لم يعرف غضب الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون حدودا خصوصا بعد فضيحة ووترغيت التي انتهت بخسارته الرئاسة. ولكنه حتى في أوج غضبه الذي عبر عنه بالقول إن «الصحافة هي العدو»، وبحثه عن طرق لفضح صحافيين عن طريق «النبش» في تاريخهم، فإن معارضته وغضبه من الإعلام في عهده لم يصل إلى حد التهديد الفعلي. أما في عصر الرئيس ترمب الذي استعار تعبيرات نيكسون، فإنه تخطى القول بالعمل المضاد للإعلام الذي أطلق عليه أنه «عدو الشعب» أو (Enemy of the People).
وبعدما كان الإعلام ينظر إلى تغطية الأخبار السياسية كمهمة متميزة يعامل المهنيون فيها باحترام كأرقى المهام الصحافية، أصبح الذهاب إلى المؤتمرات الصحافية في البيت الأبيض شبيها بتغطية الحروب، لا ينجو منها إلا القليل من المراسلين. وتحول المعلق السياسي من جهة محايدة تنقل الأخبار إلى هدف مشروع للاتهام. وأصبح أي انتقاد للرئيس أو المسؤولين بمثابة خيانة تستحق التوبيخ والعقاب. وأصبحت المنظومة الإعلامية أداة لا تتجزأ من الصراع بين الديمقراطيين وقاطن البيت الأبيض بعد محاولاتهم المتكررة لقيادته إلى المحاكمة وإدانته بتهمة استغلال منصبه... والأخيرة بتهمة طلب ترمب من الرئيس الأوكراني فولوديمير زلنسكي إجراء تحقيق، بخصوص عائلة جو بايدن المرشح الديمقراطي والمنافس المحتمل له في انتخابات 2020 الرئاسية.
في خضم حرب الرئيس ترمب على الإعلام تطوع مساعدوه لتجميع معلومات عن الصحافيين ودور النشر المعادية لسياساته وكأن هذه الجهات هي الجهات التي تنافس الرئيس على السلطة وليس الأحزاب المعارضة. ولجأ ترمب نفسه إلى «تويتر» لكي يغرد «أن منافسنا الرئيسي ليس الحزب الديمقراطي ولا المجموعة التائهة من الحزب الجمهوري التي تركناها خلفنا، وإنما هو الإعلام الذي يبث الأخبار الكاذبة».
وذكر موقع «أكسيوس» أن مؤيدي الرئيس يشنون حملة لجمع مليوني دولار لاستخدامها في البحث عن فضائح محرري «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست». وتأمل المجموعة في استخدام المعلومات لتسريبها إلى قنوات مؤيدة للرئيس.
وكشف الموقع أن من وراء هذه الحملة هما آرثر شوارتز، المستشار الجمهوري المقرب من الرئيس ترمب وستيف بانون، وهما يأملان في طرد محرري الصحف المناهضة لترمب من وظائفهم. وكلاهما ينفي أنه وراء هذه الحملة.
ولم يؤكد الاستراتيجي في حملة ترمب عام 2016 سام نومبيرغ عما إذا كانت الحملة سوف تقتصر على ما ينشره الصحافيون على مواقع التواصل الاجتماعي أما أنها سوف تطال حياتهم الخاصة وانتماءهم إلى جهات معينة. وأضاف أنه لا يرى أي خلل في البحث في مواقع التواصل الاجتماعي ولكنه لا يعتقد أن الأمر سوف يصل إلى التاريخ الجنائي أو الملاءة الائتمانية للصحافيين الذين يتم التحري عنهم.
وهو يشير إلى موقع إخباري اسمه «بريتبارت» نشر تغريدات مضادة للسامية وأخرى عنصرية بثها المحرر السياسي توم رايت في «نيويورك تايمز» منذ عشر سنوات. ونشر شوارتز العنوان الإلكتروني لهذه التغريدات، ثم أعاد تغريدها الرئيس ترمب لمتابعيه البالغ عددهم 3.8 مليون شخص. واضطر المحرر رايت إلى الاعتذار ومسح التغريدات. ولكن شوارتز هدد صحيفة «نيويورك تايمز» بتغريدة أخرى قال فيها: «إذا كانت (نيويورك تايمز) تعتبر أن هذه هي نهاية المطاف فسوف نكشف عن بعض المتطرفين الآخرين الذين يعملون فيها، فهناك الكثير الذي لم يتم الكشف عنه بعد».
ورغم أن بعض شهرة ترمب تعود إلى الإعلام منذ تغطية أخباره في صحف نيويورك التابلويد واستضافته لبرنامج «المتدرب» تلفزيونيا، فإنه ما إن وصل إلى الرئاسة حتى تحول ضد الإعلام بتعبيرات حادة مثل «الأخبار الكاذبة» و«عدو الشعب». ومع اقتراب انتخابات عام 2020 الرئاسية في أميركا يزيد ترمب من حدة حملته على الإعلام الأمر الذي أزعج المعلقين السياسيين والمدافعين عن حرية التعبير.
وشرح كيرت بارديلا المتحدث السابق عن النواب الجمهوريين في الكونغرس الأميركي الوضع بالقول إن الرئيس يستخدم أسلوب التشكيك فيما ينشره الصحافي السياسي حتى لا يصدق الناس الحقائق التي ينشرها الصحافي. ولكن إذا وصل الأمر إلى كشف أمور من الحياة الشخصية للصحافي فهذا لا يجوز لأن ذلك ليس له علاقة بعمله الصحافي.
وتقول سوزان نوسيل رئيسة جمعية «بن» الأميركية لحرية التعبير أن هناك اعترافا بأن للإعلام دورا يلعبه، وأنه يجب أن يلعب هذا الدور بلا خوف أو محاباة وفي استقلال تام. ولكن ما يتعرض له الصحافيون السياسيون حاليا هو شيء مكروه وهو نوع من التنمر ضدهم يكاد يعدم شخصياتهم. وأضافت أن هذا لا يجب أن يحدث لأن الرأي العام يعتمد على الصحافة في محاسبة السياسيين وتغطية الأحداث.
وبالطبع إذا شعر الصحافي بأن حياته الشخصية أو تاريخه القديم سوف يتم الكشف عنه بغرض تهديده وإنهاء حياته العملية، فلا أحد يمكنه تحمل مثل هذه الضغوط المهنية، وفقا لما تقوله سوزان نوسيل، التي تضيف أن ما يجعل الأمر خطيرا أن هذه التهديدات تأتي من رجال الإدارة السياسية للبلاد.
ويبدو أن ترمب وإدارته يستعيرون بعض أساليب ريتشارد نيكسون الذي حاول التلاعب في منح التراخيص الفيدرالية من أجل فرض ضغوط على محطات التلفزيون. ويقول المؤلف لكتاب عن حياة نيكسون، جون فاريل إن أسلوب ترمب يكاد يطابق أسلوب نيكسون حتى في عبارة أن «الإعلام هو العدو». ولكن نيكسون لم يصل إلى حد تطبيق ما يقوله، بعكس ترمب.
الإعلام «المشحون» يرد
منذ أول أسبوع في التغطية الإعلامية لإجراءات محاكمة ترمب، توقع «الإعلام العدو» أن «الإعلام الصديق» سيخدم ترمب كثيرا. وربما يمكن أن يقلب كل شيء رأسا على عقب، بمساعدة أنصار ترمب.
قالت صحيفة «نيويورك تايمز»: «يعتبر عالم الإعلام المحافظ ترمب شخصية شعبية لا تقبل المنافسة. لكن، الحقيقة هي أن تأييد الشعب الأميركي له في استطلاعات مركز غالوب لم تتجاوز أبدا 46 في المائة. وهو أول رئيس في استطلاعات غالوب لم يصل تأييده مطلقاً إلى 50 في المائة». وأشارت الصحيفة إلى استطلاعات داخلية أجرتها قيادة الحزب الجمهوري، أوضحت خسارة كبيرة أمام نائب الرئيس السابق جوزيف بايدن. (وصف ترمب هذه الأرقام «باستطلاعات وهمية»).
لكن، حسب الصحيفة «يعيش أنصار ترمب في عالم خاص بناه هو لهم، ويعيش هو معهم فيه. إنه عالم: الأصدقاء والأعداء. عالم: أنت معنا، أو ضدنا. هذا عالم تهيجه عواطف ضد أعداء وهميين، هم، لسوء الحظ، مواطنون أميركيون مخلصون يختلفون معه في الرأي. وهم، لسوء الحظ، مهاجرون أجانب جاءوا إلى وطننا، وهم، لسوء الحظ، مواطنو دول أخرى لا يعادوننا...».
وأشارت الصحيفة إلى أنه، من بين قادة هذه «الحرب العاطفية الهمجية»، المذيع مايكل سافدج، الذي يستمع إليه عشرات الملايين من الناس.
مثل صحيفة «نيويورك تايمز»، تنبأت «سي إن إن» تنبؤات بأن «الإعلام الحليف» و«الأقلية الهائجة» سيشنان حملات شعواء دفاعا عن ترمب. وأشارت القناة التلفزيونية إلى أن عملاق الإذاعات، راش ليمبو: «شخصية يمينية شعبية يُنظر إليه، على نطاق واسع، بأنه ملك اليمين المتوج، إذا لم يكن ملك الحزب الجمهوري المتوج».
في الأسبوع الماضي، قال ليمبو لمستمعيه: «خلاصة القول، لا يوجد شيء جديد حقا هنا. هذه هي (الحرب العالمية الثالثة) ضد ترمب: كانت الأولى في الانتخابات الرئاسية. وكانت الثانية في اتهامات التعاون مع الروس لكسب الانتخابات. وها هي الثالثة عن اتصالات رسمية مع رئيس أوكرانيا».
وأضاف ليمبو «انتصرنا في الأولى والثانية، وسننتصر في الثالثة».
وعلق كاتب رأي في موقع تلفزيون «سي إن إن»: «رغم أن هذه دعاوى مضللة بشكل غير عادي، فإنها تمثل، إلى حد كبير، الطريقة التي بدأت تتفاعل بها وسائل الإعلام اليمينية مع الفضيحة العميقة التي يقف ترمب في قلبها».
بدوره، يعتبر هوارد كيرتز صحافي الإعلام الأول في الولايات المتحدة. لأكثر من عشرة سنوات، كان مسؤول الإعلام في صحيفة «واشنطن بوست». وأصدر عددا من الكتب عن الإعلام الأميركي. ويقدم الآن برامج تلفزيونية، ويدير مواقع إعلامية في الإنترنت.
قال: «يمكن اعتبار خطة عزل الرئيس ترمب خطة نخبوية تنقل سلطة اختيار، وعدم اختيار، رئيس الجمهورية من السلطة الحقيقية، من الناخبين الأميركيين، إلى هذه النخبة. لهذا، يمكن القول إن هذه الاستراتيجية محفوفة بالمخاطر بالنسبة للديمقراطيين، وبالنسبة للإعلاميين الذين ينحازون إلى جانبها».
وأضاف «بدلاً من ثقة معارضي ترمب بأنهم قادرون على الفوز عليه في صناديق الاقتراع، بعد أكثر من عام بقليل من الآن، يريد الديمقراطيون في مجلس النواب، وحلفاؤهم في الإعلام، تسليم هذا القرار إلى 100 شخص (أعضاء مجلس الشيوخ، إذا أدان مجلس النواب ترمب)».
وقال: «من المثير للاهتمام أنه سواء كان هناك ما يبرر الإقالة أم لا، يوجد عدد قليل جداً من الأصوات في وسائل الإعلام تتساءل عن جدوى استراتيجية الديمقراطيين».
هكذا، لاحظ كيرتز، وهو الصحافي الليبرالي الكبير، أن العاطفة تغلبت على العقلانية وسط الديمقراطيين، وأن هذا مفهوم، لأن السياسة أعداء وأصدقاء، وهزائم وانتصارات. لكن، يبدو أن الصحافيين، الذين يراهم أكثر عقلانية، أيضا حملتهم العاطفة، غضبا على هجمات وإساءات ترمب لهم لأكثر من ثلاثة أعوام. كيرتز يلاحظ، ولا ينتقد. يريد نزاهة الصحافيين، لكنه يفهم غضبهم على ترمب.
محاكمة نيكسون والإعلام
> نشر الرئيس ريتشارد نيكسون مظالم مماثلة لمظالم ترمب، وتحدث عن «نحن وهم» خلال تحقيقات فضيحة ووترغيت. وألقى باللوم على وسائل الإعلام الأميركية. وقال إنها «تكرهني في شغف».
نيكسون، طبعا، لم يتمتع بتأييد وسائل الإعلام مثل التي يتمتع ترمب بتأييد بعضها. لكن، أجبرت فضيحة ووترغيت نيكسون ليستقيل بعد أن تأكد له أن كثيرا من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين سيصوتون لإدانته. لكن، في البداية، ورغم جهود الصحافيين، بوب وودورد، وكارل بيرنشتاين، في صحيفة «واشنطن بوست»، لم يهتم الإعلام (ولا الأميركيون) كثيرا بما فعل نيكسون. اعتبروه يمارس ما يمارس السياسيون عندما تجسس على رئاسة الحزب الديمقراطي في مبنى ووترغيت في واشنطن العاصمة.
لكن، عندما كشفت صحيفة «واشنطن بوست» أن نيكسون خطط لإخفاء ما عمل، وعندما بدأ حملة انتقام ضد الصحافيين والمسؤولين الذين شك في ولائهم، زاد الاهتمام الإعلامي (والشعبي). وصفت مجلة «تايم» حينها نيكسون بأنه يعاني من «جحيم يومي وثقة قليلة جدا بنفسه».
في الحقيقة، كان انعدام الثقة بين الإعلام ونيكسون متبادلاً، وأكبر من المعتاد، وذلك بسبب عدم الرضا الإعلامي والشعبي المستمر عن التدخل العسكري الأميركي في فيتنام. أضف إلى ذلك أن نيكسون ناقش استخدام مكتب التحقيق الفيدرالي (إف بي آي) للحصول على معلومات سلبية عن (أو الانتقام من) الذين اعتبرهم أعداء له. لم يصف نيكسون الإعلام بأنه «عدو الشعب»، ولا أنه «إعلام كاذب»، لكن، رغم ذلك، وقف الإعلام إلى جانب حكم القانون، حتى ضد رئيس الجمهورية. هل سيكرر التاريخ نفسه؟