاق وإصلاحات - بما في ذلك التعديل الوزاري وإكمال الدرجات الخاصة ومجلس الخدمة الاتحادي وغيرها من القرارات التي لم يتخذ مثلها منذ عام 2003 وإلى اليوم - إنما يمثل بارقة أمل من وجهة نظر كثيرين لا يودون عودة الاحتجاجات. مع العلم أن الطبقة السياسية تجد نفسها اليوم لأول مرة أيضا غير معصومة من غضب الشعب بصرف النظر عن أي انتماء أو اسم حزبي أو عرقي أو مذهبي.
إزاء الأزمة الاستثنائية.. خطابان لرئيسي الجمهورية والحكومة خلال أسبوع واحد
إزاء الأزمة الاستثنائية.. خطابان لرئيسي الجمهورية والحكومة خلال أسبوع واحد
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة